موسوعة الأخلاق والسلوك

رابعًا: أقسامُ الوَرَعِ


قال ابنُ تَيميَّةَ: (فأمَّا الوَرَعُ المشروعُ المُستحَبُّ، الذي بعث اللهُ به محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فهو: اتِّقاءُ ما يُخافُ أن يكونَ سَببًا للذِّمِّ والعذابِ عِندَ عَدَمِ المعارِضِ الرَّاجِحِ [9458] قال ابنُ تَيميَّةَ: (وقولي (عندَ عَدَمِ المعارِضِ الرَّاجِحِ) فإنَّه قد لا يُترَكُ الحرامُ البيِّنُ أو المشتَبِهُ إلَّا عِندَ تركِ ما هو حسنةٌ موقِعُها في الشَّريعةِ أعظَمُ مِن تركِ تلك السَّيِّئةِ، مِثلُ مَن يترُكُ الائتمامَ بالإمامِ الفاسِقِ؛ فيترُكُ الجمُعةَ والجماعةَ والحجَّ والغَزْوَ، وكذلك قد لا يؤدِّي الواجِبَ البَيِّنَ أو المشتَبِهَ إلَّا بفعلِ سَيِّئةٍ أعظَمَ إثمًا من تركِه، مثلُ من لا يمكِنُه أداءُ الواجباتِ من الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ لذوي السُّلطانِ، إلَّا بقتالٍ فيه من الفسادِ أعظَمُ من فسادِ ظُلمِه). ((مجموع الفتاوى)) (20/137). ، ويدخُلُ في ذلك أداءُ الواجباتِ والمشتَبِهاتِ التي تُشبِهُ الواجِبَ، وتَركُ المحرَّماتِ والمُشتَبِهاتِ التي تُشبِهُ الحرامَ، وإن أدخَلْتَ فيها المكروهاتِ قلتَ: نخافُ أن يكونَ سَببًا للنَّقصِ والعذابِ) [9459] ((مجموع الفتاوى)) (20/138، 139). .
1- الوَرَعُ الواجِبُ:
(وأمَّا الوَرَعُ الواجِبُ: فهو اتِّقاءُ ما يكونُ سَببًا للذَّمِّ والعذابِ، وهو فِعلُ الواجبِ وتَركُ المحرَّمِ) [9460] ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيميَّةَ (20/137). .
2- الوَرَعُ الفاسِدُ:
قال ابنُ تَيميَّةَ: (كثيرٌ من النَّاسِ تَنفِرُ نفسُه عن أشياءَ لعادةٍ ونحوِها، فيكونُ ذلك ممَّا يقوِّي تحريمَها واشتباهَها عنده، ويكونُ بعضُهم في أوهامٍ وظنونٍ كاذبةٍ، فتكونُ تلك الظُّنونُ مبناها على الوَرَعِ الفاسِدِ، فيكونُ صاحبُه ممَّن قال اللهُ تعالى فيه: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ [النجم: 23] ، وهذه حالُ أهلِ الوَسوَسةِ في النَّجاساتِ؛ فإنَّهم من أهلِ الوَرَعِ الفاسِدِ المركَّبِ من نوعِ دينٍ، وضَعفِ عَقلٍ وعِلمٍ، وكذلك وَرَعُ قومٍ يَعُدُّون غالِبَ أموالِ النَّاسِ محرَّمةً أو مُشتَبِهةً أو كُلَّها، وآل الأمرُ ببعضِهم إلى إحلالِها لذي سُلطانٍ؛ لأنَّه مستَحِقٌّ لها، وإلى أنَّه لا يُقطَعُ بها يَدُ السَّارِقِ، ولا يُحكَمُ فيها بالأموالِ المغصوبةِ! وقد أنكَر حالَ هؤلاء الأئمَّةُ كأحمَدَ بنِ حنبلٍ وغيرِه، وذَمَّ المتنَطِّعين في الوَرَعِ. وقد روى مُسلِمٌ في صحيحِه عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((هلك المتنَطِّعون. قالها ثلاثًا)) [9461] رواه مسلم (2670). .
وورَعُ أهلِ البِدَعِ كثيرٌ منه من هذا البابِ، بل ورعُ اليهودِ والنَّصارى والكُفَّارِ عن واجباتِ دينِ الإسلامِ من هذا البابِ، وكذلك ما ذمَّه اللهُ تعالى في القرآنِ مِن وَرَعِهم عما حرَّموه ولم يحَرِّمْه اللهُ تعالى، كالبَحيرةِ والسَّائبةِ والوَصيلةِ والحامِ. ومن هذا البابِ الوَرَعُ الذي ذمَّه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحديثِ الذي في الصَّحيحِ، لَمَّا ترخَّص في أشياءَ فبلغه أنَّ أقوامًا تنزَّهوا عنها فقال: ((ما بالُ رجالٍ يتنزَّهون عن أشياءَ أترخَّصُ فيها؟! واللهِ إني لأرجو أن أكونَ أعلَمَهم باللهِ وأخشاهم. وفي روايةٍ: أخشاهم وأعلَمَهم بحدودِه له)) [9462] رواه البخاري (6101) عن مَسروقٍ قالت عائشةُ: صنع النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شيئًا فرَخَّص: فيه، فتنزَّه عنه قومٌ، فبلغ ذلك النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فخطب فحَمِدَ اللهَ، ثمَّ قال: ((ما بالُ أقوامٍ يتنَزَّهون عن الشَّيءِ أصنعُه؟! فواللهِ إني لأعلمُهم باللهِ وأشَدُّهم له خشيةً)). ورواه مسلم (2356) عن عائشةَ قالت: صنع رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمرًا فترخَّصَ فيه، فبلغ ذلك ناسًا من أصحابِه، فكأنهم كرِهوه وتنزَّهوا عنه. فبلغَه ذلك، فقام خطيبًا فقال: ((ما بالُ رجالٍ بلغَهم عني أمرٌ ترخَّصتُ فيه، فكَرِهوه وتنزَّهوا عنه؟! فواللهِ لأنا أعلَمُهم باللهِ وأشَدُّهم له خشيةً)). . ولهذا يحتاجُ المتدَيِّنُ المتوَرِّعُ إلى علمٍ كثيرٍ بالكتابِ والسُّنَّةِ والفِقهِ في الدِّينِ، وإلَّا فقد يُفسِدُ توَرُّعُه الفاسِدُ أكثَرَ ممَّا يُصلِحُه، كما فعَله الكُفَّارُ وأهلُ البِدَعِ من الخوارجِ والرَّوافضِ وغيرِهم. الثَّالثةُ: جهةُ المعارِضِ الرَّاجحِ. هذا أصعَبُ من الذي قبلَه؛ فإنَّ الشَّيءَ قد يكونُ جِهةُ فَسادِه يقتضي تركَه، فيَلحَظُه المتورِّعُ، ولا يلحَظُ ما يعارِضُه من الصَّلاح الرَّاجِحِ، وبالعَكسِ، فهذا هذا. وقد تبيَّن أنَّ من جعَل الوَرَعَ التَّركَ فقط، وأدخل في هذا الوَرَعِ أفعالَ قومٍ ذوي مقاصِدَ صالحةٍ بلا بصيرةٍ من دينِهم، وأعرَض عما فوَّتوه بورَعِهم من الحَسَناتِ الرَّاجِحةِ، فإنَّ الذي فاته من دينِ الإسلامِ أعظَمُ ممَّا أدركه؛ فإنَّه قد يعيبُ أقوامًا هم إلى النَّجاةِ والسَّعادةِ أقرَبُ) [9463] ((مجموع الفتاوى)) (20/140-142) بتصرفٍ يسيرٍ. .
3- الوَرَعُ المندوبُ: وهو الوقوفُ عن الشُّبُهاتِ [9464] يُنظَر: ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص: 323). .
4- الوَرَعُ الذي هو فضيلةٌ: وهو الكَفُّ عن كثيرٍ من المباحاتِ، والاقتصارُ على أقَلِّ الضَّروراتِ، وذلك للنَّبيِّين، والصِّدِّيقين، والشُّهَداءِ، والصَّالحين [9465] يُنظَر: ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص: 323). .

انظر أيضا: