موسوعة الأخلاق والسلوك

ج- نَماذِجُ مِنَ الفِراسةِ عِندَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم


فِراسةُ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه:
مِن فِراسةِ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه استَخلف عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه، ففتَحَ اللهُ الفُتوحَ على يدِه، ومَصَّرَ الأمصارَ، ودَرَّر الأرزاقَ، وبَثَّ السَّرايا وجُنودَ اللهِ في نَواحي أقطارِ الأرضِ، حتَّى تمَهَّدَ الإسلامُ في الوطَنِ الذي منه بَدَأ [7235] ينظر: ((نوادر الأصول)) للحكيم الترمذي (5/ 318). .
وعنِ ابن شِهابٍ، عن عُروةَ بنِ الزُّبَيرِ عن عائِشةَ زَوجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أنَّها قالت: (إنَّ أبا بَكرٍ الصِّدِّيقَ كان نَحلَها جادَّ عِشرينَ وسقًا مِن مالِه بالغابةِ، فلمَّا حَضَرَته الوفاةُ قال: واللهِ يا بُنَيَّةُ ما مِنَ النَّاسِ أحَدٌ أحَبَّ إليَّ غِنًى بَعدي مِنك، ولا أعَزَّ علَيَّ فقرًا بَعدي مِنك، وإنِّي كُنتُ نَحلتُك جادَّ عِشرينَ وسقًا، فلو كُنتِ جدَدْتِيه واحتَزْتِيه كان لكِ. وإنَّما هو اليومَ مالُ وارِثٍ، وإنَّما هما أخَواك وأُختاكِ، فاقتَسِموه على كِتابِ اللهِ، قالت عائِشةُ، فقُلتُ: يا أبَتِ، واللهِ لو كان كذا وكذا لتَرَكتُه، إنَّما هي أسماءُ، فمَنِ الأُخرى؟! فقال أبو بَكرٍ: ذو بَطنِ بنتِ خارِجةَ، أُراها جاريةً) [7236] أخرجه مالك في ((الموطأ)) (2/ 752) واللفظ له، وعبد الرزاق في ((المصنف)) (9/ 101) (16507)، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (6/ 43) (20506). وصحَّحه الألباني في ((إرواء الغليل)) (6/61). . وبنتُ خارِجةَ هي زَوجَتُه، واسمُها حَبيبةُ بنتُ خارِجةَ، فولدَت زَوجَتُه جاريةً أتَت بَعدَه، فسُمِّيَت أُمَّ كُلثومٍ [7237] ((الاستذكار)) (7/ 229). .
فِراسةُ أُمِّ المُؤمِنينَ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها:
قالت: (دَخل عليَّ عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ أبي بَكرٍ، وبيدِه السِّواكُ، وأنا مُسنِدةٌ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فرَأيتُه ينظُرُ إليه، وعَرَفتُ أنَّه يُحِبُّ السِّواكَ، فقُلتُ: آخُذُه لك؟ فأشارَ برَأسِه: أن نَعَمْ) [7238] أخرجه البخاري (4449). .
فِراسةُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه:
عن عَبدِ اللهِ بنِ سَلَمةَ قال: دَخَلْنا على عُمَرَ -مَعاشِرَ وَفدِ مَذْحِجٍ- وكُنتُ مِن أقرَبِهم منه مَجلِسًا فجَعل ينظُرُ إلى الأشتَرِ ويَصرِفُ بَصَرَه فقال لي: أمِنكم هذا؟ قُلتُ: نَعَم يا أميرَ المُؤمِنينَ، قال: ما له -قاتَله اللهُ- ؟! كفى اللهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ شَرَّه، واللهِ إنِّي لأحسَبُ أنَّ للمُسلمينَ منه يومًا عَصيبًا [7239] رواه الخطيب في ((تاريخ بغداد)) (7/120)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (56/377). !
عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللهَ تعالى جَعَل الحَقَّ على لسانِ عُمَرَ وقَلبِه)) [7240] أخرجه الترمذي (3682)، وأحمد (5145). صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (6895)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3682)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (5145)، وقال الترمذي: حسنٌ غريبٌ. ، وكان عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه صَحيحَ الفِراسةِ [7241] ((تفسير الموطأ)) للقنازعي (1/ 86). .
وعن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: (ما سَمِعتُ عُمَرَ لشَيءٍ قَطُّ يقولُ: إنِّي لأظُنُّه كذا، إلَّا كان كما يظُنُّ، بَينَما عَمَرُ جالسٌ إذ مَرَّ به رَجُلٌ جَميلٌ، فقال: لقد أخطَأَ ظَنِّي، أو إنَّ هذا على دينِه في الجاهليَّةِ، أو لقد كان كاهِنَهم، علَيَّ الرَّجُلَ، فدُعِيَ له، فقال له ذلك، فقال: ما رَأيتُ كاليومِ استُقبِل به رَجُلٌ مُسلِمٌ! قال: فإنِّي أعزِمُ عليك إلَّا ما أخبَرتَني، قال: كُنتُ كاهِنَهم في الجاهليَّةِ!) [7242] رواه البخاري (3866). .
فِراسةُ عُثمانَ بنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عنه:
وهذا عُثمانُ بنُ عَفَّانَ دَخَل عليه رَجُلٌ مِنَ الصَّحابةِ، وقد رَأى امرَأةً في الطَّريقِ، فتَأمَّل مَحاسِنَها، فقال له عُثمانُ: يدخُلُ علَيَّ أحَدُكم، وأثَرُ الزِّنا ظاهِرٌ على عَينَيه! فقُلتُ: أَوَحْيٌ بَعدَ رَسولِ اللهِ؟! فقال: لا، ولكِنْ تَبصِرةٌ وبُرهانٌ، وفِراسةٌ صادِقةٌ [7243] ينظر: ((الروح)) لابن القيم (ص: 240)، وذكره القشيري في ((الرسالة القشيرية)) (2/393). .
فِراسةُ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه:
عن سَعيدِ بنِ المُسَيِّبِ: (أنَّ رَجُلًا مِن أهلِ الشَّامِ -يُقالُ له: ابنُ خَيبريٍّ- وجَد مَعَ امرَأتِه رَجُلًا فقَتَله أو قَتلَهما مَعًا، فأشكَل على مُعاويةَ بنِ أبي سُفيانَ القَضاءُ فيه، فكتَبَ إلى أبي موسى الأشعَريِّ، يسألُ له عليَّ بنَ أبي طالبٍ عن ذلك، فسَأل أبو موسى عن ذلك عليَّ بنَ أبي طالبٍ، فقال له عليٌّ: (إنَّ هذا الشَّيءَ ما هو بأرضي، عَزَمتُ عليك لتُخبِرَنِّي. فقال له أبو موسى: كتَبَ إليَّ مُعاويةُ بنُ أبي سُفيانَ أن أسألَك عن ذلك، فقال عليٌّ: أنا أبو حَسَنٍ! إن لم يأتِ بأربَعةِ شُهَداءَ فلْيُعطَ برُمَّتِه) [7244] أخرجه مالك (2/737) واللفظ له، وابن أبي شيبة (28458)، والبيهقي (17468). وثَّق رجالَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((زاد المعاد)) (5/363)، وقال الشافعي في ((الأم)) (7/346): لا أحفظُ فيه مخالِفًا. . قال القنازعيُّ: (وهذا مِن فِراسةِ المُؤمِنِ) [7245] ((تفسير الموطأ)) للقنازعي (2/ 516). . (وقَولُه: أنا أبو حَسَنٍ، مِمَّا تَستَعمِلُه العَرَبُ عِندَ إصابةِ ظَنِّه كما أصابَ ظَنُّه بأنَّ ذلك لم يكُنْ بأرضِه) [7246] ((المنتقى شرح الموطأ)) للباجي (5/ 285). .
فِراسةُ سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه:
عن عامِرِ بنِ سَعدٍ قال: (كان سَعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ في إبِلِه، فجاءَه ابنُه عُمَرُ، فلمَّا رَآه سَعدٌ قال: أعوذُ باللهِ مِن شَرِّ هذا الرَّاكِبِ!) [7247] أخرجه البخاري (2965). .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (في هذا الحَديثِ مِنَ الفِقهِ أنَّ فِراسةَ المُؤمِنِ صادِقةٌ؛ فإنَّ سَعدًا تَفرَّسَ في ابنِه عُمَرَ ما آل أمرُه إليه أخيرًا في نَوبةِ الحُسَينِ رَضِيَ اللهُ عنه) [7248] ((الإفصاح)) لابن هبيرة (1/ 350). .
فِراسةُ العَبَّاسِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ عنه:
قال عَبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: (إنَّ عليَّ بنَ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه خَرَجَ مِن عِندِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في وجَعِه الذي توُفِّي فيه، فقال النَّاسُ: يا أبا حَسَنٍ، كيف أصبَحَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فقال: أصبَحَ بحَمدِ اللهِ بارِئًا، فأخَذَ بيَدِه عَبَّاسُ بنُ عَبدِ المُطَّلِبِ، فقال له: أنتَ واللهِ بَعدَ ثَلاثٍ عَبدُ العَصا! وإنِّي واللهِ لأرى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَوف يُتَوفَّى مِن وجَعِه هذا، إنِّي لأعرِفُ وُجوهَ بَني عَبدِ المُطَّلِبِ عِندَ المَوتِ) [7249] أخرجه البخاري (4447). .
والمَعنى: أنَّه يموتُ بَعدَ ثَلاثٍ، وتَصيرُ أنتَ مَأمورًا عليك، وهذا مِن قوَّةِ فِراسةِ العَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عنه [7250] ((فتح الباري)) لابن حجر (8/ 143). .
فِراسةُ السَّائِبِ بنِ الأقرَعِ:
حُكِيَ أنَّ أبا موسى الأشعَريَّ وجَّه السَّائِبَ بنَ الأقرَعِ في خِلافةِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه إلى مِهرَجا [7251] كذا، ولعَلَّ الصَّوابَ مِهْرَجان؛ ففي ((معجم البلدان)) للحموي (2/ 30) أنَّ الهُرمُزانَ كان من أهلِ مِهرَجان قَذَق. ويُنظر أيضًا: ((معجم البلدان)) (5/ 233). ، بَعدَ أن فتَحَها ودَخَل دارَ الهُرمُزانِ بَعدَ أن جَمَعَ السَّبيَ والغَنائِمَ، ورَأى في بَعضِ مَجالِسِ الدَّارَ تَصاويرَ فيها مِثالُ ظَبيٍ، وهو مُشيرٌ بإحدى يدَيه إلى الأرضِ، فقال السَّائِبُ: لأمرٍ ما صُوِّرَ هذا الظَّبيُ هكذا، إنَّ له لشَأنًا! فأمرَ بحَفرِ المَوضِعِ الذي الإشارةُ إليه، فأفضى إلى مَوضِعٍ فيه حَوضٌ مِن رُخامٍ، فيه سَفَطُ جَوهَرٍ، فأخذه السَّائِبُ، وخَرَجَ به إلى عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه [7252] ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/149). !
فِراسةُ عَبدِ اللهِ بنِ سَلامٍ رَضِيَ اللهُ عنه:
قال عَبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (لمَّا قَدِمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المَدينةَ انجَفل النَّاسُ إليه [7253] أي: ذهبوا مُسرِعين نحوَه. ينظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (1/ 279). ، وقيل: قَدِم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فجِئتُ في النَّاسِ لأنظُرَ إليه، فلمَّا استَبَنتُ وَجهَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَرَفتُ أنَّ وجهَه ليس بوجهِ كذَّابٍ) [7254] أخرجه الترمذي (2485)، وابن ماجه (3251) واللفظ لهما، وأحمد (23784) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه الترمذيُّ، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (4283)، والذهبي في ((تاريخ الإسلام)) (2/34)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (1334)، وحسَّنه ابنُ عساكر في ((معجم الشيوخ)) (1040). .
فِراسةُ عَبدِ اللهِ بنِ عباسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما:
عن سعدِ بنِ عُبيدةَ، قال: (جاء رجلٌ إلى ابنِ عبَّاسٍ فقال: ألمنْ قتَل مؤمنًا متعمدًا توبةٌ؟ قال: لا، إلَّا النار، قال: فلمَّا ذهَب قال له جلساؤُه: أهكذا كنتَ تُفْتينا؟ كنتَ تُفْتينا أنَّ لمن قتَل توبةً مقبولةً، قال: إنِّي لأحسبُه رجلًا مغضبًا يريدُ أنْ يقتلَ مؤمنًا. قال: فبعَثوا في إثرِه فوجدوه كذلك) [7255] أخرجه ابن أبي شيبة (28326)، والنحاس في ((الناسخ والمنسوخ)) (ص349) واللفظ له. وثَّق رجالَه ابنُ حجرٍ في ((التلخيص الحبير)) (4/1562). .

انظر أيضا: