موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- نَماذِجُ مِن صَبرِ نَبيِّنا مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم


لقد صَبر الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبَلغَ صَبرُه مَبلغًا عَظيمًا، وهذه نَماذِجُ مُتَنَوِّعةٌ مِن صَبرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
صَبرُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على المُشرِكينَ حينَما آذَوه، ورَمَوه بالكذِبِ والكِهانةِ والسِّحرِ:
- قال ابنُ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه: ((بَينا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ساجِدٌ وحَوله ناسٌ مِن قُرَيشٍ جاءَ عُقبةُ بنُ أبي مُعَيطٍ بسَلى جَزورٍ [5633] هي مَشيمةُ البهيمةِ. وقيل: السَّلى: الجِلدُ الرَّقيقُ الذي يخرجُ فيه الولدُ من بطنِ أمهِ ملفوفًا فيه. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/ 396)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 133). ، فقَذَفه على ظَهرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم يرفع رَأسَه، فجاءَت فاطِمةُ عليها السَّلامُ فأخَذَته من ظَهرِه، ودَعَت على مَن صَنَعَ)) [5634] رواه البخاري (3854) واللفظ له، ومسلم (1794). .
- وعن عائِشةَ رضِي اللهُ عنها زوجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أنَّها قالت للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((هل أتى عليك يومٌ كان أشَدَّ مِن يومِ أحُدٍ؟ قال: لقد لَقِيتُ مِن قومِك ما لقيتُ، وكان أشَدُّ ما لقيتُ منهم يومَ العَقَبةِ؛ إذ عرضْتُ نَفسي على ابنِ عبدِ يالِيلَ بنِ عَبدِ كُلالٍ، فلم يُجِبْني إلى ما أردْتُ، فانطلقْتُ وأنا مهمومٌ على وَجهي، فلم أستفِقْ إلَّا وأنا بقَرنِ الثَّعالِبِ، فرفعْتُ رأسي فإذا أنا بسَحابةٍ قد أظلَّتني، فنظرْتُ فإذا فيها جِبريلُ، فناداني، فقال: إنَّ اللهَ قد سمِع قولَ قومِك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعَث اللهُ إليك ملَكَ الجِبالِ لتأمُرَه بما شئْتَ فيهم، فناداني ملَكُ الجِبالِ، فسلَّم عليَّ، ثُمَّ قال: يا مُحمَّدُ، فقال: ذلك فيما شئْتَ، إن شئْتَ أن أُطبِقَ عليهم الأخشَبَينِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بل أرجو أن يُخرِجَ اللهُ مِن أصلابِهم مَن يعبُدُ اللهَ وَحدَه لا يُشرِكُ به شيئًا)) [5635] رواه البخاري (3231)، ومسلم (1795) واللفظ له. .
- عن عُروةَ بنِ الزُّبَيْرِ قال: (قُلتُ لِعَبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ: أخبِرْني بأشَدِّ ما صَنَعَ المُشركونَ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: بَينا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصَلِّي بفِناءِ الكَعبةِ إذ أقبَلَ عُقْبةُ بنُ أبي مُعَيْطٍ، فأخذَ بمَنكِبِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولَوى ثَوبَه في عُنُقِه فخَنقَهُ خَنقًا شَديدًا) [5636] رواه البخاري (4815). .
صَبرُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على المُنافِقينَ:
عن أسامةَ بنِ زَيدٍ رَضيَ اللهُ عنهما ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ركِبَ حمارًا عليه إكافٌ [5637] هو كالبَّرذعةِ ونحوِها لذَواتِ الحافِرِ. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 80). ، تحته قَطيفةٌ فَدَكيَّةٌ [5638] أي: كِساءٌ غليظٌ منسوبٌ إلى فَدَكٍ، وهو بلدٌ مشهورٌ.  يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/ 231). ، وأردف وراءَه أسامةَ، وهو يعودُ سَعدَ بنَ عُبادةَ في بني الحارِثِ بنِ الخَزرَجِ. وذاك قبلَ وَقعةِ بَدرٍ، حتَّى مرَّ بمجلِسٍ فيه أخلاطٌ من المسلِمين والمُشرِكين عَبَدةِ الأوثانِ، واليهودِ، فيهم عبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيٍّ، وفي المجلِسِ عبدُ اللَّهِ بنُ رَواحةَ، فلمَّا غَشِيَت المجلِسَ عَجاجةُ [5639] العَجاجُ: الغُبارُ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (2/319). الدَّابَّةِ، خَمَّر عبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيٍّ أنفَه بردائِه، ثمَّ قال: لا تُغَبِّروا علينا، فسَلَّم عليهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثمَّ وَقَف فنَزَل؛ فدعاهم إلى اللَّهِ، وقرَأَ عليهم القُرآنَ، فقال عبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيٍّ: أيُّها المرءُ، لا أحسَنُ مِن هذا إن كان ما تقولُ حَقًّا! فلا تُؤذِنا في مجالِسِنا، وارجِعْ إلى رَحْلِك، فمَن جاءك منَّا فاقصُصْ عليه. فقال عبدُ اللَّهِ بنُ رَواحةَ: اغْشَنا في مجالِسِنا؛ فإنَّا نحِبُّ ذلك، قال: فاستَبَّ المسلمون والمُشرِكون واليهودُ حتَّى همُّوا أن يتواثَبوا، فلم يَزَلِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُخَفِّضُهم، ثمَّ رَكِبَ دابَّتَه حتَّى دَخَل على سعدِ بنِ عُبادةَ، فقال: أيْ سَعدُ، ألم تسمَعْ إلى ما قال أبو حُبابٍ؟! يُريدُ عبدَ اللَّهِ بنَ أُبَيٍّ، قال كذا وكذا، قال: اعْفُ عنه يا رسولَ اللَّهِ واصفَحْ، فواللَّهِ لقد أعطاك اللَّهُ الذي أعطاك، ولقد اصطَلَح أهلُ هذه البُحَيرةِ أن يُتَوِّجوه فيُعَصِّبوه بالعِصابةِ [5640] أي: يُسَوّدوه ويُملِّكوه، وكانوا يُسمُّون السيدَ المُطاعَ مُعَصَّبًا؛ لأَنَّه يُعَصَّبُ بالتَّاجِ أو تُعَصَّبُ به أمورُ النَّاسِ: أي: تُرَدُّ إليه وتُدارُ به. يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (3/ 244). ، فلمَّا ردَّ اللَّهُ ذلك بالحَقِّ الذي أعطاكه شَرِقَ [5641] الشَّرقُ: الشَّجا والغُصَّةُ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (10/177). بذلك، فلذلك فَعَل به ما رأيتَ! فعفا عنه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) [5642] رواه البخاري (6254)، ومسلم (1798) واللفظ له. .
صَبرُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على مَشاقِّ الحَياةِ وشِدَّتِها:
عن عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها أنَّها قالت لعُروةَ: ((ابنَ أُختي، إن كُنَّا لننظُرُ إلى الهلالِ ثلاثةَ أهِلَّةٍ في شَهرينِ، وما أُوقِدَت في أبياتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نارٌ! فقُلتُ: ما كان يُعَيِّشُكم؟ قالت: الأسودانِ: التَّمرُ والماءُ، إلَّا أنَّه قد كان لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جيرانٌ من الأنصارِ كان لهم منائِحُ [5643] منائِحُ: جمعُ منيحةٍ، وهي كعطيَّة لفظًا ومعنًى. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (5/199). ، وكانوا يمنَحون رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من أبياتِهم، فيَسْقيناه)) [5644] رواه البخاري (6459) واللفظ له، ومسلم (2972). .
وعن أنَسٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لقد أُخِفْتُ في اللهِ وما يُخافُ أحَدٌ، ولقد أُوذِيتُ في اللهِ وما يُؤذى أحَدٌ، ولقد أَتَت عَلَيَّ ثلاثون من بَينِ يومٍ وليلةٍ وما لي ولبلالٍ طَعامٌ يأكُلُه ذو كَبِدٍ إلَّا شَيءٌ يُواريه إبْطُ بِلالٍ!)) [5645] رواه الترمذي (2472) واللفظ له، وابن ماجه (151)، وأحمد (14055) من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (6560)، وابن القيم في ((عدة الصابرين)) (1/299)، والألباني في ((صحيح الترمذي)) (2472)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (80)، وقال الترمذيُّ: حَسَنٌ غريبٌ. .
صَبرُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على فقدِ الأولادِ والأحبابِ:
فماتَ عَمُّه أبو طالبٍ، وتوُفِّيت زَوجَتُه خَديجةُ، وتوفِّي أولادُه كُلُّهم في حَياتِه إلَّا فاطِمةَ، وقُتِل عَمُّه حَمزةُ، فصَلواتُ رَبِّي وسَلامُه عليه.

انظر أيضا: