موسوعة الأخلاق والسلوك

د- نَماذِجُ مِنَ الفِراسةِ عِندَ السَّلَفِ رَضِيَ اللهُ عنهم


- عن سَعيدِ بنِ المُسَيِّبِ: أخبَرَني أبو موسى الأشعَريُّ أنَّه تَوضَّأ في بَيتِه ثُمَّ خَرَجَ، فقال: ((لألزَمَنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولأكونَنَّ مَعَه يومي هذا، قال: فجاءَ المَسجِدَ، فسَأل عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالوا: خَرَجَ وَجْهَ هاهنا، قال فخَرَجتُ على أثَرِه أسألُ عنه، حتَّى دَخَل بِئرَ أَريسَ، قال: فجَلستُ عِندَ البابِ، وبابُها مِن جَريدٍ، حتَّى قَضى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حاجَتَه وتَوضَّأ، فقُمتُ إليه، فإذا هو قد جَلسَ على بئرِ أرَيسَ وتَوسَّطٌ قُفَّها [7256] قُفُّ البِئرِ: هو الدَّكَّةُ التي تجعَلُ حولَها. ينظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (4/ 91). ، وكشَف عن ساقَيه، ودَلَّاهما في البئرِ، قال: فسَلَّمتُ عليه، ثُمَّ انصَرَفتُ فجَلسَتُ عِندَ البابِ، فقُلتُ: لأكونَنَّ بَوَّابَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اليومَ، فجاءَ أبو بَكرٍ فدَفعَ البابَ، فقُلتُ: مَن هذا؟ فقال أبو بَكرٍ: فقُلتُ: على رِسْلِك، قال: ثُمَّ ذَهَبتُ فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، هذا أبو بَكرٍ يستَأذِنُ، فقال: ائذَنْ له، وبَشِّرْه بالجنَّةِ، قال: فأقبَلتُ حتَّى قُلتُ لأبي بَكرٍ: ادخُلْ، ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُبَشِّرُك بالجَنَّةِ، قال: فدَخَل أبو بَكرٍ، فجَلسَ عن يمينِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مَعَه في القُفِّ، ودَلَّى رِجليه في البئرِ كما صَنَعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكشَف عن ساقَيه، ثُمَّ رَجَعتُ فجَلستُ، وقد تَرَكتُ أخي يتَوضَّأُ ويلحَقُني، فقُلتُ: إن يُرِدِ اللهُ بفُلانٍ -يُريدُ أخاه- خَيرًا يأتِ به، فإذا إنسانٌ يُحَرِّكُ البابَ، فقُلتُ: مَن هذا؟ فقال: عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، فقُلتُ: على رِسْلِك، ثُمَّ جِئتُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فسَلَّمتُ عليه وقُلتُ: هذا عُمرُ يستَأذِنُ، فقال: ائذَنْ له وبَشِّرْه بالجنَّةِ، فجِئتُ عُمَرَ فقُلتُ: أذِنَ ويُبَشِّرُك رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالجَنَّةِ، قال فدَخَل فجَلسَ مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في القُفِّ عن يسارِه، ودَلَّى رِجلَيه في البئرِ، ثُمَّ رَجَعتُ فجَلَستُ فقُلتُ: إن يرِدِ اللهُ بفُلانٍ خَيرًا -يعني أخاه- يأتِ به، فجاءَ إنسانٌ فحَرَّك البابَ، فقُلتُ: مَن هذا؟ فقال: عُثمانُ بنُ عَفَّانَ، فقُلتُ: على رِسْلِك، قال: وجِئتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأخبَرتُه، فقال: ائذَنْ له وبَشِّره بالجَنَّةِ، مَعَ بَلوى تُصيبُه، قال: فجِئتُ فقُلتُ: ادخُلْ، ويُبَشِّرُك رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالجَنَّةِ مَعَ بَلوى تُصيبُك، قال: فدَخَل فوجَدَ القُفَّ قد مُلئَ، فجَلسَ وِجاهَهم مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ. قال شَريكٌ: فقال سَعيدُ بنُ المُسَيِّبِ: فأوَّلْتُها قُبورَهم.
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (هذا مِن سَعيدٍ مِن بابِ الفِراسةِ) [7257] ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (6/ 268). .
- ورُويَ عنِ الحَسَنِ البَصريِّ أنَّه قال لعَمرِو بنِ عُبَيدٍ: (هذا سَيِّدُ فِتيانِ أهلِ البَصرةِ إنْ لم يُحدِثْ) [7258] ((نوادر الأصول)) للحكيم الترمذي (5/ 193). .
فِراسةُ عَبدِ المَلِكِ بنِ مَروانَ:
(وحَكى الشَّعبيُّ قال: أنفَذَني عَبدُ المَلكِ بنِ مَروانَ إلى مَلِكِ الرُّومِ، فلمَّا وصَلتُ إليه جَعل لا يسألُني عن شَيءٍ إلَّا أجَبتُه، وكانتِ الرُّسُلُ لا تُطيلُ الإقامةَ عِندَه، فحَبَسَني أيَّامًا كثيرةً حتَّى استَحثَثتُ خُروجي، فلمَّا أرَدتُ الانصِرافَ قال لي: مِن أهلِ بَيتِ المَملكةِ أنتَ؟ فقُلتُ: لا، ولكِنِّي رَجُلٌ مِنَ العَرَبِ في الجُملةِ، فهَمَسَ بشَيءٍ، فدُفِعَت إليَّ رُقعةٌ وقال لي: إذا أدَّيتَ الرَّسائِلَ إلى صاحِبِك فأوصِلْ إليه هذه الرُّقعةَ، قال: فأدَّيتُ الرَّسائِلَ عِندَ وُصولي إلى عَبدِ المَلِكِ وأُنسِيتُ الرُّقعةَ، فلمَّا صِرتُ في بَعضِ الدَّارِ أُريدُ الخُروجَ تَذَكَّرتُها، فرَجَعتُ فأوصَلتُها إليه، فلمَّا قَرَأها قال لي: أقال لك شَيئًا قَبل أن يدفعَها إليك، قُلتُ: نَعمْ، قال لي: مِن أهل بَيتِ المَملكةِ أنتَ؟ قُلتُ: لا، ولكِنِّي مِنَ العَرَب في الجُملةِ. ثُمَّ خَرَجتُ مِن عِندِه، فلمَّا بَلغتُ البابَ رُدِدتُ، فلمَّا مَثُلتُ بَينَ يدَيه قال لي: أتدري ما في الرُّقعةِ؟ قُلتُ: لا، قال: اقرَأْها، فقَرَأتُها فإذا فيها "عَجِبتُ مِن قَومٍ فيهم مِثلُ هذا كيف مَلَّكوا غَيرَه؟!"، فقُلتُ له: والله لو علِمتُ ما حَمَلتُها، وإنَّما قال هذا لأنَّه لم يَرَك! قال: أفتدري لمَ كتَبَها؟ قُلتُ: لا، قال: حَسَدَني عليك، وأرادَ أن يُغريَني بقَتلِك، قال: فتَأدَّى ذلك إلى مَلِكِ الرُّومِ فقال: ما أرَدتُ إلَّا ما قال!))
[7259] ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (3/ 13). .
- قال يحيى بنُ سَعيدٍ القَطَّانُ: (كُنَّا على بابِ إسماعيلَ بنِ أبي خالدٍ، فقال الثَّوريُّ: يا يحيى، تَعالَ حتَّى أُحَدِّثَك عنه بعَشَرةِ أحاديثَ لم تَسمَعْها، فسَرَدَ ثَمانيةً كأنَّه قد علمَ أنِّي لم أسمَعْها) [7260] ((الجرح والتعديل)) لابن أبي حاتم (1/ 60). .
قال مُحَمَّدُ بنُ السَّمَّاكِ: (نَظَرَ إليَّ سُفيانُ الثَّوريُّ فتَفرَّسَ فيَّ، فقال: ما أراك تَموتُ حتَّى تَصيرَ قاصًّا) [7261] ((الجرح والتعديل)) لابن أبي حاتم (1/ 61). .
فِراسةُ أبي حنيفةَ:
(وكان مِن فِراسةِ أبي حَنيفةَ أنَّ أبا يوسُفَ مَرِض يومًا، فقيل: توُفِّيَ أبو يوسُفَ، فقال: لا. فوُجِدَ كما قال، قيل له: من أينَ عَلِمتَ هذا؟ قال: لأنَّه خَدَم العِلمَ فما لم يجتَنِ ثَمَرتَه لا يموتُ، فاجتَنى ثَمَرَتَه بأنْ وَلِيَ القَضاءَ، وتوُفِّي وله سَبعُمِائةِ رِكابٍ ذَهَبًا! فكان كما قال أبو حَنيفةَ) [7262] ((الكامل في القراءات)) لأبي القاسم الهذلي (ص: 80). .
فراسةُ مالِكٍ:
قال الشَّافِعيُّ: (لمَّا سِرتُ إلى المَدينةِ ولَقِيتُ مالِكًا، وسَمع كلامي نَظَر إليَّ ساعةً -وكانت له فِراسةٌ، ثُمَّ قال لي: ما اسمُك؟ قُلتُ: مُحَمَّدٌ، قال: يا مُحَمَّدُ، اتَّقِ اللهَ، واجتَنِبِ المَعاصيَ؛ فإنَّه سَيكونُ لك شَأنٌ!) [7263] ((ترتيب المدارك)) للقاضي عياض (2/ 137). .
فِراسةُ الشَّافِعيِّ:
- قال مُحَمَّدُ بنُ إدريسَ الشَّافِعيُّ: (خَرَجتُ إلى اليمَنِ في طَلبِ كُتُبِ الفِراسةِ، حتَّى كتَبتُها وجَمَعتُها، ثُمَّ لمَّا حانَ انصِرافي مَرَرتُ على رَجُلٍ في طَريقي وهو مُحتَبٍ [7264] احتبى الشَّخصُ: جَلَس على أليَتَيه، وضَمَّ فَخِذَيه وساقَيه إلى بَطنِه بذراعَيه ليَستَنِدَ. ينظر: ((معجم اللغة العربية المعاصرة)) (1/440). بفناءِ دارِه، أزرَقُ العَينَينِ، ناتِئُ الجَبهةِ [7265] ناتئُ الجبهةِ: أي: مرتَفِعُها. ينظر: ((مرقاة المفاتيح)) لملا علي القاري (9/3798). ، سِناطٌ [7266]  السِّناطُ، هو: الذي لا لحيةَ له. ينظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/ 106). ، فقُلتُ له: هَل مِن مَنزِلٍ؟ فقال: نَعَم. قال الشَّافِعيُّ: وهذا النَّعتُ أخبَثُ ما يكونُ في الفِراسةِ! فأنزَلني، فرَأيتُ أكرَمَ رَجُلٍ، بَعَثَ إليَّ بعَشاءٍ وطِيبٍ، وعَلَفٍ لدابَّتي، وفِراشٍ ولحافٍ، فجَعلتُ أتقَلَّبُ اللَّيلِ أجمَعُ ما أصنَعُ بهذه الكُتُبِ؟ إذ رَأيتُ هذا النَّعتَ في هذا الرَّجُلِ، فرَأيتُ أكرَمَ رَجُلٍ، فقُلتُ: أرمي بهذه الكُتُبِ! فلمَّا أصبَحتُ قُلتُ للغُلامِ: أسرِجْ، فأسرَجَ، فرَكِبتُ ومَرَرتُ عليه، وقُلتُ له: إذا قدِمتَ مَكَّةَ ومَرَرتَ بذي طوًى، فسَلْ عن مَنزِلِ مُحَمَّدِ بنِ إدريسَ الشَّافِعيِّ. فقال لي الرَّجُلُ: أمولًى لأبيك أنا؟! قُلتُ: لا. قال: فهل كانت لك عِندي نِعمةٌ؟! فقُلتُ: لا. فقال: أينَ ما تَكلَّفتُ لك البارِحةَ؟ قُلتُ: وما هو؟ قال: اشتَرَيتُ لك طَعامًا بدِرهَمَينِ، وإدامًا بكذا، وعِطرًا بثَلاثةِ دَراهمَ، وعلَفًا لدابَّتِك بدِرهَمَينِ، وكِراءَ الفِراشِ واللِّحافِ دِرهَمانِ! قال: قُلتُ: يا غُلامُ، أعطِه، فهَل بَقِيَ مِن شَيءٍ؟ قال: كِراءُ المَنزِلِ؛ فإنِّي وسَّعتُ عليك، وضَيَّقتُ على نَفسي! قال الشَّافِعيُّ: فغَبَطتُ نَفسي بتلك الكُتُبِ، فقُلتُ له بَعدَ ذلك: هل بَقي مِن شَيءٍ؟ قال: امضِ، أخزاك اللهُ، فما رَأيتُ قَطُّ شَرًّا مِنك!) [7267] ((آداب الشافعي ومناقبه)) لأبي حاتم الرازي (96، 97). .
- و(كان الشَّافِعيُّ ومُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ -رَحِمَهما اللهُ تعالى- في المَسجِدِ الحَرامِ، فدَخل رَجُلٌ، فقال مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ: أتَفرَّسُ أنَّه نَجَّارٌ، وقال الشَّافِعيُّ: أتَفرَّسُ أنَّه حَدَّادٌ. فسَألاه، فقال: كُنتُ قَبلَ هذا حَدَّادًا، والسَّاعةَ أَنجُرُ!) [7268] ((الرسالة القشيرية)) للقشيري (2/387). .
- وعنِ الرَّبيعِ بنِ سُليمانَ قال: كُنتُ عِندَ الشَّافِعيِّ إذ جاءَه رَجُلٌ برُقعةٍ فقَرَأها، ووقَّعَ فيها، ومَضى الرَّجُلُ فتَبعتُه إلى بابِ المَسجِدِ، فقُلتُ: واللهِ لا تَفوتُني فُتيا الشَّافِعيِّ، فأخَذتُ الرُّقعةَ مِن يدِه، فوَجَدتُ فيها:
سَلِ العالِمَ المَكِّيَّ هَل مِن تَزاوُرِ
وضَمَّةِ مُشتاقِ الفُؤادِ جُناحُ
فإذا قد وقَّعَ الشَّافِعيُّ:
فقُلتُ: مَعاذَ اللهِ أن يُذهِبَ التُّقى
تَلاصُقُ أكبادٍ بهنَّ جِراحُ
قال الرَّبيعُ: فأنكرتُ على الشَّافِعيِّ أن يُفتيَ لحَدَثٍ بمِثلِ هذا! فقُلتُ: يا أبا عَبدِ اللهِ، تُفتي بمِثلِ هذا شابًّا؟ فقال لي: يا أبا مُحَمَّدٍ، هذا رَجُلٌ هاشِميٌّ، قد عَرَّس في هذا الشَّهرِ -يعني شَهرَ رَمَضانَ- وهو حَدَثُ السِّنِّ، فسَأل هل عليه جُناحٌ أن يُقَبِّلَ أو يَضُمَّ مِن غَيرِ وَطءٍ، فأفتَيتُه بهذه الفُتيا، قال الرَّبيعُ: فتَبِعتُ الشَّابَّ، فسَألتُه عن حالِه، فذَكرَ لي أنَّه مِثلُ ما قال الشَّافِعيُّ، فما رَأيتُ فِراسةً أحسَنَ منها [7269] رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (9/ 150)، والبيهقي في ((مناقب الشافعي)) (2/ 94). !
فِراسةُ إياسِ بنِ مُعاويةَ:
قال ابنُ القَيِّمِ: (وكان إياسُ بنُ مُعاويةَ مِن أعظَمِ النَّاسِ فِراسةً، وله الوقائِعُ المَشهورةُ) [7270] ((مدارج السالكين)) (2/ 489). ، ومن ذلك:
قال إبراهيمُ بنُ مَرزوقٍ البَصريُّ: (كُنَّا عِندَ إياسِ بنِ مُعاويةَ قَبل أن يُستَقضى، وكُنَّا نَكتُبُ عنه الفِراسةَ كما نَكتُبُ عن صاحِبِ الحَديثِ، إذ جاءَ رَجُلٌ فجَلسَ على دُكَّانٍ مُرتَفِعٍ بالمربَدِ فجَعل يتَرَصَّدُ الطَّريقَ، فبينا هو كذلك إذ نَزَل فاستَقبَل رَجُلًا فنَظَرَ في وجهِه ثُمَّ رَجَعَ إلى مَوضِعِه، قال: فقال إياسُ بنُ مُعاويةَ: قولوا في هذا الرَّجُلِ، قالوا: ما تَقولُ فيه؟ رَجُلٌ طالِبُ حاجةٍ، قال: مُعلِّمُ صِبيانٍ، قد أبَقَ له غُلامٌ أعورُ فإن أرَدتُم أن تَسْتَفهِموه فقوموا فسَلوه، فقامَ إليه بَعضُنا فسَأله؛ فقال: كان لي غُلامٌ نَسَّاجٌ وقد زاغَ مُنذُ اليومِ، فقالوا: صِفْ لنا غُلامَك وصِفْ لنا مَوضِعَك، فقال: أمَّا أنا فأُعلِّمُ الصِّبيانَ بالكَلَأِ، وأمَّا غُلامي فغُلامٌ مِن صِفَتِه كذا وكذا، إحدى عَينَيه ذاهِبةٌ، فرَجَعْنا إليه فقُلْنا: هو كما قُلتَ! ولكِن كيف علِمتَ أنَّه مُعلِّمٌ؟ قال: رَأيتُه جاءَ فجَعل يَطلُبُ مَوضِعًا يجلِسُ فيه، فقُلتُ: إنَّه يطلُبُ عادَتَه في الجُلوسِ، فنَظَرَ إلى أرفَعِ شَيءٍ يقدِرُ عليه فجَلسَ عليه، فنَظَرتُ في قَدْرِه فإذا ليسَ قَدْرُه قَدْرَ المَملوكِ، فنَظَرتُ فيمَنِ اعتادَ في جُلوسِه جُلوسَ المُلوكِ فلم أجِدْهم إلَّا المُعلِّمينَ فعَلِمتُ أنَّه مُعلِّمٌ، فقُلنا له: كيف علِمتَ أنَّه أبَقَ له غُلامٌ أعوَرُ؟! قال: رَأيتُه يتَرَصَّدُ الطَّريقَ والمارَّةَ فبَينَما هو كذلك إذ نَزَل فاستَقبَل رَجُلًا مُقبِلًا فعلِمتُ أنَّه شَبَّهَه بغُلامِه فنَظَرَ في وجهِه، فلو كان غُلامُه أعمى لعَرَفه في ترَجُّحِه في مِشيتِه، فعَلِمتُ أنَّه نَظَرَ في وجهِه إلى عَينِه، فعَلِمتُ أنَّ غُلامَه أعورُ قد ذَهَبَت إحدى عَينَيه!) [7271] ((أخبار القضاة)) لوكيع القاضي (1/ 328، 329). .
فِراسةُ إبراهيمَ الخَوَّاصِ:
- قال إبراهيمُ الخَوَّاصُ: (كُنتُ في الجامِعِ فأقبَل شابٌّ طَيِّبُ الرَّائِحةِ، حَسَنُ الوَجهِ، حَسَنُ الحُرمةِ، فقُلتُ لأصحابِنا: يقَعُ لي أنَّه يهوديٌّ! فكُلُّهم كَرهَ ذلك، فخَرَجتُ، وخَرَجَ الشَّابُّ، ثُمَّ رَجَعَ إليهم، فقال: أيشٍ قال الشَّيخُ؟ فاحتَشَموه، فألحَّ عليهم، فقالوا: قال: إنَّك يهوديٌّ. فجاءَ فأكبَّ على يدَيَّ فأسلمَ، فقُلتُ: ما السَّبَبُ؟ فقال: نَجِدُ في كِتابِنا أنَّ الصِّدِّيقَ لا تُخطِئُ فِراسَتَه. فقُلتُ: أمتَحِنُ المُسلمينَ، فتَأمَّلتُهم، فقُلتُ: إن كان فيهم صِدِّيقٌ ففي هذه الطَّائِفةِ، فلبَّستُ عليكم، فلمَّا اطَّلعَ هذا الشَّيخُ عليَّ، وتفرَّسَني، عَلِمتُ أنَّه صِدِّيقٌ [7272] ((الروح)) لابن القيم (239، 240). !
فِراسةُ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ
- ذَكَر إسحاقُ بنُ إبراهيمَ الحَنظَليُّ مُسلِمَ بنَ الحَجَّاجِ، فقال بالفارِسيَّةِ كلامًا مَعناه: (أيَّ رَجُلٍ يكونُ هذا؟!)، قال أبو عَبدِ اللهِ الحاكِمُ: (فرَحِمَ اللهُ إسحاقَ؛ لقد أصابَت فِراسَتُه الذَّكيَّةُ) [7273] ينظر: ((المدخل إلى الصحيح)) للحاكم (4/ 93)، ((تقييد المهمل)) لأبي علي الغساني (1/ 57). .
فِراسةُ أحمدَ بنِ طولونَ
(ذُكِر عن أحمدَ بنِ طُولونَ أنَّه بينما هو في مجلِسٍ له يتنَزَّهُ فيه، إذ رأى سائلًا في ثوبٍ خَلَقٍ، فوضَع دجاجةً في رغيفٍ وحلوى وأمَرَ بعضَ الغِلمانِ بدفعِه إليه، فلمَّا وقع في يَدِه لم يَهَشَّ، ولم يعبَأْ به! فقال للغلامِ: جِئْني به، فلمَّا وقف قُدَّامَه استنطَقَه، فأحسَنَ الجوابَ، ولم يضطَرِبْ من هيبتِه، فقال: هاتِ الكُتُبَ التي معك، واصدُقْني مَن بَعَثك؛ فقد صَحَّ عندي أنَّك صاحِبُ خَبَرٍ. وأحضر السِّياطَ، فاعتَرَف! فقال بعضُ جُلَسائِه: هذا واللهِ السِّحرُ! قال: ما هو بسِحرٍ، ولكِنْ فِراسةٌ صادقةٌ، رأيتُ سُوءَ حالِه، فوجَّهتُ إليه بطعامٍ يَشرَهُ إلى أكلِه الشَّبعانُ، فما هَشَّ له، ولا مَدَّ يَدَه إليه، فأحضَرْتُه فتلقَّاني بقوَّةِ جأشٍ، فلمَّا رأيتُ رَثاثةَ حالِه، وقوَّةَ جأشِه، عَلِمتُ أنَّه صاحِبُ خَبَرٍ، فكان كذلك) [7274] ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (ص: 41). .

انظر أيضا: