موسوعة الأخلاق والسلوك

سابعًا: مظاهِرُ وصُوَرُ الشَّفَقةِ


أ- شَفَقةُ الإمامِ على المأمومين، وتجنُّبُ ما يَشُقُّ عليهم:
1- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((أعتَمَ [5201] أعتَم: دخَل في وقتِ العَتَمةِ. ((فتح الباري)) لابن حجر (2/46). النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاتَ ليلةٍ، حتى ذهب عامَّةُ اللَّيلِ، وحتَّى نام أهلُ المسجِدِ، ثمَّ خرج فصلَّى، فقال: إنَّه لوقتُها لولا أن أشُقَّ على أمَّتي)) [5202] رواه البخاري (566) بنحوه، ومسلم (638) واللفظ له. .
2- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا أمَّ أحَدُكم النَّاسَ فلْيُخَفِّفْ؛ فإنَّ فيهم الصَّغيرَ والكبيرَ والضَّعيفَ والمريضَ، فإذا صلَّى وحدَه فلْيُصَلِّ كيف شاء)) [5203] رواه البخاري (703)، ومسلم (467) واللفظ له. .
ب- الشَّفَقةُ على الأبناءِ، والعطفُ عليهم، والحُزنُ إذا أصابهم مكروهٌ:
1- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((قَدِم ناسٌ من الأعرابِ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، فقالوا: أتُقَبِّلون صِبيانَكم؟! فقالوا: نعم. فقالوا: لكِنَّا -واللهِ- ما نُقَبِّلُ. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وأملِكُ إن كان اللهُ نَزَع منكم الرَّحمةَ!))، وفي روايةٍ: ((من قَلبِك الرَّحمةَ!)) [5204] رواه البخاري (5998)، ومسلم (2317) واللفظ له. .
قال ابنُ عُثَيمين: (وفي هذا دليلٌ على تقبيلِ الصِّبيانِ شَفَقةً عليهم، ورِقَّةً لهم ورحمةً بهم) [5205] ((شرح رياض الصالحين)) (2/554). .
2- وعن أُسامةَ بنِ زيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((أرسَلَت ابنةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليه: إنَّ ابنًا لي قُبِض فائْتِنا. فأرسَلَ يُقرِئُ السَّلامَ، ويقولُ: إنَّ لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكُلٌّ عندَه بأجَلٍ مُسَمًّى، فلتصبِرْ ولتحتَسِبْ. فأرسَلَت إليه تُقسِمُ عليه ليَأتِيَنَّها، فقام، ومعه سعدُ بنُ عُبادةَ، ومعاذُ بنُ جَبَلٍ، وأُبَيُّ بنُ كعبٍ، وزيدُ بنُ ثابتٍ، ورجالٌ، فرُفِع إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الصَّبيُّ ونفسُه تتقَعْقَعُ [5206] تتقَعْقَعُ: تتحَرَّكُ وتضطَرِبُ بصوتٍ. ((فتح الباري)) لابن حجر (1/175). - قال: حسِبْتُه أنَّه قال: كأنَّها شَنٌّ [5207] الشَّنُّ: القربة الخلقة اليابسة. ((فتح الباري)) لابن حجر (3/157). - ففاضت عيناه. فقال سعدٌ: يا رسولَ اللهِ، ما هذا؟ فقال: هذه رحمةٌ جعَلَها اللهُ في قلوبِ عبادِه، وإنَّما يرحَمُ اللهُ من عبادِه الرُّحماءَ)) [5208] رواه البخاري (1284) واللفظ له، ومسلم (923). .
3- عن عبدِ اللهِ بنِ شَدَّادٍ، عن أبيه قال: ((خرج علينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في إحدى صلاتَيِ العِشاءِ، وهو حامِلٌ حَسَنًا أو حُسَينًا، فتقَدَّم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فوضَعَه، ثمَّ كبَّر للصَّلاةِ، فصَلَّى، فسجد بين ظهرانَيْ صلاتِه سَجدةً أطالها، قال أبي: فرفعتُ رأسي، وإذا الصَّبيُّ على ظَهرِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو ساجِدٌ، فرجعتُ إلى سُجودي، فلمَّا قضى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الصَّلاة، قال النَّاسُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّك سجَدْتَ بَينَ ظهرانَيْ صلاتِك سجدةً أطَلْتَها، حتى ظنَنَّا أنَّه قد حدَث أمرٌ، أو أنَّه يُوحى إليك. قال: كُلُّ ذلك لم يكُنْ، ولكِنَّ ابني ارتحَلَني، فكَرِهْتُ أن أعجِلَه حتَّى يقضيَ حاجتَه!)) [5209] رواه النَّسائي (1141) واللفظ له، وأحمد (16033). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (1141)، والوادعي في ((الصَّحيح المسند)) (475)، وصحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (25/ 420)، وذكَر ثبوتَه ابن باز في ((فتاوى نور على الدرب)) (9/291). .
فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَركَبُ الطِّفلُ على ظَهرِه الشَّريفِ وهو ساجدٌ، ولا يقومُ من سجودِه؛ ليُكمِلَ الطِّفلُ لَعِبَه، حتى لا يُزعِجَه؛ رحمةً به، وشفقةً عليه.
4- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((كانت امرأتانِ معهما ابناهما، جاء الذِّئبُ فذهب بابنِ إحداهما، فقالت صاحِبَتُها: إنَّما ذهَب بابنِك، وقالت الأُخرى: إنَّما ذهَب بابنِك، فتحاكَمَتا إلى داودَ، فقضى به للكُبرى، فخرجَتَا على سُلَيمانَ بنِ داودَ، فأخبَرَتاه، فقال: ائتوني بالسِّكينِ أشُقَّه بينهما، فقالت الصُّغرى: لا تفعَلْ يرحمُك اللهُ، هو ابنُها، فقضى به للصُّغرى)) [5210] رواه البخاري (3427) واللفظ له، ومسلم (1720). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (ولم يكُنْ سُلَيمانُ لِيفعَلَ، ولكِنْ أوهمَهما ذلك، فطابت نفسُ الكُبرى بذلك؛ استرواحًا منها إلى راحةِ التَّسَلِّي، والتَّأسِّي بذَهابِ ابنِ الأخرى كما ذهب ابنُها، ولم تطِبْ نفسُ الصُّغرى بذلك، بل أدرَكَتْها شفقةُ الأمِّ ورحمتُها؛ فناشَدَتْه ألَّا يفعَلَ؛ استرواحًا إلى بقاءِ الوَلَدِ، ومشاهَدتِه حيًّا، وإن اتَّصل إلى الأخرى) [5211] ((إغاثة اللهفان)) (2/67). .
5- عن أُسَيدِ بنِ حُضَيرٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((بينما هو يقرأُ من اللَّيلِ سورةَ البَقَرةِ، وفرَسُه مربوطٌ عندَه، إذ جالت [5212] أي: نفَرَت عن مكانِها وتحرَّكت، يعني: رأت الفرسُ الملائكةَ الذين نزلوا واستمَعوا إلى القرآنِ، فنَفَرت الفرسُ خوفًا. يُنظَر: ((مطالع الأنوار على صحاح الآثار)) لابن قرقول (2/ 184)، ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (3/ 68). الفَرَسُ، فسكَت فسكَتَت، فقرأ فجالت الفَرَسُ، فسَكَت وسكَتَت الفَرَسُ، ثمَّ قرأ فجالت الفَرَسُ، فانصرف، وكان ابنُه يحيى قريبًا منها، فأشفق أن تصيبَه، فلمَّا اجتَرَّه رفع رأسَه إلى السَّماءِ حتَّى ما يراها، فلمَّا أصبح حدَّث النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: اقرَأْ يا ابنَ حُضَيرٍ، اقرَأْ يا ابنَ حُضَيرٍ. قال: فأشفَقْتُ -يا رسولَ اللهِ- أن تطَأَ يحيى...)) [5213] رواه البخاري (5018). .
ج - الشَّفَقةُ على النِّساءِ:
عن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ -رَضِيَ اللهُ عنهما- قالت: (تزَوَّجني الزُّبَيرُ وما له في الأرضِ من مالٍ ولا مملوكٍ ولا شيءٍ غيرِ ناضحٍ [5214] ناضِحٌ: النَّاضِحُ البعيرُ أو الثَّورُ أو الحمارُ الذي يُستقى عليه. ((فتح الباري)) لابن حجر (3/604). وغيرِ فَرَسِه، فكنتُ أعلِفُ فَرَسَه، وأستقي الماءَ، وأخرِزُ غَرْبَه [5215]  غَرْبَه: هو الدَّلْوُ. ((فتح الباري)) لابن حجر (9/323). وأعجِنُ، ولم أكُنْ أُحسِنُ أخبِزُ، وكان يخبِزُ جاراتٌ لي من الأنصارِ، وكُنَّ نِسوةَ صِدقٍ، وكنتُ أنقُلُ النَّوى من أرضِ الزُّبيرِ -التي أقطَعَه [5216] أقطَعَه: إذا أعطاه قطيعةً، وهي قطعةُ أرضٍ، سُمِّيَت قطيعةً؛ لأنَّه اقتطَعَها من جملةِ الأرضِ. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (14/ 165). رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- على رأسي، وهي منِّي على ثُلُثَي فَرسَخٍ، فجئتُ يومًا والنَّوى على رأسي، فلَقِيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومعه نفرٌ من الأنصارِ، فدعاني، ثمَّ قال: إخْ إخْ [5217] هي كلمةٌ تقالُ للبعيِر لِيبرُكَ. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (14/ 166). ؛ ليَحمِلَني خَلْفَه، فاستَحْيَيتُ أن أسيرَ مع الرِّجالِ...) [5218] رواه البخاري (5224) واللفظ له، ومسلم (2182). .
قال النَّوويُّ: (وفيه ما كان عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الشَّفَقةِ على المؤمنين والمؤمناتِ، ورحمتِهم ومواساتِهم فيما أمكَنَه) [5219] ((شرح النووي على مسلم)) (14/166). .

انظر أيضا: