موسوعة الأخلاق والسلوك

هـ- نماذِجُ من السَّماحةِ عندَ العُلَماءِ المتقَدِّمين


- أبو إسحاقَ المُراديُّ الأندَلسيُّ:
قال النَّوويُّ في ذِكرِ بعضِ مناقِبِه: لم تَرَ عيني في وقتِه مِثلَه، وكان رحمه اللهُ بارعًا في معرفةِ الحديثِ وعُلومِه وتحقيقِ ألفاظِه، لا سيَّما الصَّحيحانِ، وكان من السَّماحةِ بمَحلٍّ عالٍ على قَدرِ وُجْدِه، وأمَّا الشَّفقةُ على المسلِمين ونصحُهم فقَلَّ نظيرُه فيهما [4922] يُنظَر: ((طبقات الشافعيين)) لابن كثير (1/885). .
- ابنُ تيميَّةَ:
قال ابنُ كثيرٍ: (وسِمعتُ الشَّيخَ تَقيَّ الدِّينِ يَذكُرُ ما كان بينه وبين السُّلطانِ من الكلامِ لمَّا انفردا في ذلك الشُّبَّاكِ الذي جلسَا فيه، وأنَّ السُّلطانَ استفتى الشَّيخَ في قتلِ بَعضِ القُضاةِ بسَبَبِ ما كانوا تكلَّموا فيه، وأخرج له فتاوى بعضِهم بعَزلِه من المُلكِ ومبايعةِ الجاشَنْكيرِ، وأنَّهم قاموا عليك وآذَوك أنت أيضًا، وأخذ يحثُّه بذلك على أن يُفتيَه في قَتلِ بعضِهم، وإنَّما كان حَنَقُه عليهم بسَبَبِ ما كانوا سَعَوا فيه من عزلِه ومبايعةِ الجاشَنْكِيرِ، ففهم الشَّيخُ مُرادَ السُّلطانِ، فأخذ في تعظيمِ القضاةِ والعُلماءِ، ويُنكِرُ أن ينالَ أحدًا منهم سُوءٌ، وقال له: إذا قتَلْتَ هؤلاء لا تجِدُ بَعدَهم مِثْلَهم، فقال له: إنَّهم قد آذوك وأرادوا قَتْلَك مرارًا! فقال الشَّيخُ: من آذاني فهو في حِلٍّ، ومن آذى اللهَ ورسولَه فاللهُ ينتَقِمُ منه، وأنا لا أنتَصِرُ لنفسي. وما زال به حتى حَلُمَ عنهم السُّلطانُ وصَفَح) [4923] ((البداية والنهاية)) (18/94). .
ويقالُ: إنَّ أخا شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ -وهو الشَّيخُ شَرفُ الدِّينِ- ابتهَلَ ودعا اللهَ على خصومِ أخيه ابنِ تيميَّةَ في حالِ خُروجِهم، فمنعه شيخُ الإسلامِ، وقال له: بل قُلِ: اللَّهُمَّ هَبْ لهم نورًا يهتدون به إلى الحَقِّ [4924] يُنظَر: ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب (4/512). !
ويقولُ ابنُ تيميَّةَ في رسالةٍ كتَبها وهو في السِّجنِ عن خَصمِه ابنِ مخلوفٍ الذي بغى عليه: (وأنا واللهِ مِن أعظمِ النَّاسِ معاونةً على إطفاءِ كُلِّ شَرٍّ في هذه القضيَّةِ وفي غيرِها، وإقامةِ كُلِّ خيرٍ، وابنُ مخلوفٍ لو عَمِل مهما عَمِل واللهِ ما أقدِرُ على خيرٍ إلَّا وأعمَلُه معه، ولا أُعينُ عليه عَدُوَّه قَطُّ، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللَّهِ، هذه نيَّتي وعزمي، مع عِلمي بجميعِ الأمورِ؛ فإنِّي أعلَمُ أنَّ الشَّيطانَ يَنزَغُ بَينَ المؤمنين، ولن أكونَ عونًا للشَّيطانِ على إخواني المُسلِمين، ولو كنتُ خارِجًا لكنتُ أعلَمُ بماذا أعاوِنُه) [4925] ((مجموع الفتاوى)) (3/271). .
ويقولُ أيضًا: (ليس غرضي في إيذاءِ أحَدٍ، ولا الانتقامِ منه، ولا مؤاخَذتِه، وأنا عافٍ عمَّن ظلَمني) [4926] ((مجموع الفتاوى)) (3/266). .
ويقول أيضًا: (وأنا أبذُلُ غايةَ ما وَسِعني من الإحسانِ، وتَركِ الانتقامِ، وتأليفِ القُلوبِ) [4927] ((مجموع الفتاوى)) (3/267). .
ويقولُ في إحدى رسائِلِه لبعضِ أصحابِه، وذلك بعد خروجِه من السِّجنِ: (وقد أظهر اللهُ من نورِ الحقِّ وبرهانِه ما ردَّ به إفكَ الكاذِبِ وبهتانَه، فلا أحِبُّ أن ينتصِرَ من أحدٍ بسَبَبِ كَذِبِه عليَّ، أو ظُلمِه وعدوانِه؛ فإنِّي قد أحلَلْتُ كُلَّ مسلمٍ، وأنا أحِبُّ الخيرَ لكُلِّ المُسلِمين، وأريدُ بكُلِّ مؤمنٍ من الخيرِ ما أحِبُّه لنفسي، والذين كذَبوا وظلَموا فهم في حِلٍّ من جهتي، وأمَّا ما يتعَلَّقُ بحقوقِ اللهِ، فإن تابوا تاب اللهُ عليهم، وإلَّا فحُكمُ اللهِ نافِذٌ فيهم) [4928] ((مجموع الفتاوى)) (28/55). .
قال ابنُ كثيرٍ: (وكان قاضي المالكيَّةِ ابنُ مخلوفٍ يقولُ: ما رأينا مثلَ ابنِ تيميَّةَ، حَرَّضْنا عليه، فلم نقدِرْ عليه، وقَدَر علينا فصَفَح عنَّا وحاجَجَ عنَّا) [4929] ((البداية والنهاية)) (18/ 95). .

انظر أيضا: