موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- نَماذِجُ مِن قوَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحَقِّ


1- ثَباتُ الرَّسولِ وقوَّتُه في الحَقِّ مَعَ قُرَيشٍ في مَكَّةَ، فقد آذَوه ووصَفوه بأنَّه ساحِرٌ وكاذِبٌ وكاهِنٌ، ولَكِنَّه كان قَويًّا في الحَقِّ الذي هو عليه، وكان قَويًّا في أداءِ رِسالَتِه؛ فقد طَلَبَ مِنه المُشرِكونَ أن يأتيَهم بالقُرآنِ الكريمِ دَفعةً واحِدةً، كما حَكى عنهمُ القُرآنُ في قَولِه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا [الفرقان: 32] ، وطَلَبوا مِنه طَلَباتٍ تَعجيزيَّةً ولكِنَّه كان قَويًّا في الحَقِّ وثَبَتَ على مَبدَئِه وأعلَنَ لهم في قوَّةٍ أنَّه بَشَرٌ رَسولٌ، وأنَّه ثابتٌ على هذا الحَقِّ وهذا المَفهومِ، ولن يُزَحزِحَه عنه تَعجيزُهم [7830] يُنظَر: ((جامع البيان)) للطبري (15/78)، ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (5/120)، ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 467). ، وقد أثبت ذلك كُلَّه القرآنُ الكريمُ في قَولِه تعالى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 90 - 93] .
2- عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: (قال أبو جَهلٍ والملأُ من قُرَيشٍ لقد انتشَر علينا أمرُ مُحَمَّدٍ، فلو التَمَستُم رَجُلًا عالمًا بالسِّحرِ والكِهانةِ والشِّعرِ فكلَّمَه ثُمَّ أتانا ببَيانٍ مِن أمرِه، فقال عُتبةُ: لقد سَمِعتُ بقَولِ السَّحَرةِ والكِهانةِ والشِّعرِ، وعَلِمتُ مِن ذلك عِلمًا، وما يخفى عليَّ إن كان كذلك، فأتاه فلما أتاه قال له عُتبةُ: يا مُحَمَّدُ، أنتَ خَيرٌ أم هاشِمٌ؟ أنتَ خَيرٌ أم عَبدُ المُطَّلِبِ؟ أنتَ خَيرٌ أم عَبدُ اللَّهِ؟ فلم يُجِبْه، قال: فيمَ تَشتُمُ آلهَتَنا، وتُضَلِّلُ آباءَنا، فإن كُنتَ إنَّما بك الرِّئاسةُ عَقَدْنا ألويتَنا لك، فكُنتَ رَأسَنا ما بَقِيتَ، وإن كان بك الباءةُ زَوَّجْناك عَشْرَ نِسوةٍ تَختارُ مِن أيِّ أبياتِ قُرَيشٍ شِئتَ، وإن كان بك المالُ جَمَعْنا لَك مِن أموالِنا ما تَستَغني بها أنتَ وعَقِبُك مِن بَعدِك، ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ساكِتٌ لا يتَكلَّمُ! فلَمَّا فرَغَ قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ. حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فقرأ حتى بلَغَ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 13] ...») [7831] أخرجه البيهقي في ((دلائل النبوة)) (2/202) واللفظ له، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (38/242)، حسَّن إسناده الألباني في ((فقه السيرة)) (107). .
3- عن يحيى بنِ عُروةَ، عن أبيه، عن عَبدِ اللَّهِ بنِ عَمرِو رَضِيَ اللَّهُ عنهما، قال: قُلتُ: (ما أكثَرَ ما رَأيتَ قُرَيشًا أصابَت مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيما كانت تُظهِرُ مِن عَداوتِه؟ قال: قد حَضَرتُهم وقدِ اجتَمَعَ أشرافُهم في الحِجرِ، فذَكروا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالوا: ما رَأينا مِثلَ ما صَبَرْنا عليه مِن هذا الرَّجُلِ قَطُّ؛ سَفَّهَ أحلامَنا، وشَتَمَ آباءَنا، وعابَ دينَنا، وفَرَّق جَماعَتَنا، وسَبَّ آلهَتَنا، لقد صَبَرْنا مِنه على أمرٍ عَظيمٍ، أو كما قالوا، فبَينا هم في ذلك إذ طَلَعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأقبَلَ يمشي حتَّى استَلَمَ الرُّكنَ، فمَرَّ بهم طائِفًا بالبَيتِ، فلما أن مرَّ بهم غَمَزوه ببَعضِ القَولِ، قال: وعَرَفتُ ذلك في وَجهِه، ثُمَّ مَضى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلَمَّا مَرَّ بهمُ الثَّانيةَ غَمَزوه بمِثلِها، فعَرَفتُ ذلك في وَجهِه، ثُمَّ مَضى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فمَرَّ بهمُ الثَّالثةَ، غَمَزوه بمِثلِها، ثُمَّ قال: أتسمَعونَ يا مَعشَرَ قُرَيشٍ، أمَا والذي نَفسُ مُحَمَّدٍ بيدِه، لقد جِئتُكم بالذَّبحِ! قال: فأخَذَتِ القَومَ كَلِمَتُه حتَّى ما مِنهم رَجُلٌ إلَّا لَكأنَّما على رَأسِه طائِرٌ واقِعٌ، حتَّى إنَّ أشَدَّهم فيه وطأةً قَبلَ ذلك يتَوقَّاه بأحسَنِ ما يُجيبُ مِنَ القَولِ! حتَّى إنَّه ليقولُ: انصَرِفْ يا أبا القاسِمِ، انصَرِفْ راشِدًا، فواللَّهِ ما كُنتَ جَهولًا! فانصَرَف رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى إذا كان مِنَ الغَدِ اجتَمَعوا في الحِجرِ وأنا مَعَهم، فقال بَعضُهم لبَعضٍ: ذَكرتُم ما بَلَغَ مِنكم، وما بَلَغَكم عنه، حتَّى إذا بادَأكم بما تَكرَهونَ تَرَكتُموه، وبَينا هم في ذلك إذ طَلَعَ عليهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فوثَبوا إليه وَثبةَ رَجُلٍ واحِدٍ وأحاطوا به، يقولونَ له: أنتَ الذي تَقولُ كذا وكذا؟! -لِما كان يبلُغُهم عنه مِن عَيبِ آلهَتِهم ودينِهم- قال: نَعَم، أنا الذي أقولُ ذلك، قال: فلقد رَأيتُ رَجُلًا منهم أخَذَ بمَجمَعِ رِدائِه، وقال: وقامَ أبو بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عنه دونَه يقولُ، وهو يبكي: أتَقتُلونَ رَجُلًا أن يقولَ رَبِّيَ اللَّهُ؟ ثُمَّ انصَرَفوا عنه، فإنَّ ذلك لأشَدُّ ما رَأيتُ قُرَيشًا بَلَغَت مِنه قَطُّ) [7832] أخرجه البخاري معلَّقًا بصيغة الجزم بعد حديث (3856) دون ذكرِ لفظِه، وأخرجه موصولًا أحمد (7036)، وابن حبان (6567) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه ابن حبان، وحسَّنه الألباني في ((صحيح الموارد)) (1404)، وصحَّح إسناده أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (11/203)، وحسنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (7036). !
- عن عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: ((لقد رَأيتُنا يومَ بَدرٍ ونَحنُ نَلوذُ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو أقرَبُنا إلى العَدوِّ، وكان مِن أشَدِّ النَّاسِ يومَئِذٍ بَأسًا)) [7833] رواه أحمد (1/86) (654)، وابن أبي شيبة (6/426) (32614). جوَّد إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/467)، وصحَّح إسناده أحمد شاكر في ((تخريج المسند)) (2/64). .
4- ثَباتُ الرَّسولِ على الحَقِّ في غَزوةِ حُنَينٍ:
ففي هذه الغَزوةِ أُعجِبَ المُسلمونَ بكثرَتِهم؛ مِمَّا جَعَلهم يشعُرونَ بالغُرورِ والتَّباهي، ففجَأَهم المُشرِكونَ في وادي حُنَينٍ وهَزَموهم؛ مِمَّا جَعَلَ  الكثيرَ مِنَ المُسلمينَ يفِرُّونَ ويترُكونَ أرضَ المَعرَكةِ إلَّا مَجموعةً مِنَ الصَّحابةِ، ولَكِنَّ الرَّسولَ الكريمَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يهتَزَّ، ولم يتَأثَّرْ ولم يشُكَّ في الحَقِّ الذي عليه، بل كان قَويًّا في تَمَسُّكِه بهذا الحَقِّ، فظَلَّ في مَكانِه مُجابهًا للمُشرِكينَ، مُناديًا: ((أنا النَّبيُّ لا كَذِبَ، أنا ابنُ عَبدِ المُطَّلِبِ)) [7834] أخرجه البخاري (2864)، ومسلم (1776) من حديثِ البراءِ بنِ عازبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. ، وحينَ سَمِعَه الفارُّونَ ورَأوا قوَّتَه في الحَقِّ وثَباتَه عليه تَشَجَّعوا وأصبَحوا مِثلَه ومَعَه.
قال رَجُلٌ للبَراءِ رَضِيَ اللَّهُ عنه: ((يا أبا عُمارةَ، أفرَرْتُم يومَ حُنَينٍ؟! قال: لا واللهِ، ما ولَّى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولكِنَّه خرج شُبَّانُ أصحابِه وأخفَّاؤهم (1) حُسَّرًا (2) ليس عليهم سلاحٌ أو كثيرُ سلاحٍ، فلَقُوا قومًا رُماةً لا يكادُ يَسقُطُ لهم سَهمٌ؛ جَمعَ هوازِنَ وبني نَصرٍ، فرشقوهم رشقًا ما يكادون يُخطِئون، فأقبَلوا هناك إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على بغلتِه البيضاءِ، وأبو سفيانَ بنُ الحارِثِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ يقودُ به، فنزل فاستنصر، وقال: أنا النَّبيُّ لا كَذِب، أنا ابنُ عبدِ المطَّلِب، ثمَّ صَفَّهم)) [7835]رواه البخاري (2930)، ومسلم (1776). .

انظر أيضا: