موسوعة الأخلاق والسلوك

أ- من القُرآنِ الكريمِ


ذكَرَ اللهُ هذه الصِّفةَ العظيمةَ في غيرِ ما آيةٍ من كتابِه الكريمِ، إمَّا في مَعرِضِ تسَمِّيه واتِّصافِه بها، أو في مَعرِضِ الامتنانِ على العبادِ بما يُسبغُه عليهم من آثارِها، أو تذكيرِهم بسَعتِها، أو من بابِ المدحِ والثَّناءِ على المتَّصِفين بها المتحَلِّين بمعانيها، أو غيرِ ذلك من السِّياقاتِ، ومن ذلك:
- تسَمِّيه جَلَّ وعلا باسمِ الرَّحمنِ والرَّحيمِ، واتِّصافُه بصفةِ الرَّحمةِ:
وهذا كثيرٌ جِدًّا في القرآنِ، نذكُرُ منه على سبيلِ المثالِ لا الحَصرِ:
قولُه تعالى: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة: 3] ، فقد سمَّى اللهُ نفسَه بهذينِ الاسمينِ المشتَمِلينِ على صفةِ الرَّحمةِ؛ قال ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: (هما اسمانِ رقيقانِ، أحدُهما أرَقُّ من الآخَرِ، أي: أكثَرُ رحمةً) [4029] ((معالم التنزيل)) للبغوي (1/51). .
- ومن ذلك أنَّ اللهَ جَعَل هذه الصِّفةَ لصَفوةِ خَلقِه، وخيرةِ عبادِه، وهم الأنبياءُ والمُرسَلون، ومن سار على نهجِهم من المصلِحين؛ فقد قال اللهُ تعالى ممتَنًّا على رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ما ألقاه في قَلبِه من فُيوضِ الرَّحمةِ، جعلَتْه يَلينُ للمُؤمِنين، ويرحمُهم ويعفو عنهم، ويتجاوَزُ عن أخطائِهم: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: 159] .
(أي: بسَبَبِ رحمةِ اللهِ تعالى لك ولأصحابِك -يا محمَّدُ- ألان قلبَك لهم؛ فكُنتَ سَهلًا ورقيقًا في تعامُلِك معهم) [4030] ((التفسير المحرر - الدرر السنية)) (2/610). .
- ومن ذلك ثناءُ اللهِ سُبحانَه على المتَّصِفين بالرَّحمةِ والمتخَلِّقين بها؛ فقد قال تعالى واصِفًا رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابَه الذين معه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] ، (فهم أشِدَّاءُ على الكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهم، بحَسَبِ ما يقتضيه منهم إيمانُهم؛ فالإيمانُ باللهِ واليومِ الآخِرِ متى تغلغَلَ في القلبِ حقًّا، غَرَس فيه الرَّحمةَ بمقدارِ قُوَّتِه وتغلغُلِه) [4031] ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبد الرحمن الميداني (2/19). .
- وقال تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [البلد: 11 – 18].
قال الطَّاهِرُ بنُ عاشورٍ: (خَصَّ بالذِّكرِ مِن أوصافِ المُؤمِنين تواصيَهم بالصَّبرِ، وتواصيَهم بالمرحمةِ؛ لأنَّ ذلك أشرَفُ صفاتِهم بعد الإيمانِ؛ فإنَّ الصَّبرَ مِلاكُ الأعمالِ الصَّالحةِ كُلِّها؛ لأنَّها لا تخلو من كَبحِ الشَّهوةِ النَّفسانيَّةِ، وذلك من الصَّبرِ. والمَرحمةُ مِلاكُ صَلاحِ الجماعةِ الإسلاميَّةِ؛ قال تعالى: رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] ، والتَّواصي بالرَّحمةِ فضيلةٌ عظيمةٌ، وهو أيضًا كنايةٌ عن اتِّصافِهم بالمرحمةِ؛ لأنَّ مَن يوصي بالمَرحَمةِ هو الذي عَرَف قَدْرَها وفَضْلَها، فهو يفعَلُها قبل أن يوصِيَ بها) [4032] ((التحرير والتنوير)) (30/361). .
- وقال تعالى في بيانِ نعمتِه على الأزواجِ بتهيئتِه سُبحانَه أسبابَ الرَّحمةِ بَيْنَهم-: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21] .
قال الواحِديُّ: (جعَل بَيْنَ الزَّوجينِ المودَّةَ والرَّحمةَ، فهما يتوادَّانِ ويتراحمانِ، وما من شيءٍ أحَبُّ إلى أحدِهما من الآخَرِ من غيرِ رَحمٍ بَيْنَهما) [4033] ((التفسير الوسيط)) (3/431). .

انظر أيضا: