موسوعة الأخلاق والسلوك

خامسًا: أقسامُ الرَّحمةِ


أقسامُها من حيثُ المدحُ والذَّمُّ:
إنَّ خُلُقَ الرَّحمةِ منه ما هو محمودٌ -وهو الأصلُ- ومنه ما هو مذمومٌ.
أمَّا المحمودُ: فهو ما ذكَرْناه آنفًا، واستدلَلْنا عليه من كتابِ اللهِ، وسُنَّةِ نبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بما يُغني عن إعادةِ ذِكرِه هاهنا.
وأمَّا المذمومُ: فهو ما حصَل بسببِه تعطيلٌ لشَرعِ اللهِ، أو تهاوُنٌ في تطبيقِ حُدودِه وأوامِرِه، كمن يُشفِقُ على من ارتكَب جُرمًا يستحِقُّ به حَدًّا، فيحاوِلُ إقالتَه والعَفوَ عنه، ويحسَبُ أنَّ ذلك من رحمةِ الخَلقِ، وهو ليس من الرَّحمةِ في شيءٍ، بل الرَّحمةُ هي إقامةُ الحدِّ على المذنِبِ، والرَّأفةُ هي زَجرُه عن غَيِّه، ورَدُّه عن بَغْيِه، بتطبيقِ حُكمِ اللهِ فيه؛ قال ابنُ تَيميَّةَ: (إنَّ العُقوباتِ الشَّرعيَّةَ كُلُّها أدويةٌ نافعةٌ، يُصلِحُ اللهُ بها مَرَضَ القلوبِ، وهي من رحمةِ اللهِ بعبادِه ورأفتِه بهم، الدَّاخلةِ في قولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] ، فمَن ترَك هذه الرَّحمةَ النَّافعةَ لرأفةٍ يجِدُها بالمريضِ، فهو الذي أعان على عذابِه وهلاكِه، وإن كان لا يريدُ إلَّا الخيرَ إذ هو في ذلك جاهِلٌ أحمَقُ) [4063] ((مجموع الفتاوى)) (15/291). .
- لذا نهى اللهُ تعالى المُؤمِنين عن أن تأخُذَهم رأفةٌ أو رحمةٌ في تطبيقِ حُدودِ اللهِ وإقامةِ شَرعِه، فقال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور: 2] .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (إنَّ دينَ اللهِ هو طاعتُه، وطاعةُ رَسولِه، المبنيُّ على محبَّتِه ومحبَّةِ رسولِه، وأن يكونَ اللهُ ورسولُه أحَبَّ إليه ممَّا سواهما؛ فإنَّ الرَّأفةَ والرَّحمةَ يحبُّهما اللهُ ما لم تكُنْ مُضيعةً لدينِ اللهِ) [4064] ((مجموع الفتاوى)) (15/290). .
ومِن الرَّحمةِ المذمومةِ ما يكونُ سبَبًا في فسادِ المرحومِ وهلاكِه، كما يفعلُ كثيرٌ من الآباءِ مِن تَركِ تربيةِ الأبناءِ وتأديبِهم، وعقوبتِهم رحمةً بهم، وعطفًا عليهم، فيتسَبَّبون في فسادِهم وهلاكِهم وهم لا يشعُرون. قال ابنُ تَيميَّةَ: (كما يفعَلُه بعضُ النِّساءِ والرِّجالِ الجُهَّالِ بمرضاهم، وبمن يُرَبُّونه من أولادِهم وغِلمانِهم، وغيرِهم، في تَركِ تأديبِهم وعقوبتِهم على ما يأتونَه من الشَّرِّ ويتركونَه من الخيرِ؛ رأفةً بهم، فيكونُ ذلك سببَ فَسادِهم وعداوتِهم وهلاكِهم) [4065] ((مجموع الفتاوى)) (15/290). .
وقال ابنُ القيِّمِ: (إنَّ الرَّحمةَ صفةٌ تقتضي إيصالَ المنافِعِ والمصالحِ إلى العبدِ، وإن كرِهَتْها نفسُه وشَقَّت عليها، فهذه هي الرَّحمةُ الحقيقيَّةُ؛ فأرحمُ النَّاسِ بك مَن شَقَّ عليك في إيصالِ مَصالِحِك، ودفعِ المضارِّ عنك، فمِن رحمةِ الأبِ بوَلَدِه: أن يُكرِهَه على التَّأدُّبِ بالعِلمِ والعمَلِ، ويشُقَّ عليه في ذلك بالضَّربِ وغيرِه، ويمنَعَه شَهَواتِه التي تعودُ بضَرَرِه، ومتى أهمل ذلك من ولَدِه كان لقِلَّةِ رحمتِه به، وإن ظَنَّ أنَّه يرحَمُه، ويُرَفِّهُه، ويُريحُه، فهذه رحمةٌ مقرونةٌ بجَهلٍ كرحمةِ الأمِّ) [4066] ((إغاثة اللهفان)) (2/174). .
أقسامُها من حيثُ الغريزةُ والاكتِسابُ:
قال عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ: (والرَّحمةُ التي يتَّصِفُ بها العبدُ نوعانِ:
النَّوعُ الأوَّلُ: رحمةٌ غريزيَّةٌ قد جَبَل اللهُ بَعضَ العبادِ عليها، وجَعَل في قلوبِهم الرَّأفةَ والرَّحمةَ والحنانَ على الخَلقِ، ففَعَلوا بمقتضى هذه الرَّحمةِ جميعَ ما يَقدِرون عليه من نَفْعِهم بحَسَبِ استطاعتِهم، فهم محمودون مثابون على ما قاموا به، معذورون على ما عَجَزوا عنه، وربَّما كَتَب اللهُ لهم بنيَّاتِهم الصَّادِقةِ ما عجَزَت عنه قُواهم.
والنَّوعُ الثَّاني: رحمةٌ يَكتَسِبُها العبدُ بسُلوكِه كُلَّ طريقٍ ووسيلةٍ تجعَلُ قَلبَه على هذا الوصفِ، فيَعلَمُ العبدُ أنَّ هذا الوَصفَ من أجَلِّ مكارِمِ الأخلاقِ وأكمَلِها، فيجاهِدُ نفسَه على الاتِّصافِ به، ويعلَمُ ما رتَّب اللهُ عليه من الثَّوابِ، وما في فواتِه من حِرمانِ الثَّوابِ؛ فيرغَبُ في فضلِ رَبِّه، ويسعى بالسَّبَبِ الذي ينالُ به ذلك، ويَعلَمُ أنَّ الجزاءَ مِن جِنسِ العَمَلِ، ويعلَمُ أنَّ الأُخُوَّةَ الدِّينيَّةَ والمحبَّةَ الإيمانيَّةَ قد عقَدَها اللهُ وربَطَها بَيْنَ المُؤمِنين، وأمَرَهم أن يكونوا إخوانًا متحابِّين، وأن ينبِذوا كُلَّ ما ينافي ذلك من البَغضاءِ والعداواتِ، والتَّدابُرِ) [4067] ((بهجة قلوب الأبرار)) (ص: 270). .

انظر أيضا: