موسوعة الأخلاق والسلوك

سادسًا: صُوَرُ حُسْنِ الظَّنِّ


1- حُسْنُ الظَّنِّ باللهِ:
عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قبلَ مَوتِه بثلاثةِ أيَّامٍ يقولُ: ((لا يموتَنَّ أحَدُكم إلَّا وهو يُحسِنُ الظَّنَّ باللهِ عزَّ وجَلَّ)) [3190] أخرجه مسلم (2877). .
فإحسانُ الظَّنِّ باللهِ تبارك وتعالى واجبٌ، وهو أُنسٌ للعبدِ في حياتِه، ومنجًى له بعدَ مماتِه، قال النَّوويُّ: (قال العُلَماءُ: معنى حُسْنِ الظَّنِّ باللهِ تعالى: أن يظُنَّ أنَّه يرحمُه، ويعفو عنه. قالوا: وفي حالةِ الصِّحَّةِ يكونُ خائفًا راجيًا، ويكونان سواءً، وقيل: يكونُ الخوفُ أرجَحَ. فإذا دنت أماراتُ الموتِ غلَّب الرَّجاءَ أو محَّضَه؛ لأنَّ مقصودَ الخوفِ الانكفافُ عن المعاصي والقبائِحِ، والحرصُ على الإكثارِ من الطَّاعاتِ والأعمالِ، وقد تعذَّر ذلك أو مُعظَمُه في هذا الحالِ، واستُحِبَّ إحسانُ الظَّنِّ المتضَمِّنُ للافتقارِ إلى اللهِ تعالى، والإذعانِ له) [3191] ((شرح النووي على مسلم)) (9/256). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (كلَّما كان العبدُ حَسَنَ الظَّنِّ باللهِ، حَسَنَ الرَّجاءِ له، صادِقَ التَّوكُّلِ عليه؛ فإنَّ اللهَ لا يُخَيِّبُ أملَه فيه البتَّةَ؛ فإنَّه سُبحانَه لا يخيِّبُ أملَ آمِلٍ، ولا يُضيعُ عَمَلَ عامِلٍ، وعبَّر عن الثِّقةِ وحُسْنِ الظَّنِّ بالسَّعةِ؛ فإنَّه لا أشرحَ للصَّدرِ ولا أوسَعَ له بعدَ الإيمانِ من ثقتِه باللهِ، ورَجائِه له، وحُسنِ ظَنِّه به) [3192] ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/471). .
وقال أيضًا: (فعلى قَدرِ حُسنِ ظَنِّك بربِّك ورجائِك له، يكونُ توكُّلُك عليه؛ ولذلك فسَّر بعضُهم التَّوكُّلَ بحُسْنِ الظَّنِّ باللهِ، والتَّحقيقُ: أنَّ حُسْنَ الظَّنِّ به يدعوه إلى التَّوكُّلِ عليه؛ إذ لا يتصَوَّرُ التَّوكُّلُ على من ساء ظنُّك به، ولا التَّوكُّلُ على من لا ترجوه) [3193] ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/121). .
وقال داودُ الطَّائيُّ: (ما نُعَوِّلُ إلَّا على حُسْنِ الظَّنِّ باللهِ تعالى، فأمَّا التَّفريطُ فهو المستولي على الأبدانِ) [3194] ((محاسبة النفس)) لابن أبي الدنيا (1/46). .
2- حُسْنُ الظَّنِّ بَيْنَ الرُّؤَساءِ والمرؤوسين:
لا ينتَظِمُ أمرُ هذه الأمَّةِ إلَّا بالعلاقةِ الحَسَنةِ بَيْنَ أفرادِها رُؤساءَ ومرؤوسين؛ لذا كان من وصيَّةِ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه للأشتَرِ عندما ولَّاه مِصرَ: (واعلَمْ أنَّه ليس شيءٌ أدعى إلى حُسنِ ظَنِّ والٍ برعيَّتِه من إحسانِه إليهم وتخفيفِه المؤوناتِ عنهم، وتَرْكِ استكراهِه إيَّاهم على ما ليس له قِبَلَهم؛ فليكُنْ منك في ذلك أمرٌ يجتَمِعُ لك به حُسْنُ الظَّنِّ برعيَّتِك، فإنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يقطَعُ عنك نَصَبًا طويلًا، وإنَّ أحَقَّ من حَسُن ظَنُّك به لَمن حَسُن بلاؤك عندَه، وإنَّ أحَقَّ من ساء ظنُّك به لَمن ساء بلاؤك عنده...) [3195] ((التذكرة الحمدونية)) لابن حمدون (1/318، 319). .
وقال طاهِرُ بنُ الحُسَينِ لابنِه عبدِ اللهِ لَمَّا ولَّاه المأمونُ الرَّقَّةَ ومِصرَ وما بَيْنَهما: (أحسِنِ الظَّنَّ باللهِ عزَّ وجَلَّ تستَقِمْ لك رعيَّتُك، والتَمِسِ الوسيلةَ إليه في الأمورِ كُلِّها تستَدِمْ به النِّعمةَ عليك، ولا تتَّهِمَنَّ أحدًا من النَّاسِ فيما تولِّيه من عَمَلِك قبلَ أن تَكشِفَ أمرَه؛ فإنَّ إيقاعَ التُّهَمِ بالبُرآءِ والظُّنونَ السَّيِّئةَ بهم مأثَمٌ، واجعَلْ من شأنِك حُسْنَ الظَّنِّ بأصحابِك، واطرُدْ عنك سوءَ الظَّنِّ بهم، وارفُضْه فيهم، يعينُك ذلك على اصطناعِهم ورياضتِهم. ولا يجِدَنَّ عَدُوُّ اللهِ الشَّيطانُ في أمرِك مَغمَزًا؛ فإنَّه إنما يكتفي بالقليلِ من وَهنِك، فيُدخِلُ عليك من الغَمِّ في سوءِ الظَّنِّ ما يُنغِّصُك لَذاذةَ عَيشِك، واعلَمْ أنَّك تجِدُ بحُسْنِ الظَّنِّ قوَّةً وراحةً، وتُكفى به ما أحبَبْتَ كفايتَه من أمورِك، وتدعو به النَّاسَ إلى محبَّتِك، والاستقامةَ في الأمورِ كُلِّها لك، ولا يمنَعْك حُسْنُ الظَّنِّ بأصحابِك والرَّأفةُ برعيَّتِك أن تستعمِلَ المسألةَ والبَحثَ عن أمورِك، والمباشرةَ لأمورِ الأولياءِ، والحياطةَ للرَّعيَّةِ، والنَّظَرَ فيما يقيمُها ويُصلِحُها، بل لتكُنِ المباشَرةُ لأمورِ الأولياءِ والحياطةُ للرَّعيَّةِ والنَّظَرُ في حوائِجِهم وحَملُ مَؤوناتِهم آثَرَ عندك ممَّا سوى ذلك؛ فإنَّه أقومُ للدِّينِ، وأحيا للسُّنَّةِ) [3196] ((تاريخ الرسل والملوك)) لابن جرير الطبري (8/ 584)، ((المقدمة)) لابن خلدون (2/725-735). .
3- حُسْنُ الظَّنِّ بالإخوانِ والأصدقاءِ:
على المُسلمِ أن يُحسِنَ الظَّنَّ بإخوانِه المُسلِمين عامَّةً، وبأصدقائِه المقرَّبين خاصَّةً، وهذا ما أرشَدَنا إليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبيَّن أنَّه واجِبٌ على المسلِمِ تجاهَ أخيه المسلِمِ، فيجِبُ على المسلِمِ أن يلتَمِسَ لإخوانِه الأعذارَ ما استطاع، ويحمِلَ عليها ما يبلُغُه عنهم من قولٍ أو فعلٍ، فإذا لم يجِدْ محمَلًا فلْيَقُلْ: لعَلَّ لهم عُذرًا لم أعرِفْه.
فإذا لم تُطِقْ ما سمِعتَ من قولٍ أو فعلٍ أو تصَرُّفٍ، فاذهب إلى أخيك وصارِحْه بالأمرِ، وبيِّنْ له، فإن كان أخطأ بادَرَ بتصحيحِ خَطَئِه، وإن لم يكُنْ كذلك أزال ما في قلبِك من لَبسٍ، وبيَّن لك حقيقةَ الأمرِ؛ فتَطيبُ نفسُك بذلك.
(إنَّ الخطَأَ في حُسْنِ الظَّنِّ بالمسلِمِ أسلَمُ من الصَّوابِ بالطَّعنِ فيهم؛ فلو سكت إنسانٌ مثلًا عن لعنِ إبليسَ، أو لَعنِ أبي جهلٍ، أو أبي لهَبٍ، أو من شاء من الأشرارِ طُولَ عُمُرِه، لم يَضُرَّه السُّكوتُ، ولو هفا هفوةً بالطَّعنِ في مسلمٍ بما هو بريءٌ عِندَ اللهِ تعالى منه، فقد تعرَّض للهلاكِ، بل أكثَرُ ما يُعلَمُ في النَّاسِ لا يحِلُّ النُّطقُ به؛ لتعظيمِ الشَّرعِ الزَّجرَ عن الغِيبةِ، مع أنَّه إخبارٌ عمَّا هو متحَقِّقٌ في المغتابِ. فمن يلاحِظْ هذه الفُصولَ ولم يكُنْ في طَبعِه مَيلٌ إلى الفضولِ، آثَرَ ملازمتَه السُّكوتَ وحُسْنَ الظَّنِّ بكافَّةِ المسلِمين، وإطلاقَ اللِّسانِ بالثَّناءِ على جميعِ السَّلَفِ الصَّالحين. هذا حُكمُ الصَّحابةِ عامَّةً) [3197] ((الاقتصاد في الاعتقاد)) لأبي حامد الغزالي (1/79). .
4- حُسْنُ الظَّنِّ بالسَّلَفِ وأهلِ العِلمِ:
- قال السُّبكيُّ: (ينبغي لك -أيُّها المُسترشِدُ- أن تَسلُكَ سبيلَ الأدَبِ مع الأئمَّةِ الماضين، وأن لا تَنظُرَ إلى كلامِ بعضِهم في بعضٍ إلَّا إذا أتى ببرهانٍ واضِحٍ، ثمَّ إن قدَرْتَ على التَّأويلِ وتحسينِ الظَّنِّ فدونَك، وإلَّا فاضرِبْ صَفحًا عمَّا جرى بَيْنَهم؛ فإنَّك لم تُخلَقْ لهذا، فاشتَغِلْ بما يعنيك، ودَعْ ما لا يعنيك، ولا يزالُ طالِبُ العِلمِ عندي نبيلًا حتى يخوضَ فيما جرى بَيْنَ السَّلَفِ الماضين ويقضيَ لبعضِهم على بعضٍ) [3198] ((طبقات الشافعية الكبرى)) (2/ 278). .
ومن شُهِد له بالاستقامةِ لا ينبغي أن يُحمَلَ كلامُه وما يصدُرُ منه على غيرِ ما تُعُوِّد منه ومن أمثالِه، بل ينبغي التَّأويلُ الصَّالحُ، وحُسْنُ الظَّنِّ به وبأمثالِه [3199] يُنظَر: ((الإعلام بحرمة أهل العلم والإسلام)) لمحمد بن إسماعيل المقدم (ص: 351، 374). .
ومن الأمثلةِ على ذلك أنَّ ابنَ تَيميَّةَ لما حكى ما يُنقَلُ عن الجُنَيدِ أنَّه قال: (انتهى عقلُ العقلاءِ إلى الحَيرةِ)، عقَّب قائلًا: (فهذا ما أعرِفُه من كلامِ الجُنَيدِ، وفيه نظَرٌ: هل قاله؟ ولعلَّ الأشبَهَ أنَّه ليس من كلامِه المعهودِ؛ فإن كان قد قال هذا فأراد عدَمَ العِلمِ بما لم يَصِلْ إليه، لم يُرِدْ بذلك أنَّ الأنبياءَ والأولياءَ لم يحصُلْ لهم يقينٌ ومعرفةٌ وهدًى وعِلمٌ؛ فإنَّ الجُنَيدَ أجَلُّ مِن أن يريدَ هذا، وهذا الكلامُ مردودٌ على من قاله) [3200] يُنظَر: ((مجموع الفتاوى)) (11/ 391، 392). .
5- حُسْنُ الظَّنِّ بَيْنَ الزَّوجينِ:
إنَّ إحسانَ الظَّنِّ بَيْنَ الزَّوجينِ من أهَمِّ الدَّعائِمِ التي يُبنى عليها البيتُ المستَقِرُّ والمطمَئِنُّ، وبغيرِ حُسْنِ الظَّنِّ فإنَّ البيوتَ مُهَدَّدةٌ بالتَّصدُّعِ والانهيارِ.
فلا بدَّ أن يكونَ بَيْنَ الزَّوجينِ حُسنُ ظَنٍّ مُتبادَلٌ، وألَّا يتركا للشَّيطانِ مجالًا للتَّلاعُبِ بهما، وقَذفِ الشُّكوكِ في قلبَيهما؛ لأنَّه متى ما انفتح بابُ إساءةِ الظَّنِّ بَيْنَهما جرَّ ذلك إلى ويلاتٍ قد تهدِّدُ استقرارَ البيتِ بأكمَلِه.

انظر أيضا: