موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- من السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ


أمَّا السُّنَّةُ فقد استفاضت نصوصُها الدَّاعيةُ إلى الرَّحمةِ، الحاثَّةُ عليها، المرَغِّبةُ فيها إمَّا نصًّا أو مفهومًا، كيف لا؟! وصاحِبُها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو نبيُّ الرَّحمةِ، كما وصف نفسَه، فقال: ((أنا محمَّدٌ، وأحمَدُ، والمُقَفِّي [4034] كُلُّ من تَبِع شيئًا فقد قفَّاه، فسُمِّيَ المُقفيَ؛ لأنَّه تَبِع الأنبياءَ. يُنظَر: ((كشف المشكل من حديثِ الصحيحين)) لابن الجوزي (1/ 423). ، والحاشِرُ [4035] الحاشرُ: الذي يُحشَرُ النَّاسُ على قَدَميه، أي: يَقدَمُهم وهم خَلفُه. يُنظَر: ((كشف المشكل من حديثِ الصحيحين)) لابن الجوزي (1/ 423). ، ونبيُّ التَّوبةِ، ونبيُّ الرَّحمةِ)) [4036] رواه مسلم (2355) من حديثِ أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. .
- فعن النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ترى المُؤمِنين في تراحُمِهم وتوادِّهم وتعاطُفِهم كمثَلِ الجسَدِ؛ إذا اشتكى عضوًا تداعى له سائرُ جسَدِه بالسَّهَرِ والحُمَّى)) [4037] رواه البخاري (6011) واللفظ له، ومسلم (2586). .
يقولُ النَّوويُّ معلِّقًا على هذا الحديثِ: (هذه الأحاديثُ صريحةٌ في تعظيمِ حُقوقِ المُسلِمين بعضِهم على بعضٍ، وحثِّهم على التَّراحُمِ والملاطَفةِ والتَّعاضُدِ في غيرِ إثمٍ ولا مكروهٍ) [4038] ((شرح النووي على مسلم)) (16/139). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (قال ابنُ أبي جَمرةَ: الذي يظهَرُ أنَّ التَّراحُمَ والتَّوادُدَ والتَّعاطُفَ، وإن كانت متقارِبةً في المعنى لكنْ بينها فرقٌ لطيفٌ؛ فأمَّا التَّراحُمُ فالمرادُ به أن يرحَمَ بعضُهم بعضًا بأخوَّةِ الإيمانِ، لا بسَبَبِ شيءٍ آخَرَ، وأمَّا التَّوادُدُ فالمرادُ به التَّواصُلُ الجالِبُ للمحبَّةِ، كالتَّزاوُرِ والتَّهادي، وأمَّا التَّعاطُفُ فالمرادُ به إعانةُ بعضِهم بعضًا، كما يعطِفُ الثَّوبَ عليه ليُقَوِّيَه. اهـ ملخَّصًا) [4039] ((فتح الباري)) لابن حجر (10/439). ويُنظَر: ((بهجة النفوس)) لابن أبي جمرة (4/157). .
- وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((جاء أعرابيٌّ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: تُقَبِّلون الصِّبيانَ فما نُقَبِّلُهم! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أو أَملِكُ لك أن نَزَع اللهُ مِن قَلبِك الرَّحمةَ؟!)) [4040] رواه البخاري (5998) واللفظ له، ومسلم (2317). .
قال ابنُ بطَّالٍ: (رحمةُ الوَلَدِ الصَّغيرِ ومعانقتُه وتقبيلُه والرِّفقُ به: من الأعمالِ التي يرضاها اللهُ ويجازي عليها، ألا ترى قولَه عليه السَّلامُ للأقرَعِ بنِ حابسٍ حينَ ذَكَر عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ له عَشَرةً من الوَلَدِ ما قَبَّل منهم أحدًا: ((من لا يَرحَمْ لا يُرحَمْ)) [4041] رواه البخاري (5997)، ومسلم (2318) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ؟ فدلَّ أن تقبيلَ الولَدِ الصَّغيرِ وحَمْلَه والتَّحفِّيَ به ممَّا يستحِقُّ به رحمةَ اللهِ) [4042] ((شرح صحيح البخاري)) (9/211-212). .
- وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الرَّاحمون يرحَمُهم الرَّحمنُ، ارحَموا أهلَ الأرضِ يرحمْكم مَن في السَّماءِ)) [4043] رواه أبو داود (4941) واللفظ له، والترمذي (1924)، وأحمد (6494). صحَّحه الترمذي، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (127)، والعراقي في ((الأربعون العشارية)) (125)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4941)، وصحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4941)، وحسَّنه ابنُ حجر في ((الإمتاع)) (1/62)، والسخاوي في ((البلدانيات)) (47)، وقال: بل صحَّحه غيرُ واحدٍ. . (فندب صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى الرَّحمةِ والعَطفِ على جميعِ الخَلقِ من جميعِ الحيواناتِ على اختلافِ أنواعِها، في غيرِ حديثٍ، وأشرَفُها الآدميُّ وإذا كان كافِرًا، فكُنْ رحيمًا لنفسِك ولغيرِك، ولا تستَبِدَّ بخيرِك؛ فارحَمِ الجاهِلَ بعِلمِك، والذَّليلَ بجاهِك، والفقيرَ بمالِك، والكبيرَ والصَّغيرَ بشَفَقتِك ورأفتِك، والعُصاةَ بدعوتِك، والبهائِمَ بعطفِك، فأقربُ النَّاسِ من رحمةِ اللهِ أرحمُهم بخَلقِه؛ فمَن كَثُرَت منه الشَّفَقةُ على خَلقِه، والرَّحمةُ على عبادِه، رحمه اللهُ برحمتِه، وأدخَله دارَ كرامتِه، ووقاه عذابَ قبرِه، وهولَ مَوقِفِه، وأظلَّه بظِلِّه؛ إذ كُلُّ ذلك من رحمتِه) [4044] ((شرح صحيح البخاري)) (2/50،51). .
- وعن جَريرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يرحَمُ اللهُ مَن لا يرحَمُ النَّاسَ)) [4045] رواه البخاري (7376) واللفظ له، ومسلم (2319). .
يقول السَّعديُّ: (رحمةُ العبدِ للخَلقِ مِن أكبَرِ الأسبابِ التي تُنالُ بها رحمةُ اللهِ، التي من آثارِها خيراتُ الدُّنيا وخيراتُ الآخرةِ، وفقدُها من أكبَرِ القواطعِ والموانِعِ لرحمةِ اللهِ، والعبدُ في غايةِ الضَّرورةِ والافتقارِ إلى رحمةِ اللهِ، لا يستغني عنها طَرفةَ عَينٍ، وكلُّ ما هو فيه من النِّعَمِ واندفاعِ النِّقَمِ من رحمةِ اللهِ؛ فمتى أراد أن يستبقيَها ويستزيدَ منها فلْيَعمَلْ جميعَ الأسبابِ التي تُنالُ بها رحمتُه، وتجتَمِعُ كُلُّها في قولِه تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] ، وهم المحسِنون في عبادةِ اللهِ، المحسِنون إلى عبادِ اللهِ. والإحسانُ إلى الخَلقِ أثَرٌ من آثارِ رحمةِ العبدِ بهم) [4046] ((بهجة قلوب الأبرار)) (ص: 269). .
- وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((قبَّل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الحَسَنَ بنَ عليٍّ، وعندَه الأقرَعُ بنُ حابِسٍ التَّميميُّ جالسًا، فقال الأقرَعُ: إنَّ لي عَشَرةً من الوَلَدِ ما قَبَّلْتُ منهم أحدًا، فنظر إليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثمَّ قال: من لا يرحَمْ لا يُرحَمْ)) [4047] رواه البخاري (5997) واللفظ له، ومسلم (2318). .
قال ابنُ بطَّالٍ بعدَ أن ذَكَر عددًا من الأحاديثِ، وذَكَر هذا الحديثَ من جملتِها: (في هذه الأحاديثِ الحضُّ على استعمالِ الرَّحمةِ للخَلقِ كُلِّهم كافِرِهم ومُؤمِنهم، ولجميعِ البهائِمِ، والرِّفقِ بها، وأنَّ ذلك ممَّا يغفِرُ اللهُ به الذُّنوبَ، ويُكَفِّرُ به الخطايا؛ فينبغي لكلِّ مُؤمِنٍ عاقِلٍ أن يرغَبَ في الأخذِ بحَظِّه من الرَّحمةِ، ويستعمِلَها في أبناءِ جِنسِه وفي كُلِّ حيوانٍ) [4048] ((شرح صحيح البخاري)) (9/219). .
وقد دلَّ الواقِعُ والمشاهَدةُ أنَّ من لا يرحَمُ النَّاسَ ولا يعطِفُ عليهم إذا صادف موقِفًا يحتاجُ فيه إلى رحمتِهم، فإنَّهم لا يرحمونَه ولا يَعطِفون عليه، وقد ذُكِرَ أنَّ محمَّدَ بنَ عبدِ الملِكِ كان يقولُ: (الرَّحمةُ خَوَرٌ في الطَّبيعةِ، وضَعفٌ في المُنَّةِ، ما رَحِمتُ شيئًا قَطُّ! فكانوا يطعَنون عليه في دينِه بهذا القولِ، فلمَّا وُضِعَ في الثَّقَلِ والحديدِ، قال: ارحموني! فقالوا له: وهل رَحِمتَ شيئًا قطُّ فتُرحَمَ؟! هذه شهادتُك على نفسِك وحُكمُك عليها!) [4049] ((الأغاني)) لأبي الفرج الأصفهاني (23/57). .
واستفاضت الأحاديثُ الدَّالَّةُ على الرَّحمةِ بمفهومِها، وهي لا تكادُ تُحصى، وذلك لأنَّه ما من معاملةٍ من المعاملاتِ أو رابطةٍ من الرَّوابطِ الاجتماعيَّةِ أو الإنسانيَّةِ، إلَّا وأساسُها وقِوامُ أمرِها الرَّحمةُ.
فمِن عَلاقةِ الإنسانِ بنفسِه التي بَيْنَ جنبَيه، وعلاقتِه بذَوَيه وأهلِه، إلى عَلاقتِه بمجتَمَعِه المحيطِ به، إلى معامَلتِه لجميعِ خَلقِ اللهِ من إنسانٍ أو حيوانٍ، كُلُّ ذلك مبنيٌّ على هذا الخُلُقِ الرَّفيعِ، والسَّجيَّةِ العظيمةِ.

انظر أيضا: