موسوعة الأخلاق والسلوك

سادسًا: دَرَجاتُ الشَّفَقةِ


للشَّفَقةِ ثلاثُ دَرَجاتٍ، كما ذكَر الإمامُ الهَرَويُّ في كتابِه (منازِلِ السَّائرينَ):
(الدَّرَجةُ الأولى: إشفاقٌ على النَّفسِ أن تجمَحَ إلى العنادِ، وإشفاقٌ على العمَلِ أن يصيرَ إلى الضَّياعِ، وإشفاقٌ على الخليقةِ لمعرفةِ معاذيرِها) [5195] ((منازل السائرين)) (ص: 28). .
قال ابنُ القَيِّمِ في شرحِه لهذه الدَّرَجةِ: (إشفاقٌ على النَّفسِ أن تجمَحَ إلى العنادِ: أي: تُسرِعَ وتذهَبَ إلى طريقِ الهوى والعِصيانِ، ومعاندةِ العُبوديَّةِ.
وإشفاقٌ على العَمَلِ أن يصيرَ إلى الضَّياعِ: أي: يخافُ على عَمَلِه أن يكونَ من الأعمالِ التي قال اللهُ فيها: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان: 23] ، وهي الأعمالُ التي كانت لغيرِ اللهِ، وعلى غيرِ أمرِه وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويخافُ أيضًا أن يضيعَ عَمَلُه في المستقبَلِ، إمَّا بتركِه، وإمَّا بمعاصٍ تُفَرِّقُه وتحبِطُه، فيذهَبُ ضائِعًا...
قال: وإشفاقٌ على الخليقةِ لمعرفةِ معاذيرِها: هذا قد يُوهِمُ نوعَ تناقُضٍ؛ فإنَّه كيف يُشفِقُ مع معرفةِ العُذرِ؟! وليس بمتناقِضٍ؛ فإنَّ الإشفاقَ... خوفٌ مقرونٌ برحمةٍ، فيُشفِقُ عليهم من جهةِ مخالفةِ الأمرِ والنَّهيِ، مع نوعِ رحمةٍ، بملاحظةِ جَرَيانِ القَدَرِ عليهم) [5196] ((مدارج السالكين)) (1/514). .
(الدَّرَجةُ الثَّانيةُ: إشفاقٌ على الوقتِ أن يشوبَهُ تفَرُّقٌ، وعلى القَلبِ أن يزاحِمَه عارِضٌ، وعلى اليقينِ أن يداخِلَه سَبَبٌ) [5197] ((منازل السائرين)) (ص: 28). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (الدَّرَجةُ الثَّانية: إشفاقٌ على الوقتِ أن يشوبَهُ تفَرُّقٌ، أي: يحذَرُ على وقتِه أن يخالِطَه ما يُفَرِّقُه عن الحضورِ مع اللهِ عزَّ وجَلَّ. قال: وعلى القَلبِ أن يزاحِمَه عارِضٌ، والعارِضُ المزاحِمُ: إمَّا فترةٌ، وإمَّا شُبهةٌ، وإمَّا شهوةٌ، وكُلُّ سببٍ يعوقُ السَّالِكَ. قال: وعلى اليقينِ أن يداخِلَه سَبَبٌ، هو الطُّمَأنينةُ إلى من بيَدِه الأسبابُ كُلهُّا؛ فمتى داخَل يقينَه رُكونٌ إلى سبَبٍ وتعَلُّقٌ به، واطمأَنَّ إليه، قَدَح ذلك في يقينِه، وليس المرادُ قَطعَ الأسبابِ عن أن تكونَ أسبابًا، والإعراضَ عنها؛ فإنَّ هذا زندقةٌ وكُفرٌ ومحالٌ... ولكِنَّ الذي يريدُ أن يحذَرَ منه: إضافةُ يقينِه إلى سبَبٍ غيرِ اللهِ، ولا يتعَلَّقُ بالأسبابِ) [5198] ((مدارج السالكين)) (1/514-515). .
(الدَّرَجةُ الثَّالثةُ: إشفاقٌ يصونُ سَعْيَه من العُجبِ، ويكُفُّ صاحِبَه عن مخاصمةِ الخَلقِ، ويحمِلُ المُريدَ على حِفظِ الجِدِّ) [5199] ((منازل السائرين)) (ص: 28). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (الدَّرَجةُ الثَّالثةُ: إشفاقٌ يصونُ سَعْيَه من العُجبِ، ويكُفُّ صاحِبَه عن مخاصمةِ الخَلقِ، ويحمِلُ المُريدَ على حِفظِ الجِدِّ. الأوَّلُ: يتعلَّقُ بالعمَلِ، والثَّاني: بالخَلقِ، والثَّالثُ: بالإرادةِ، وكُلٌّ منها له ما يُفسِدُه. فالعُجبُ: يُفسِدُ العَمَلَ كما يُفسِدُه الرِّياءُ، فيُشفِقُ على سَعيِه من هذا المفسِدِ شفقةً تصونُه عنه. والمخاصَمةُ للخَلقِ مُفسِدةٌ للخَلقِ، فيُشفِقُ على خَلقِه من هذا المفسِدِ شَفَقةً تصونُه عنه. والإرادةُ يُفسِدُها عَدَمُ الجِدِّ، وهو الهَزْلُ واللَّعِبُ، فيُشفِقُ على إرادتِه مما يفسِدُها. فإذا صَحَّ له عَمَلُه وخُلُقُه وإرادتُه، استقام سلوكُه وقلبُه وحالُه) [5200] ((مدارج السالكين)) (1/515-516). .

انظر أيضا: