موسوعة الأخلاق والسلوك

و- عِندَ العُلَماءِ المُعاصِرين


1- محمَّد الأمين الشِّنقيطيُّ:
محمَّد الأمين الشِّنقيطيُّ صاحِبُ (أضواءُ البيانِ) (حَفِظ القرآنَ في بيتِ أخوالِه وعُمُرُه عَشرُ سَنَواتٍ، وتعَلَّم رَسمَ المصحَفِ العثمانيِّ عن ابنِ خالِه، وقرأ عليه التَّجويدَ في مَقرأةِ نافعٍ بروايةِ وَرشٍ، وقالونَ من روايةِ أبي نشيطٍ، وعُمُرُه سِتَّ عَشرةَ سنةً... وقد صَوَّر الشَّيخُ شِدَّةَ انشغالِه في شأنِ طَلَبِ العِلمِ في شبابِه، بقَولِه رحمه اللهُ: وممَّا قُلتُ في شأنِ طَلَبِ العِلمِ، وقد كنتُ في أُخْرَياتِ زَمَني في الاشتغالِ بطَلَبِ العِلمِ دائِمَ الاشتغالِ به عن التَّزويجِ؛ لأنَّه ربَّما أعاق عنه، وكان إذ ذاك بعضُ البناتِ ممَّن يَصلُحُ لمثلي يرغَبُ في زواجي ويطمَعُ فيه، فلمَّا طال اشتغالي بطَلَبِ العِلمِ عن ذلك المنوالِ، أَيِسَت منِّي فتزوَّجَت ببعضِ الأغنياءِ، فقال لي بعضُ الأصدِقاءِ: إن لم تتزَوَّجِ الآنَ من تصلُحُ لك؟! تزَوَّجَت عنك ذاتُ الحَسَبِ والجَمالِ، ولم تَجِدْ من يَصلُحُ لمِثْلِك، يريدُ أن يُعجِلَني عن طَلَبِ العِلمِ، فقُلتُ في ذلك هذه الأبياتِ:
دعاني النَّاصِحونَ إلى النِّكاحِ
غَداةَ تزوَّجَتْ بِيضُ المِلاحِ
فقالوا لي تزوَّجْ ذاتَ دَلٍّ
خلوبِ اللَّحظِ جائِلةِ الوِشاحِ [6692] يقالُ: وِشاحٌ جائِلٌ: أَي: سَلِسٌ. يُنظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (28/253).
ضحوكًا عن مُؤشِرةٍ رقاقٍ
تمجُّ الرَّاحَ بالماءِ القراحِ [6693] والماءُ القراحُ: الماء الذي لم يخالِطْه شَيءٌ يطيَّبُ به. يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (2/ 561).
كأنَّ لحاظَها رَشَقاتُ نَبلٍ
تُذيقُ القَلبَ آلامَ الجِراحِ
ولا عَجبٌ إذا كانت لحاظٌ
لبيضاءِ المحاجِرِ [6694] محاجِرُ: جمعُ مِحجرٍ وهو من العَينِ: ما دار بها وبدا من البرقُعِ، أو ما يظهَرُ من نقابِها. يُنظر: ((القاموس المحيط)) للفيرواآبادي (ص: 372). كالرِّماحِ
فكم قتَلَتْ كَميًّا ذا دلاصٍ [6695] ذا دلاصٍ: ذا دِرعٍ لَيِّنةٍ. يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (7/37).
ضعيفاتُ الجفونِ بلا سِلاحِ
فقُلتُ لهم: دعوني إنَّ قَلبي
من الغيِّ [6696] الغيُّ: الضَّلالُ والخَيبةُ. يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (15/140). الصُّراحِ اليَومَ صاحِ
ولي شُغُلٌ بأبكارٍ عَذارى
كأنَّ وُجوهَها غُرَرُ الصِّحاحِ
أبيتُ مُفَكِّرًا فيها فتضحى
لفَهمِ الفدمِ خافِضةَ الجَناحِ) [6697] يُنظر: ((صلاح الأمة في علو الهمة)) لسيد العفاني (1/576).
2- ابنُ بازٍ:
- سافَرَ ابنُ بازٍ بَرًّا من الرِّياضِ إلى مكَّةَ، أو العكس، فلمَّا جاءت السَّاعةُ الثَّانيةَ عَشرةَ من منتَصَفِ اللَّيلِ قال الشَّيخُ: ما رأيُكم لو نِمْنا هنا ثمَّ في الصَّباحِ نُكمِلُ السَّفَرَ؟ فوافق كُلُّ من كان معه، حيثُ غَلَبهم النَّومُ، ويريدون أن يستريحوا، فلمَّا نزلوا من السَّيارةِ، ذهب كُلٌّ منهم إلى ناحيةٍ فنام فيها، أمَّا الشَّيخُ فإنَّه لمَّا نزل طلب ماءً وتوضَّأ، ثمَّ شرَع يصلِّي ما شاء اللهُ له، ثمَّ نام، ولمَّا قاموا لصلاةِ الفجرِ وجدوا الشَّيخَ قد سبقهم للقيامِ ووجَدوه يصلِّي! فتعجَّبوا منه ومن جَلَدِه على العبادةِ؛ حيثُ كان هو آخِرَ من نام، وأوَّلَ من قام! فسُبحانَ الذي أعطاه هذه القُوَّةَ والعَزيمةَ [6698]((إمام العصر)) لناصر الزهراني (ص: 58). !
- وذاتَ يومٍ كان ابنُ بازٍ مَدعُوًّا عِندَ أحَدِ المحبِّين له، فخرج من بيتِه وركِب سيَّارتَه متوجِّهًا لإجابةِ الدَّعوةِ، وأثناءَ الطَّريقِ شَعَر بألمٍ شديدٍ في رجلِه اليُمنى وصعوبةً في تحريكِها، فلم يأمُرْ سائقَه بالعودةِ إلى المنزِلِ، بل أكمل الطَّريقَ حتى وصل إلى الدَّاعي، وتحامَل على نفسِه، فنزل من السَّيارةِ واستند على مُرافِقِه، وجعل يجرُّ رِجلَه جَرًّا حتى وصل إلى مكانِ جُلوسِه، وتحدَّث إلى جُلَسائِه، وأجاب عن أسئِلَتِهم، وعلَّق على بعضِ آياتٍ من القرآنِ الكريمِ كعادتِه، واستمَرَّ على هذا المنوالِ إلى نهايةِ الجلسةِ، فصبَر على الألمِ وتحمَّل الوجَعَ الشَّديدَ الذي عانى منه؛ حتى لا يُكَدِّرَ على الدَّاعي والمدعوِّينَ صَفوَ الجَلسةِ) [6699]((عبد العزيز بن باز عالم فقدته الأمة)) للشويعر (ص: 593 - 599). .
- وقال ناصِرٌ الزَّهرانيُّ: (لا أعرِفُ أنَّني في يومٍ من الأيَّامِ رأيتُه في الصَّفِّ الثَّاني أو الثَّالثِ، فضلًا عن رؤيتِه وهو يأتي بركعةٍ أو ركعتينِ فاتته من الصَّلاةِ، كما هو حالُ كثيرٍ منَّا اليومَ، بل كان دائمًا في الصَّفِّ الأوَّلِ وراءَ الإمام مُباشَرةً، سواءٌ في الصَّلواتِ الخَمسِ أو الجُمَعِ أو الأعيادِ أو غيرِ ذلك، لا أعرِفُ في حياتِه أنَّني رأيتُه في غيرِ هذا المقامِ الأسبَقِ) [6700]((إمام العصر)) (ص: 60، 61). .
3- محمَّد ناصِرُ الدِّينِ الألبانيُّ:
كان الألبانيُّ همَّتُه عاليةٌ، وشَغَفُه بالعِلمِ لَيسَ له حُدودٌ في عَصرٍ وُصِف بــ(عَصرِ الفِتَنِ والغوايا وخَساسةِ الهمَمِ، عَصرِ الزُّهدِ في العِلمِ، والقُصورِ في طَلَبِه) [6701] يُنظر: ((حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه)) لمحمد الشيباني (1/27). . فقَيَّضَ اللَّهُ لهذه الأُمَّةِ عالِمًا (بَكرَ في طَلَبِه للعِلمِ ودوَّنَه، وصَبَرَ على تَلَقِّيه صَبرًا طَويلًا، وحَرَّضَ شَبابَ الأمةِ على طَلَبِه، ودَلَّهم على مَصادِرِه ومَظانِّه) [6702] يُنظر: ((حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه)) لمحمد الشيباني (1/27). . فاهتَمَّ بعِلمِ الحَديثِ وأصبَحَ شُغلَه الشَّاغِلَ (حتَّى كان يُغلِقُ مَحَلَّه ويذهَبُ إلى المَكتَبةِ الظَّاهريَّةِ، ويبقى فيها اثنَتَي عَشرةَ ساعةً، لا يفتُرُ عنِ المُطالَعةِ والتَّعليقِ والتَّحقيقِ، إلَّا أثناءَ فتَراتِ الصَّلاةِ، وكان يتَناوَلُ طَعامَه البَسيطَ في المَكتَبةِ في كثيرٍ مِنَ الأحيانِ فيها... ولهذا قدَّرَته إدارةُ المَكتَبةِ فخَصَّصَت له غُرفةً خاصَّةً به؛ ليقومَ فيها مَعَ بَعضِ أُمَّهاتِ المَصادِرِ بأبحاثِه العِلميَّةِ المُفيدةِ، فكان يدخُلُ قَبلَ الموظَّفينَ صَباحًا، وفي بَعضِ الأحيانِ كان مِن عادةِ الموظَّفينَ الانصِرافُ إلى بُيوتِهم ظُهرًا ثُمَّ لا يعودونَ، ولَكِنَّ الشَّيخَ يبقى في المَكتَبةِ ما شاءَ اللَّهُ له البَقاءَ، فرُبَّما يُصَلِّي العِشاءَ ثُمَّ ينصَرِفُ. وإنَّ كُلَّ مَن رَآه في المَكتَبةِ يعرِفُ مَدى اجتِهادِه وحِرصِه على الاستِفادةِ مِن وقَتِه... وكان يُجيبُ عن بَعضِ الأسئِلةِ التي تُوجَّه إليه، وهو ينظُرُ في الكِتابِ دونَ أن يرفعَ بَصَرَه إلى مُحَدِّثِه، بأوجَزِ عِبارةٍ تُؤَدِّي إلى الغَرَضِ...) [6703] يُنظر: ((حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه)) لمحمد الشيباني (1/52، 53). .
(ويقولُ مُحَمَّدُ بنُ إبراهيمَ الشَّيبانيُّ: الشَّيخُ لَم تَسنَحْ له الفُرصةُ ليكتُبَ قِصَّةَ حَياتِه بنَفسِه؛ لانشِغالِه بطَلَبِ العِلمِ والتَّنَقُّلِ في فُنونِه، وإلَّا لأصبَحَت قِصَّتُه مُؤَثِّرةً حَزينةً مُبكيةً، وقد قال لي يومًا: لو كان عِندي فُسحةٌ مِنَ الوقتِ لكتَبتُ ما لَم تَسمَعْ به مِنَ القِصَصِ.
ومِن شِدَّةِ العنَتِ والفَقرِ الذي عاشَه الشَّيخُ أنَّه كان لا يملِكُ قيمةَ ورَقةٍ يشتَريها ليُسَوِّدَها بما مَنَّ اللَّهُ تعالى عليه مِن عِلمٍ فيها! فكان يطوفُ في الشَّوارِعِ والأزِقَّةِ يبحَثُ عنِ الأوراقِ السَّاقِطةِ فيها مِن هنا وهناك؛ ليكتُبَ على ظَهرِها1) [6704] يُنظر: ((صلاح الأمة في علو الهمة)) لسيد العفاني (1/590). .

انظر أيضا: