موسوعة الأخلاق والسلوك

ج- نَماذِجُ مِنَ العَدلِ والإنصافِ عِندَ السَّلَفِ والعُلَماءِ


- عن صالحِ بنِ مُسلمٍ، عن أبي وائِلٍ شَقيقِ بنِ سَلَمةَ، قال: رَأيتُ سَلمانَ بنَ رَبيعةَ جالسًا بالمَدائِنِ على قَضائِها، استَقضاه عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ أربَعينَ يومًا، فما رَأيتُ بَينَ يدَيه رَجُلينِ يختَصِمانِ لا بالقَليلِ ولا بالكثيرِ! فقُلْنا لأبي وائِلٍ: فمِمَّ ذاك؟ قال: مِنِ انتِصافِ النَّاسِ فيما بَينَهم [6283] ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (10/ 285). !
- وبينا عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ يسيرُ يومًا في سوقِ حِمصَ، فقامَ إليه رَجُلٌ عليه بُردانِ قِطْريَّانِ، فقال: يا أميرَ المُؤمِنينَ، أمَرتَ مَن كان مَظلومًا أن يأتيَك؟ قال: نَعمْ، قال: فقد أتاك مَظلومٌ بَعيدُ الدَّارِ، فقال له عُمرُ: وأينَ أهلُك؟ قال: بعَدَنِ أبيَنَ، قال عُمَرُ: واللهِ إنَّ أهلَك مِن أهلِ عُمَرَ لبَعيدٌ، فنَزَل عن دابَّتِه في مَوضِعِه، فقال: ما ظُلامتُك؟ قال: ضَيعةٌ لي وثَبَ عليها واثِبٌ فانتَزَعَها مِنِّي، فكتَبَ إلى عُروةَ بنِ مُحَمَّدٍ يأمُرُه أن يسمَعَ مِن بَيِّنتِه، فإن ثَبت له حَقٌّ دَفعَه إليه، وخَتمَ كِتابَه، فلمَّا أرادَ الرَّجُلُ القيامَ، قال له عُمَرُ: على رِسْلِك، إنَّك قد أتَيتَنا مِن بَلدٍ بَعيدٍ، فكم نَفِدَ لك زادٌ، أو نَفقَت لك راحِلةٌ، وأخلَقَ لك ثَوبٌ؟ فحَسَب ذلك، فبَلغَ أحَدَ عَشَرَ دينارًا، فدَفعَها عُمَرُ إليه [6284] ((حلية الأولياء وطبقات الأصفياء)) (5/ 280). .
- وعن غَيلانَ بنِ مَيسَرةَ أنَّ رَجُلًا أتى عُمَرَ بنَ عَبدِ العَزيزِ، فقال: زَرَعتُ زَرعًا فمَرَّ به جَيشٌ مِن أهلِ الشَّامِ فأفسَده، فعَوَّضَه عَشَرةَ آلافِ دِرهَمٍ [6285] ((حلية الأولياء وطبقات الأصفياء)) (5/ 325). .
- وعن مُصعَبِ بنِ عَبدِ اللهِ قال: )كان عُبَيدُ اللهِ بنُ ظَبيانَ قاضيَ الرَّقَّةِ، وكان الرَّشيدُ إذ ذاك بها، فجاءَ رَجُلٌ فاستَعدى إليه مِن عيسى بنِ جَعفرٍ، فكتَبَ إليه ابنُ ظَبيانَ: «أمَّا بَعدُ، أبقى اللهُ الأميرَ وحَفِظَه، وأتَمَّ نِعمَته عليه، أتاني رَجُلٌ يذكُرُ أنَّه فُلانُ بنُ فُلانٍ، وأنَّ له على الأميرِ -أبقاه اللهُ- خَمسَمِائةِ ألفِ دِرهَمٍ، فإن رَأى الأميرُ -أبقاه اللهُ- أن يحضُرَ مَعَه مَجلِسَ الحُكمِ أو يُوكِلَ وكيلًا يُناظِرُ خَصمَه فَعَل». قال: ودَفعَ الكِتابَ إلى الرَّجُلِ فأتى بابَ عيسى بنِ جَعفَرٍ فدَفعَ الكِتابَ إلى حاجِبِه فأوصَلَه إليه، فقال له: كل هذا الكِتاب.
فرَجَعَ إلى القاضي فأخبَرَه، فكتَبَ إليه: أبقاك اللهُ وحَفِظَك وأمتَعَ بك، حَضَرَ رَجُلٌ يُقال له فلانُ بنُ فُلانٍ، فذَكرَ أنَّ له عليك حَقًّا فصِرْ مَعَه إلى مَجلِسِ الحُكمِ أو وكيلُك إن شاءَ اللهُ.
ووجَّهَ بالكِتابِ مَعَ عَونَينِ مِن أعوانِه، فحَضرا بابَ عيسى بنِ جَعفَرٍ ودَفعا الكِتابَ إليه، فغَضِبَ ورَمى به، فانطَلقا إليه فأخبَراه.
فكتَبَ إليه: حَفِظَك اللهُ وأبقاك وأمتَعَ بك، لا بُدَّ أن تَصيرَ أنتَ وخَصمُك إلى مَجلِسِ الحُكمِ، فإن أنتَ أبَيتَ رَفعتُ أمرَك إلى أميرِ المُؤمِنينَ إن شاءَ اللهُ.
ووجَّهَ الكِتابَ مَعَ رَجُلينِ مِن أصحابِه العُدولِ، فقَعَدا على بابِ عيسى بنِ جَعفَرٍ حتَّى خَرَجَ، فقاما إليه ودَفعا إليه كِتابَ القاضي، فلم يقرَأْه ورَمى به، فأبلَغَاه ذلك. فخَتَمَ قِمَطرَه [6286] القِمَطْرُ: ما تصانُ فيه الكُتُبُ. يُنظَر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 260). وانصَرَف وقَعَدَ في بَيتِه، وبَلغَ الخَبَرُ الرَّشيدَ فدَعاه فسَألَه عن أمرِه، فأخبَرَه بالقِصَّةِ حَرفًا حَرفًا، فقال لإبراهيمَ بنِ عُثمانَ: صِرْ إلى بابِ عيسى بنِ جَعفَرٍ فاختِمْ عليه أبوابَه كُلَّها، ولا يخرُجنَّ أحَدٌ ولا يدخُلَنَّ أحَدٌ عليه حتَّى يُخرِجَ إلى الرَّجُلِ مِن حَقِّه أو يصيرَ مَعَه إلى الحاكِمِ.
قال: فأحاطَ إبراهيمُ بدارِه ووكَّل بها خَمسينَ فارِسًا وأُغلِقَت أبوابُه، وظَنَّ عيسى أنَّه قد حَدَثَ للرَّشيدِ رَأيٌ في قَتلِه، فلم يَدْرِ ما سَبَبُ ذلك، وجَعَل يُكلِّمُ الأعوانَ مِن خَلفِ البابِ، وارتَفعَ الصِّياحُ مِن دارِه، وصَرَخَ النِّساءُ، فأمَرَهنَّ أن يسكُتنَ، وقال لبَعضِ غِلمانِ إبراهيمَ: ادعُ لي أبا إسحاقَ لأُكلِّمَه، فأعلَموه ما قال، فجاءَ حتَّى صارَ إلى البابِ، فقال له عيسى: ويلَك ما حالُنا؟! فأخبَرَه خَبَرَ ابنِ ظَبيانَ، فأمر أن تُحضَرَ خَمسُمِائةِ ألفِ دِرهَمٍ مِن ساعَتِه ويُدفَعَ بها إلى الرَّجُلِ.
فجاءَ إبراهيمُ إلى الرَّشيدِ فأخبَرَه، فقال: إذا قَبَضَ الرَّجُلُ مالَه فافتَحْ أبوابَه) [6287] ((الجليس الصالح)) للمعافى بن زكريا (ص: 222). .
- وعن يحيى بنِ أكثَمَ قال: (كُنتُ أمشي يومًا مَعَ المَأمونِ في بُستانِ موسى في مَيدانِ البُستان، والشَّمسُ عليَّ وهو في الظِّلِّ، فلمَّا رَجَعْنا قال لي: كُنِ الآنَ أنتَ في الظِّلِّ، فأبَيتُ عليه، فقال: أوَّلُ العَدلِ أن يَعدِلَ المَلِكُ في بطانَتِه، ثُمَّ الذين يلونَهم، حتَّى يبلُغَ إلى الطَّبَقةِ السُّفلى) [6288] ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (11/ 437). .
- عن عُمَرَ بنِ الهيَّاجِ بنِ سَعيدٍ أخي مجالِدِ بنِ سَعيدٍ، قال: (كنتُ من صحابةِ شَريكِ بنِ عبدِ اللهِ النَّخَعيِّ القاضي، فأتيتُه يومًا وهو في منزلِه باكِرًا، فخرَج إليَّ في فَروٍ ليس تحتَه قميصٌ، عليه كِساءٌ.
فقُلتُ له: قد أضحيتَ عن مجلِسِ الحُكمِ! فقال: غسَلْتُ ثيابي أمسِ فلم تَجِفَّ، فأنا أنتظِرُ جفوفَها، اجلِسْ. فجَلَستُ فجَعَلْنا نتذاكَرُ بابَ العبدِ يتزوَّجُ بغيرِ إذنِ مواليه، فقال: ما عندَك فيه؟ ما تقولُ فيه؟ وكانت الخَيزُرانُ قد وجَّهَت رجلًا نصرانيًّا على الطِّرازِ بالكوفةِ، وكتَبَت إلى موسى بنِ عيسى ألَّا يعصيَ له أمرًا، فكان مُطاعًا بالكوفةِ، فخرج علينا ذلك اليومَ مِن زُقاقٍ يخرُجُ إلى النَّخعِ، معه جماعةٌ من أصحابِه، عليه جُبَّةُ خَزٍّ وطَيلَسانٌ [6289] الطَّيلَسانُ: ضربٌ من الأوشحةِ يُلبَسُ على الكَتِفِ أو يحيطُ بالبَدَنِ، خالٍ عن التَّفصيلِ والخياطةِ. يُنظَر: ((المعجم الوسيط)) (2/ 561). على بِرْذَونٍ [6290] البِرْذَونُ: يُطلَقُ على غيرِ العَرَبيِّ من الخيلِ والبغالِ من الفصيلةِ الخيليَّةِ. يُنظَر: ((المعجم الوسيط)) (1/ 48). فارِهٍ [6291] الفارِهُ من الدَّوابِّ: الجَيدُ السِّيرِ. يُنظَر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 239). ، وإذا رجُلٌ بَيْنَ يديه مكتوفٌ وهو يقولُ: واغَوْثًا باللَّهِ، أنا باللهِ ثمَّ بالقاضي، وإذا آثارُ سِياطٍ في ظَهرِه، فسَلَّم على شريكٍ وجَلَس إلى جانبِه، فقال الرَّجُلُ المضروبُ: أنا باللهِ ثمَّ بك، أصلحَك اللَّهُ! أنا رجلٌ أعمَلُ هذا الوشيَ، كِراءُ مِثلي مائةٌ في الشَّهرِ، أخَذَني هذا مُذْ أربعةِ أشهُرٍ، فاحتَبَسَني في طِرازٍ يُجري عليَّ القوتَ، وعَلَيَّ عيالٌ قد ضاعوا، فأفلَتُّ اليومَ منه، فلَحِقَني ففَعَل بظهري ما ترى. فقال: قُمْ يا نصرانيُّ فاجلِسْ مع خَصمِك، فقال: أصلَحَك اللهُ يا أبا عبدِ اللهِ، هذا مِن خَدَمِ السَّيِّدةِ! مُرْ به إلى الحَبسِ! قال: قُمْ وَيْلَك فاجلِسْ معه كما يُقالُ لك! فجَلَس، فقال: ما هذه الآثارُ التي بظَهرِ هذا الرَّجُلِ، مَن أثَّرها به؟ قال: أصلَحَ اللهُ القاضيَ، إنَّما ضرَبتُه أسواطًا بيدي وهو يستحِقُّ أكثَرَ من هذا، مُرْ به إلى الحَبسِ! فألقى شريكٌ كِساءَه ودَخَل دارَه، فأخرَجَ سَوطًا رَبَذيًّا، ثمَّ ضَرَب بيَدِه إلى مجامِعِ ثَوبِ النَّصرانيِّ وقال للرَّجُلِ: انطَلِقْ إلى أهلِك، ثمَّ رَفَع السَّوطَ فجَعَل يَضرِبُ به النَّصرانيَّ، وهو يقولُ له: يا صُبحي قد مر قفا جَمَلٍ، لا يُضرَبُ واللهِ المُسلِمُ بعدَها أبدًا، فهمَّ أعوانُه أن يُخَلِّصوه مِن يَدَيه، فقال: مَن هاهنا مِن فتيانِ الحيِّ؟ خذوا هؤلاء فاذهَبوا بهم إلى الحَبسِ، فهَرَب القومُ جميعًا، وأفردوا النَّصرانيَّ فضَرَبَه أسواطًا، فجَعَل النَّصرانيُّ يَعصِرُ عَينَيه ويبكي ويقولُ له: ستعلَمُ!
فألقى السَّوطَ في الدِّهليزِ، وقال: يا أبا حَفصٍ، ما تقولُ في العبدِ يتزَوَّجُ بغيرِ إذنِ مواليه؟ وأخَذ فيما كُنَّا فيه كأنَّه لم يصنَعْ شَيئًا! وقام النَّصرانيُّ إلى البِرذَونِ ليركبَه فاستعصى عليه، ولم يكُنْ له من يأخُذُ برِكابِه، فجَعَل يَضرِبُ البِرذَونَ، قال: يقولُ له شَريكٌ: ارفُقْ به وَيْلَك! فإنَّه أطوَعُ للهِ منك، فمضى.
قال: يقولُ هو: خُذْ بنا فيما كُنَّا فيه، قال: قُلتُ: ما لنا ولذا؟ قد واللهِ فعَلْتَ اليومَ فَعلةً ستكونُ لها عاقبةٌ مكروهةٌ. قال: أعِزَّ أمرَ اللهِ يُعِزَّك اللَّهُ! خُذْ بنا فيما نحن فيه، قال: وذَهَب النَّصرانيُّ إلى موسى بنِ عيسى فدَخَل عليه، فقال: ما بك؟ وغَضِب الأعوانُ وصاحِبُ الشُّرَطِ، فقال: شَريكٌ فَعَل بي كَيتَ وكَيتَ، قال: لا واللهِ ما أتعَرَّضُ لشَريكٍ! فمضى النَّصرانيُّ إلى بغدادَ فما رَجَع) [6292] يُنظَر: ((أخبار القضاة)) لوكيع (3/ 169، 170)، ((الجليس الصالح الكافي)) للمعافى بن زكريا (ص: 232، 233)، ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (10/ 394، 395). .
- عن عُمَرَ بنِ الهيَّاجِ بنِ سَعيدٍ قال: (أتته امرأةٌ يومًا -يعني: شريكًا- من وَلَدِ جريرِ بنِ عبدِ اللهِ البَجَليِّ صاحِبِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو في مَجلسِ الحُكمِ، فقالت: أنا باللهِ ثُمَّ بالقاضي، امرَأةٌ مِن وَلَدِ جَريرِ بنِ عَبدِ اللهِ صاحِبِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! ورَدَّدَتِ الكلامَ، فقال: إيهًا [6293] إيهًا بالنصبِ: أمرٌ بالسُّكوتِ، أي: كُفَّ، وقد تَرِدُ المنصوبةُ بمعنى التَّصديقِ والرِّضا بالشَّيءِ . يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (13/ 474)، ((تاج العروس)) للزبيدي (36/ 335). عنك الآنَ، مَن ظَلمَك؟ فقالت: الأميرُ موسى بنُ عيسى، كان لي بُستانٌ على شاطِئِ الفُراتِ لي فيه نَخلٌ ورِثتُه عن آبائي وقاسَمتُ إخوتي، وبَنَيتُ بَيني وبَينَهم حائِطًا، وجَعَلتُ فيه فارِسيًّا في بَيتٍ يحفَظُ النَّخلَ، ويقومُ ببُستاني، فاشتَرى الأميرُ موسى بنُ عيسى مِن إخوتي جَميعًا، وساومَني وأرغبَني فلم أبِعْه، فلمَّا كان في هذه اللَّيلةِ بَعثَ بخَمسِمِائةِ فاعِلٍ فاقتَلعوا الحائِطَ، فأصبَحتُ لا أعرِفُ مِن نخلي شَيئًا، واختَلطَ بنَخلِ إخوتي! فقال: يا غُلامُ، طينةٌ، فخَتَم، ثُمَّ قال لها: امضي إلى بابِه حتَّى يحضُرَ مَعَكِ، فجاءَتِ المرأةُ بالطِّينةِ فأخذها الحاجِبُ، ودَخَل على موسى، فقال: أعدى شَريكٌ عليك، قال: ادعُ لي صاحِبَ الشُّرَطِ، فدَعا به، فقال: امضِ إلى شَريكٍ، فقُلْ: يا سُبحانَ اللهِ، ما رَأيتُ أعجَبَ مِن أمرِك، امرَأةٌ ادَّعَت دَعوى لم تَصِحَّ أعدَيتَها عليَّ! قال: يقولُ له صاحِبُ الشُّرَطِ، إن رَأى الأميرُ أن يُعفيَني فليفعَلْ، فقال: امضِ وَيْلَك!
فخَرَجَ فأمَر غِلمانَه أن يتَقدَّموا إلى الحَبسِ بفِراشٍ وغَيرِه مِن آلةِ الحَبسِ، فلمَّا جاءَ فوقَف بَينَ يدَي شَريكٍ، فأدَّى الرِّسالةَ، قال: خُذْ بيدِه فضَعْه في الحَبسِ، قال: قد واللهِ يا أبا عَبدِ اللهِ عَرَفتُ أنَّك تَفعَلُ بي هذا، فقدَّمتُ ما يُصلِحُني إلى الحَبسِ! وبَلَغَ موسى بنَ عيسى الخَبَرُ، فوجَّه الحاجِبَ إليه، فقال: هذا مِن ذاك رَسولٌ، أيُّ شَيءٍ عليه؟ فلمَّا وقَف بَينَ يدَيه وأدَّى الرِّسالةَ، قال: ألحِقْه بصاحِبِه، فحُبِسَ، فلمَّا صَلَّى الأميرُ العَصرَ بَعَثَ إلى إسحاقَ بنِ الصَّباحِ الأشعَثيِّ وجَماعةٍ مِن وُجوهِ الكوفةِ مِن أصدِقاءِ شَريكٍ، فقال: امضوا إليه فأبلِغوه السَّلامَ، وأعلِموه أنَّه قدِ استَخَفَّ بي، وأنِّي لستُ كالعامَّةِ، فمَضَوا وهو جالسٌ في مَسجِدِه بَعدَ العَصرِ، فدَخَلوا فأبلَغوه الرِّسالةَ، فلمَّا انقَضى كلامُهم، قال لهم: ما لي لا أراكم جِئتُم في غَيرِه مِنَ النَّاسِ كلَّمتُموني؟ مَن هاهنا مِن فِتيانِ الحَيِّ، فيأخُذُ كُلُّ واحِدٍ مِنكم بيَدِ رَجُلٍ فيذهَبُ به إلى الحَبسِ، لا بتُّمْ واللهِ إلَّا فيه! قالوا: أجادٌّ أنتَ؟ قال: حَقًّا حتَّى لا تَعودوا برِسالةِ ظالمٍ، فحَبَسَهم، ورَكب موسى بنُ عيسى في اللَّيلِ إلى بابِ الحَبسِ، ففتَحَ البابَ وأخرَجَهم جَميعًا، فلمَّا كان الغَدُ وجَلسَ شَريكٌ للقَضاءِ جاءَ السَّجَّانُ فأخبَرَه، فدَعا بالقِمَطْرِ فخَتَمَها، ووجَّهَ بها إلى مَنزِلِه، وقال لغلامِه: الحَقْني بثِقلي إلى بَغدادَ، واللهِ ما طَلَبْنا هذا الأمرَ منهم، ولكِنْ أكرَهونا عليه، ولقد ضَمِنوا لنا الإعزازَ فيه إذ تَقَلَّدْناه لهم!
ومَضى نَحو قَنطَرةِ الكوفةِ إلى بَغدادَ، وبلغَ موسى بنَ عيسى الخَبَرُ، فرَكِبَ في مَوكِبِه فلحِقَه، وجَعَل يُناشِدُه اللهَ ويقولُ: يا أبا عَبدِ اللهِ، تَثبَّتْ، انظُرْ، إخوانُك تَحبِسُهم؟ دَعْ أعواني!
قال: نَعَم؛ لأنَّهم مَشَوا لك في أمرٍ لم يجِبْ عليهمُ المَشيُ فيه، ولستُ ببارِحٍ أو يُرَدُّوا جَميعًا إلى الحَبسِ، وإلَّا مَضَيتُ إلى أميرِ المُؤمِنينَ فاستَعفيتُه مِمَّا قَلَّدني.
وأمرَ برَدِّهم جَميعًا إلى الحَبسِ، وهو -واللهِ- واقِفٌ في مَكانِه، حتَّى جاءَه السَّجَّانُ، فقال: قد رَجَعوا إلى الحَبسِ، فقال لأعوانِه: خُذوا بلِجامِه، قودوه بَينَ يدي جَميعًا إلى مَجلِسِ الحُكمِ، فمَرُّوا به بَينَ يدَيه حتَّى أُدخِل المَسجِدَ، وجَلسَ مَجلِسَ القَضاءِ، ثُمَّ قال: الجُوَيريةُ المُتَظَلِّمةُ مِن هذا، فجاءَت، فقال: هذا خَصمُك قد حَضَرَ، وهو جالسٌ مَعَها بَينَ يدَيه، فقال: أولئك يخرُجونَ مِنَ الحَبسِ قَبلَ كُلِّ شَيءٍ، قال: أمَّا الآنَ فنَعم، أخرِجوهم.
قال: ما تَقولُ فيما تَدَّعيه هذه؟ قال: صَدَقَت.
قال: فرُدَّ جَميعَ ما أُخِذَ منها، وتَبني حائطَها في وقتٍ واحِدٍ سَريعًا كما هُدِمَ.
قال: أفعَلُ، قال: بَقيَ لك شَيءٌ؟ قال: تَقولُ المَرأةُ: بَيتُ الفارِسيِّ ومَتاعُه، قال: يقولُ: موسى بنُ عيسى: ويَرُدُّ ذلك، بَقيَ لكِ شَيءٌ تَدَّعينَه؟ قالت: لا، وجَزاك اللهُ خَيرًا. قال: قومي، وزَبَرَها [6294] أي: نهَرها. يُنظَر: ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (1/ 308). ، ثُمَّ وثَبَ مِن مَجلسِه فأخَذَ بيدِ موسى بنِ عيسى فأجلسَه في مَجلسِه، ثُمَّ قال: السَّلامُ عليك أيُّها الأميرُ، تَأمُرُ بشَيء؟! قال: أيُّ شَيءٍ آمُرُ؟! وضَحِك) [6295] يُنظَر: ((أخبار القضاة)) لوكيع (3/ 170، 171)، ((الجليس الصالح الكافي)) للمعافى بن زكريا (ص: 213، 214)، ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (10/ 395 - 397). .
- وعن أبي القاسِمِ عُبَيدِ اللهِ بنِ سُلَيمانَ قال: (كُنتُ أكتُبُ لموسى بنِ بَغا، وكُنَّا بالرَّيِّ، وقاضيها إذ ذاك أحمَدُ بنُ بديلٍ الكوفيُّ، فاحتاجَ موسى أن يجمَعَ ضَيعةً هناك كان له فيها سِهامٌ ويعمُرُها، وكان فيها سَهمٌ ليتيمٍ، فصِرتُ إلى أحمَدَ بنِ بديلٍ، أو فاستَحضَرتُ أحمَدَ بنَ بديلٍ وخاطبتُه في أن يبيعَ علينا حِصَّةَ اليتيمِ ويأخُذَ الثَّمَنَ، فامتَنَعَ، وقال: ما باليتيمِ حاجةٌ إلى البَيعِ، ولا آمَنُ أن أبيعَ مالَه وهو مُستَغنٍ عنه فيحدُثَ على المالِ حادِثةٌ، فأكونَ قد ضَيَّعتُه عليه، فقُلتُ: إنَّا نُعطيك في ثَمَنِ حِصَّتِه ضِعفَ قيمَتِها، فقال: ما هذا لي بعُذرٍ في البَيعِ، والصُّورةُ في المالِ إذا كثُرَ مِثلُها إذا قَلَّ، قال: فأدَرتُه بكُلِّ لونٍ وهو يمتَنِعُ فأضجَرَني، فقُلتُ له: أيُّها القاضي، ألا تَفعَلُ؟ فإنَّه موسى بنُ بَغا! فقال لي: أعَزَّك اللهُ، إنَّه اللهُ تَبارَك وتعالى! قال: فاستَحييتُ مِنَ اللهِ أن أُعاوِدَه بَعدَ ذلك، وفارَقتُه، فدَخَلتُ على موسى، فقال: ما عَمِلتَ في الضَّيعةِ؟ فقَصَصتُ عليه الحَديثَ، فلمَّا سَمِعَ أنَّه اللهُ بكى، وما زال يُكرِّرُها، ثُمَّ قال: لا تَعرِضْ لهذه الضَّيعةِ، وانظُرْ في أمرِ هذا الشَّيخِ الصَّالحِ، فإن كانت له حاجةٌ فاقضِها، قال: فأحضَرتُه، وقُلتُ له: إنَّ الأميرَ قد أعفاك مِن أمرِ الضَّيعةِ، وذلك أنِّي شَرَحتُ له ما جرى بَينَنا، وهو يعرِضُ عليك قَضاءَ حَوائِجِك، قال: فدعا له، وقال: هذا الفِعلُ أحفَظُ لنِعمَتِه، وما لي حاجةٌ إلَّا إدرارُ رِزقي، فإنَّه تَأخَّرَ مُنذُ شُهورٍ وأضَرَّني ذلك، قال: فأطلقتُ له جارِيَه) [6296] ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (5/ 82، 83). .
- وجاءَ المَلِكَ نورَ الدِّين مَحمود رَجُلٌ طَلبه إلى الشَّرعِ، فجاءَ مَعَه إلى مَجلِسِ كمالِ الدِّينِ الشَّهرزوريِّ، وتَقدَّمه الحاجِبُ يقولُ للقاضي: قد قال لك: اسلُك مَعَه ما تَسلُكُ مَعَ آحادِ النَّاسِ. فلمَّا حَضَرَ سَوَّى بَينَه وبَينَ خَصمِه، وتَحاكما، فلم يثبُتْ للرَّجُلِ عليه حَقٌّ، وكان مَلِكًا، ثُمَّ قال السُّلطانُ: فاشهَدوا أنِّي قد وهَبتُه له.
وكان يقعُدُ في دارِ العَدلِ في الجُمعةِ أربَعةَ أيَّامٍ، ويأمُرُ بإزالةِ الحاجِبِ والبَوَّابينَ [6297] ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (20/ 536). ويُنظَر: ((مرآة الزمان في تواريخ الأعيان)) (21/ 206). .
- وكتَبَ المَنصورُ إلى سوارٍ في شَيءٍ كان الحَقُّ في خِلافِه، فلم يُنفِذْ سوارٌ كِتابَه، وأمضى الحُكمَ عليه، فتَغيَّظ المَنصورُ عليه وتوعَّده. فقيل له: يا أميرَ المُؤمِنينَ، إنَّما عَدلُ سوارٍ لك ومُضافٌ إليك وزَينُ خِلافتِك، فأمسَكَ عنه [6298] ((التذكرة الحمدونية)) (3/182). .
- وقال الشَّعبيُّ: (كان بَينَ عَبدِ اللهِ بنِ شُرَيحٍ وبَينَ قَومٍ خُصومةٌ، فقال: يا أبَتِ، إنَّ بَيني وبَينَ قَومٍ خُصومةً، فإن كان الحَقُّ لي خاصَمتُهم. قال: اذكُرْ لي قِصَّتَك، فذكَرَها له، فقال: ائتِني بهم، فلمَّا أتاه بهم قَضى على ابنِه! فلمَّا رَجَعَ قال: يا أبَتِ، لو لم أُخبِرْك بقِصَّتي كان أعذَرَ لك عِندي! فقال: يا بُنَيَّ أنت أعَزُّ عليَّ مِن ملءِ الأرضِ مِثلَهم، واللهُ تعالى أعَزُّ عليَّ مِنك. كرِهتُ أن أُخبرَك أنَّ القَضاءَ عليك فتُصالِحَهم!) [6299] ((التذكرة الحمدونية)) (3/176). .
- وقَّعَ جَعفَرُ بنُ يحيى إلى عامِلٍ له: (أنصِفْ مَن وَلِيتَ أمرَه، وإلَّا أنصَفَه مِنك مَن وَلِيَ أمْرَك!) [6300] ((التذكرة الحمدونية)) (3/177). .

انظر أيضا: