موسوعة الأخلاق والسلوك

أ- نماذِجُ من الوَقارِ والرَّزانةِ عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم


كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم معروفًا بوُفورِ عَقلِه، ووَقارِه ورزانتِه، وعظيمِ حِكمتِه، وحُسنِ نَظَرِه في الأمورِ، يراعي حالَ مَن يخاطِبُه، ويتريَّثُ في أحكامِه، فلا تصدُرُ أقوالُه وأفعالُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا عن حِكمةٍ وتبَصُّرٍ ورزانةٍ.
عن أبي عبدِ اللهِ الجَدَليِّ يقولُ: ((سألتُ عائشةَ عن خُلُقِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالت: لم يكُنْ فاحِشًا ولا متفَحِّشًا، ولا صخَّابًا في الأسواقِ، ولا يجزي بالسَّيِّئةِ السَّيِّئةَ، ولكِنْ يعفو ويَصفَحُ)) [9789] أخرجه الترمذي (2016) واللفظ له، وأحمد (25417). صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (6443)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2016)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1572). .
(«لم يكُنْ فاحِشًا»، أي: ذا فُحشٍ في أقوالِه وأفعالِه، «ولا مُتفَحِّشًا»، أي: متكَلِّفًا فيه ومتعمِّدًا) [9790] ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (6/157). .
 (ولا صخَّابًا) (أي: لا يرفَعُ صوتَه على النَّاسِ لسُوءِ خُلُقِه، ولا يُكثِرُ الصِّياحَ عليهم «في الأسواقِ»، بل يُلينُ جانِبَه لهم ويَرفُقُ بهم) [9791] ((إرشاد الساري)) للقسطلَّاني (4/52). .
رزانةُ سَمتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
فقد وصَفَه جابِرُ بنُ سَمُرةَ رَضِيَ الله عنه، فقال: (كان طويلَ الصَّمتِ، قليلَ الضَّحِكِ) [9792] أخرجه مطوَّلًا أحمد (20810)، والبيهقي (13721) واللفظ لهما، والطبراني (2/243) (2017) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه ابنُ تَيميَّةَ في ((الجواب الصحيح)) (5/474)، وحسَّنه ابنُ حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/300)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (4822)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (34/ 406). .
قال المُناويُّ: (لأنَّ كثرةَ السُّكوتِ من أقوى أسبابِ التَّوقيرِ، وهو من الحِكمةِ، وداعيةُ السَّلامةِ من اللَّفظِ؛ ولهذا قيل: من قَلَّ كَلامُه قَلَّ لَغَطُه، وهو أجمَعُ للفِكرِ) [9793] ((فيض القدير)) (5/172). .
رزانتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتأنِّيه إذا تكَلَّمَ:
عن عائِشةَ رَضِيَ الله عنها ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يحدِّثُ حديثًا لو عدَّه العادُّ لأحصاه)) [9794] أخرجه البخاري (3567) واللفظ له، ومسلم (2493). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (أي: لو عَدَّ كَلِماتِه أو مُفرداتِه أو حُروفَه، لأطاقَ ذلك وبَلَغ آخِرَها، والمرادُ بذلك المبالغةُ في التَّرتيلِ والتَّفهيمِ) [9795] ((فتح الباري)) (6/ 578). .
وعن عائشةَ رَضِيَ الله عنها قالت: (إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يكُنْ يَسرُدُ الحديثَ كسَرْدِكم) [9796] أخرجه البخاري (3568)، ومسلم (2493). .
قال القَسْطَلَّانيُّ: (أي: لم يكُنْ يتابِعُ الحديثَ بحديثٍ استِعجالًا، بل كان يتكَلَّمُ بكلامٍ واضِحٍ مفهومٍ، على سبيلِ التَّأني؛ خوفَ التِباسِه على المستَمِعِ، وكان يعيدُ الكَلِمةَ ثلاثًا؛ لتُفهَمَ عنه) [9797] ((إرشاد الساري)) (6/34). .
وَقارُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ورزانتُه في مِشيتِه والتِفاتِه:
عن عليٍّ رَضِيَ الله عنه قال: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ضَخْمَ الرَّأسِ، عظيمَ العينَينِ، إذا مشى تكَفَّأَ، كأنَّما يمشي في صَعَدٍ، إذا التَفَت التَفَت جميعًا)) [9798] أخرجه أحمد (684)، والبزار (660)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (1315) واللفظ له. حسَّنه الألبانيُّ في ((صحيح الأدب المفرد)) (988)، وحسَّن إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (684). والحديثُ رُوِيَ بلفظٍ مُقارِبٍ؛ عن عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (لم يكُنْ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالطَّويلِ ولا بالقَصيرِ، شَثْنَ الكفَّينِ والقَدَمينِ، ضَخمَ الرَّأسِ، ضَخمَ الكراديسِ، طويلَ المَسرُبةِ، إذا مشى تكفَّأَ تكَفُّؤًا كأنَّما انحَطَّ من صَبَبٍ، لم أرَ قَبْلَه ولا بَعْدَه مِثْلَه). أخرجه الترمذي (3637) واللفظ له، وأحمد (746). صحَّحه الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3637)، وحسَّنه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (746)، وصحَّح إسنادَه الحاكمُ في ((المستدرك)) (4194). .
قال البيضاويُّ: (يريدُ أنَّه كان يمشي مَشيًا قويًّا يرفَعُ رِجلَيه من الأرضِ رَفعًا بائِنًا، لا كمَن يمشي اختيالًا) [9799] ((تحفة الأبرار)) (2/ 467). .
(«وإذا التَفَت التَفَت جميعًا»، أي: شيئًا واحدًا، فلا يُسارِقُ النَّظَرَ، ولا يلوي عُنُقَه كالطَّائِشِ الخفيفِ، بل يُقبِلُ ويُدبِرُ جميعًا) [9800] ((التيسير)) للمناوي (2/ 232). .
رزانتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في معالجةِ الأخطاءِ:
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: ((قام أعرابيٌّ فبال في المسجِدِ، فتناوَلَه النَّاسُ، فقال لهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: دَعُوه وهَرِيقوا على بَولِه سَجلًا من ماءٍ، أو ذَنوبًا من ماءٍ؛ فإنَّما بُعِثتُم مُيَسِّرين، ولم تُبعَثوا مُعَسِّرين)) [9801] أخرجه البخاري (220). .
قال العَينيُّ: («دعوه» أي: اترُكوه، إنَّما قال ذلك لمصلحتَينِ، وهي: أنَّه لو قَطَع عليه بولَه لتضَرَّرَ، وأنَّ التَّنجُّسَ قد حصَل في جزءٍ يسيرٍ، فلو أقاموه في أثنائِه لتنَجَّسَتْ ثيابُه وبدنُه، ومواضِعُ كثيرةٌ من المسجِدِ) [9802] ((عمدة القاري)) (22/169). .
رزانتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بحِرصِه على التَّثبُّتِ إذا بلغَه شيءٌ عن أحَدٍ:
 عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ الله عنهما قال: ((خَلَت البقاعُ حولَ المسجِدِ، فأراد بنو سَلِمةَ أن ينتَقِلوا إلى قُربِ المسجِدِ، فبلغ ذلك رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال لهم: إنَّه بلَغَني أنَّكم تريدون أن تنتَقِلوا قُربَ المسجِدِ، قالوا: نعم، يا رسولَ اللهِ، قد أرَدْنا ذلك، فقال: يا بني سَلِمةَ، ديارَكم تُكتَبْ آثارُكم، ديارَكم تُكتَبْ آثارُكم)) [9803] أخرجه مسلم (665). .
يقولُ ابنُ عُثَيمين: (فيؤخَذُ منه أنَّه ينبغي للإنسانِ إذا نُقِل له شيءٌ عن أحَدٍ أن يتثبَّتَ قبلَ أن يحكُمَ بمقتضى الشَّيءِ الذي نُقِل له، حتَّى يكونَ إنسانًا رزينًا ثقيلًا معتَبَرًا، أمَّا كونُه يُصَدِّقُ بكُلِّ ما نُقِل فإنَّه يفوتُه بذلك الشَّيءُ الكثيرُ، ويحصُلُ له ضَرَرٌ، بل الإنسانُ ينبغي عليه أن يتثَبَّتَ) [9804] ((شرح رياض الصالحين)) (2/198). .

انظر أيضا: