موسوعة الأخلاق والسلوك

ثاني عَشَرَ: مَسائِلُ مُتفَرِّقةٌ


رحمةُ اللهِ:
عن أبي هُرَيرةَ قال: سمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((جَعَل اللهُ الرَّحمةَ مِئةَ جُزءٍ، فأمسك عندَه تِسعةً وتِسعينَ جُزءًا، وأنزل في الأرضِ جُزءًا واحِدًا، فمن ذلك الجزءِ يتراحَمُ الخَلقُ، حتى ترفَعَ الفَرَسُ حافِرَها عن وَلَدِها خشيةَ أن تُصيبَه)) [4167] أخرجه البخاري (6000)، ومسلم (2752). .
(في هذا الحديثِ من الفِقهِ: أنَّ هذه الرَّحمةَ مخلوقةٌ، فأمَّا رحمةُ اللهِ التي هي صفةٌ من صفاتِه فقديمةٌ غيرُ مخلوقةٍ؛ فكُلُّ ما يتراحَمُ به أهلُ الدُّنيا -حتى البهائِمُ في رَفعِها حوافِرَها عن أولادِها لئلَّا تؤذيَهنَّ- فإنَّه عن جزءٍ مُثبَتٍ في العالَمِ، فمن تلك الرَّحمةِ، وإنَّ الله سُبحانَه أعَدَّ تِسعًا وتسعينَ رَحمةً ادَّخَرَها ليومِ القيامةِ؛ ليَضُمَّ إليها هذه الرَّحمةَ الأُخرى) [4168] ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) لابن هبيرة (6/ 74). .
ورحمةُ اللهِ أعظَمُ من رحمةِ المخلوقِ، لا تدانيها رحمةُ المخلوقِ ولا تماثِلُها، والقَدرُ المُشترَكُ بَيْنَ رحمةِ الخالِقِ ورحمةِ المخلوقِ أنَّها صفةٌ تقتضي الإحسانَ إلى المرحومِ، ورحمةُ الخالِقِ غيرُ مخلوقةٍ؛ لأنَّها من صفاتِه، ورحمةُ المخلوقِ مخلوقةٌ؛ لأنَّها من صفاتِه، لكِنَّ صفاتِ الخالِقِ لها آثارٌ تَظهَرُ في المخلوقِ، وهذه الآثارُ هي الرَّحمةُ التي نتراحَمُ بها [4169] ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (1/ 441). .
و(الرَّحمةُ سَبَبٌ واصِلٌ بَيْنَ اللهِ وبَينَ عبادِه، بها أرسَلَ إليهم رُسُلَه، وأنزل عليهم كُتُبَه، وبها هداهم، وبها أسكنَهم دارَ ثوابِه، وبها رزَقَهم وعافاهم) [4170] ((بصائر ذوي التمييز)) (3/55). .
اللهُ أرحَمُ الرَّاحمينَ:
قال اللهُ تعالى: وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فأخبر سُبحانَه أنَّه أرحَمُ الرَّاحمينَ، فلو جُمعَت رحمةُ الخَلقِ كُلِّهم، بل رحماتُ الخَلقِ كُلِّهم، لكانت رحمةُ اللهِ أشَدَّ وأعظمَ.
وأعظَمُ ما يكونُ من رحمةِ الخَلقِ رحمةُ الأمِّ وَلَدَها، فإنَّها لا يساويها شيءٌ من رحمةِ النَّاسِ أبدًا، وإنَّ اللهَ تعالى أشَدُّ رَحمةً منها. عن عُمَرَ بنِ الخطَّابِ أنَّه قال: ((قَدِمَ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَبيٌ، فإذا امرأةٌ مِنَ السَّبيِ تبتغي إذ وجَدَت صَبِيًّا في السَّبيِ أخذَتْه فألصقَتْه ببطنها وأرضعَتْه، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أتُرَون هذه المرأةَ طارِحةً ولَدَها في النَّارِ، قالوا: لا واللهِ وهي تقدِرُ على أن لا تطرَحَه، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: للهُ أرحَمُ بعبادِه مِن هذه بوَلَدِها)) [4171] أخرجه البخاري (5999) ومسلم (2754). .
من مظاهِرِ الرَّحمةِ في الإسلامِ (دَرءُ الحُدودِ بالشُّبُهاتِ):
فإذا اشتبَهَ أمرُ الإنسانِ وأشكَلَ علينا حالُه، ووقَعَت الاحتمالاتُ: هل فَعَل مُوجِبَ الحدِّ أو لا؟ وهل هو عالمٌ أو جاهِلٌ؟ وهل هو متأوِّلٌ مُعتَقِدٌ حِلَّه أم لا؟ وهل له عُذرٌ- دُرِئَت عنه العقوبةُ؛ لأنَّنا لم نتحقَّقْ موجِبَها يقينًا، ولو تردَّد الأمرُ بَيْنَ الأمرينِ فالخطَأُ في درءِ العقوبةِ عن فاعِلِ سَبَبِها أهونُ من الخطَأِ في إيقاعِ العُقوبةِ على مَن لم يفعَلْ سَبَبَها؛ فإنَّ رحمةَ اللهِ سبَقَت غضَبَه، وشريعتُه مبنيَّةٌ على اليُسرِ والسُّهولةِ [4172] ((بهجة قلوب الأبرار)) (ص: 131). .
بالعِلمِ والرَّحمةِ كَمالُ الإنسانِ:
قال ابنُ القيِّمِ: (تأمَّلْ وَصفَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم القَلبَ بالرِّقَّةِ التي هي ضِدُّ القَساوةِ والغِلظةِ، والفؤادَ باللِّينِ الذي هو ضِدُّ اليُبسِ والقَسوةِ، فإذا اجتمع لينُ الفؤادِ إلى رقَّةِ القَلبِ حَصَل من ذلك الرَّحمةُ والشَّفَقةُ والإحسانُ، ومَعرفةُ الحقِّ وقَبولُه؛ فإنَّ اللِّينَ مُوجِبٌ القَبولَ والفَهمَ، والرِّقَّةَ تقتضي الرَّحمةَ والشَّفَقةَ، وهذا هو العِلمُ والرَّحمةُ، وبهما كمالُ الإنسانِ، ورَبُّنا وَسِع كُلَّ شَيءٍ رَحمةً وعِلمًا) [4173] ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 378، 379). .

انظر أيضا: