موسوعة التفسير

سورةُ الصَّافَّاتِ
الآيات (164-170)

ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ

غَريبُ الكَلِماتِ:

الصَّافُّونَ: أي: الملائِكةُ صَفُّوا أقدامَهم، ووقَفوا صُفوفًا في السَّماءِ للعِبادةِ، كصُفوفِ النَّاسِ في الأرضِ، وأصلُ (صفف): يدُلُّ على استواءٍ وتَساوٍ بينَ شَيئَينِ [1082] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/652)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/275)، ((المفردات)) للراغب (ص: 486)، ((تفسير البغوي)) (7/64)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 356). .

مُشكِلُ الإعرابِ:

قَولُه تعالى: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ
مِنَّا شِبهُ جُملةٍ جارٌّ ومجرورٌ (مِن - نَا) مُتعَلِّقٌ بمَحذوفٍ، صِفةٌ لِمَوصوفٍ مَحذوفٍ هو مُبتدأٌ، والخبَرُ الجُملةُ مِنْ قولِه: إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ تَقديرُه: ما مِنَّا إلَّا له مَقامٌ؛ فحُذِفَ الموصوفُ وأُقيمَت صِفتُه مَقامَه. وحَذْفُ المبتدأِ مع (مِنْ) جيِّدٌ فَصيحٌ. وقيل في إعرابِه غيرُ ذلك [1083] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/338)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/319). .
المعنى الإجماليُّ:
يُبيِّنُ اللهُ تعالَى طاعةَ الملائكةِ له ومُداومتَهم على عِبادتِه وتسبيحِه، فيُخبرُ عنهم أنَّهم يقولونَ: وما مِنَّا إلَّا وله مَقامٌ مَعلومٌ لا يَتجاوَزُه، وإنَّا لنحنُ الذين نَقِفُ في السَّماءِ صُفوفًا عندَ اللهِ تعالَى، وإنَّا لنحنُ المُسَبِّحونَ اللهَ، والمُنَزِّهونَه عن النَّقائِصِ. والحالُ أنَّ أولئك المُشرِكينَ الضَّالِّينَ كانوا يَقولونَ قَبلَ بَعثةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لو أنَّ عِندَنا كِتابًا مِن السَّابِقينَ، لكُنَّا عِبادَ اللهِ الذين أخلَصَهم اللهُ لعِبادتِه. فلمَّا أتاهم ما تمَنَّوه مِن الكِتابِ كَفَروا به، فسوفَ يَعلَمُ هؤلاء الكُفَّارُ عاقِبةَ فِعلِهم!

تَفسيرُ الآياتِ:

وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ الملائِكةَ وَصَفوا أنفُسَهم بالمُبالَغةِ في العُبوديَّةِ؛ فإنَّهم يَصطَفُّونَ للصَّلاةِ والتَّسبيحِ، والغَرَضُ منه التَّنبيهُ على فَسادِ قَولِ مَن يَقولُ: إنَّهم أولادُ اللهِ؛ وذلك لأنَّ مُبالغتَهم في العُبوديَّةِ تَدُلُّ على اعتِرافِهم بالعُبوديَّةِ لِلهِ تعالَى رَبِّهم وإلهِهم [1084] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/362). .
وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164).
أي: يَقولُ الملائِكةُ عليهم السَّلامُ: وما مِنَّا إلَّا وله مَقامٌ مُحَدَّدٌ مَعلومٌ لا يَتجاوَزُه [1085] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/650)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/77)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/127)، ((تفسير ابن كثير)) (7/43)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/191). قال الرازيُّ في قولِه تعالَى: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ: (الجُمهورُ على أنَّهم الملائِكةُ). ((تفسير الرازي)) (26/362). وقيل: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ مِن قول الرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمؤمنينَ للمُشركِينَ، أي: لكلِّ واحدٍ مِنَّا ومِنكم في الآخِرةِ مقامٌ معلومٌ، وهو مقامُ الحِسابِ. وقيل: أي مِنَّا مَن له مقامُ الخوفِ، ومِنَّا مَن له مقامُ الرَّجاءِ، ومِنَّا مَن له مَقامُ الإخلاصِ، ومِنَّا مَن له مَقامُ الشُّكرِ. إلى غيرِها مِن المقاماتِ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/138). قال ابنُ جُزي: (والمقامُ المَعلومُ: يحتَمِلُ أن يرادَ به المكانُ الذي يقومونَ فيه؛ لأنَّ منهم مَن هو في السَّماءِ الدُّنيا، وفي الثَّانيةِ، وفي السَّمواتِ، وحيثُ شاء اللهُ، ويحتَمِلُ أنْ يُرادَ به المنزلةُ مِن العِبادةِ والتَّقريبِ والتَّشريفِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/199). ممَّن اختارَ القَولَ الأوَّلَ: ابنُ الجوزي، والقرطبيُّ، والخازنُ، وابنُ كَثير، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/555)، ((تفسير القرطبي)) (15/137)، ((تفسير الخازن)) (4/29)، ((تفسير ابن كثير)) (7/43)، ((تفسير العليمي)) (5/553). وقيل: المرادُ أنَّ للملائكةِ مَقامًا مَكانيًّا ومَقامًا زمانيًّا، أي: لهم مَوضِعٌ ووَقتٌ يقومون فيه للهِ تعالى؛ فعِبادتُهم مُؤقَّتةٌ بزمنٍ، ومُقيَّدةٌ بمكانٍ. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ عُثَيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 344). وقيل: المرادُ أنَّه ما مِنهم مِن أحدٍ إلَّا له مَقامٌ وتدبيرٌ قدْ أمَرَه اللهُ به، لا يَتعدَّاه ولا يَتجاوزُه، وليس لهم مِن الأمْرِ شَيءٌ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: السعدي. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 708). .
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165).
أي: وإنَّا لَنحنُ الذين نَقِفُ في السَّماءِ صُفوفًا متراصِّينَ في طاعةِ الله [1086] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/652)، ((تفسير ابن كثير)) (7/44)، ((فتح الباري)) لابن رجب (6/268)، ((تفسير السعدي)) (ص: 708)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/301)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 344-345). قيل: يَصُفُّونَ لعِبادةِ اللهِ تعالَى. وممَّن قال بذلك: ابنُ جَرير، وابنُ عُثَيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/652)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 345). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: عمرُ بنُ الخطاب، وعبدُ الله بنُ مَسعودٍ، وابن عبَّاس، وقَتادة، والسُّدِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/652)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (10/3232). وقيل: يَصُفُّونَ في الصَّلاةِ والجِهادِ، ويَصُفُّونَ أجنِحَتَهم في الهواءِ، وغيرِ ذلك. وممَّن قال بهذا المعنى: البقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/312). .
كما قال تعالَى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا [الصافات: 1] .
وقال سُبحانَه: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] .
وعن جابِرِ بنِ سَمُرةَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((خرَجَ علينا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: ألَا تَصُفُّونَ كما تَصُفُّ الملائِكةُ عندَ رَبِّها؟ فقُلْنا: يا رَسولَ اللهِ، وكيف تَصُفُّ الملائِكةُ عِندَ رَبِّها؟ قال: يُتِمُّونَ الصُّفوفَ الأُوَلَ، ويَتراصُّونَ في الصَّفِّ )) [1087] رواه مُسلِم (430). .
وعن حُذَيفةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فُضِّلْنا على النَّاسِ بثَلاثٍ: جُعِلَت صُفوفُنا كصُفوفِ الملائِكةِ، وجُعِلَتْ لنا الأرضُ كُلُّها مَسجِدًا، وجُعِلَت تُربتُها لنا طَهُورًا إذا لم نَجِدِ الماءَ )) [1088] رواه مُسلِم (522). .
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166).
أي: وإنَّا لَنحنُ الذين نُسَبِّحُ اللهَ ونُنزِّهُه عن كُلِّ ما لا يَليقُ به مِن عُيوبٍ ونقائِصَ [1089] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/44)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/312)، ((تفسير السعدي)) (ص: 708)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 345-346). قال الشوكاني: (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ أي: المُنزِّهُونَ لِلَّهِ المُقَدِّسونَ له عَمَّا أضافَه إليه المشركونَ، وقيل: المصلُّونَ، وقيلَ: المرادُ بقولِهم: الْمُسَبِّحُونَ مجموعُ التَّسبيحِ باللِّسانِ وبالصَّلاةِ). ((تفسير الشوكاني)) (4/476). ممن اختار أنَّ المرادَ بـ الْمُسَبِّحُونَ: المُنزِّهونَ لِلَّهِ عن النقائصِ وعمَّا لَا يَليقُ به: الواحدي، والبغوي، والسمعاني، والبيضاوي، وابن كثير، وجلال الدين المحلي، والعليمي، والسعدي. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/535)، ((تفسير البغوي)) (4/50)، ((تفسير السمعاني)) (4/420)، ((تفسير البيضاوي)) (5/20)، ((تفسير ابن كثير)) (7/44)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 597)، ((تفسير العليمي)) (5/554)، ((تفسير السعدي)) (ص: 708). وممن اختار أن المراد المصلون؛ لأنَّ الصلاةَ يقالُ لها تسبيحٌ: مقاتل بن سليمان، وابن جرير، والسمرقندي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/623)، ((تفسير ابن جرير)) (19/652)، ((تفسير السمرقندي)) (3/155). وممن جمع فقال: المرادُ: المصلونَ المنزهونَ الله عن السوءِ: الواحدي، والبغوي. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/535)، ((تفسير البغوي)) (4/50). قال القُرطبيُّ: (المرادُ أنَّهم يُخبِرونَ أنَّهم يَعبُدونَ اللهَ بالتَّسبيحِ والصَّلاةِ، وليسوا مَعبودينَ ولا بَناتِ اللهِ). ((تفسير القرطبي)) (15/138). .
كما قال تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 19، 20].
وقال سُبحانَه: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ [فصلت: 38].
وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170).
مُناسَبةُ الآياتِ لِمَا قبلَها:
أنَّها انتِقالٌ مِن ذِكرِ كُفرِ المُشركينَ؛ بتَعدُّدِ الإلهِ، وبإنكارِ البَعثِ، وما وصَفوا به الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ السِّحرِ والجُنونِ، ثمَّ بما نَسَبوا للهِ ممَّا لا يَليقُ بإلهيَّتِه، وما تَخلَّلَ ذلك مِنَ المَواعِظِ والوَعيدِ لهم، والوَعدِ للمُؤمِنينَ، والعِبرةِ بمَصارِعِ المُكذِّبينَ السَّابِقينَ، وما لَقِيَه رُسلُ اللهِ مِن أقوامِهم؛ فانتقَلَ الكلامُ إلى ذِكرِ ما كفَرَ به المُشرِكونَ مِن تَكذيبِ القُرآنِ الَّذي أنزَلَه اللهُ هُدًى لهم [1090] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/193). ، وإلى ذِكرِ إخلافِهم للوَعدِ، والنقضِ لِمَا أكَّدوه مِن العَهدِ [1091] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/312-313). .
وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168).
أي: ضلَّ مُشرِكو قُرَيشٍ عن الحَقِّ، ولم يُنزِّهوا اللهَ تعالى كما يَنبغي له سُبحانَه، والحالُ أنَّهم كانوا يَقولونَ قَبلَ بَعثةِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لو أنَّ عِندَنا كِتابًا مِن السَّابِقينَ [1092] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/655)، ((تفسير ابن كثير)) (7/44)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/312-313)، ((تفسير السعدي)) (ص: 708)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/193). ممَّن اختارَ أنَّ معنَى ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ: أي: كِتابًا مِن كُتُبِ الأوَّلين: الواحدي، والزمخشري، والرازي، والعُلَيمي، والشوكاني، والقاسمي. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/535)، ((تفسير الزمخشري)) (4/67)، ((تفسير الرازي)) (26/362)، ((تفسير العليمي)) (5/554)، ((تفسير الشوكاني)) (4/476)، ((تفسير القاسمي)) (8/233). وقيل: المعنى: كتابًا مثلَ كتبِ الأوَّلين، وممَّن اختارَه: الثَّعلبي، والسَّمعاني، والبغوي، وابن الجوزي، والرَّسْعني. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (8/172)، ((تفسير السمعاني)) (4/420)، ((تفسير البغوي)) (4/50)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/555)، ((تفسير الرسعني)) (6/439). قال ابنُ عاشور: (الذِّكْرُ: الكتابُ المقروءُ، سُمِّي ذِكْرًا لأنَّه يُذَكِّرُ النَّاسَ بما يَجِبُ عَليهم، مُسَمًّى بالمصدَرِ). ((تفسير ابن عاشور)) (23/193). وقيل: المرادُ بقَولِهم: لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ: خبَرُ الأُمَمِ الخاليةِ: كيف أُهلِكوا، وما كان مِن أمْرِهم. وممَّن قال بهذا المعنى: مُقاتِل بن سُلَيمانَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/623). وقيل: المعنى: لو بُعِث إلينا نبيٌّ ببَيانِ الشَّرائعِ. وممَّن ذهَب إلى هذا القولِ: القرطبي. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/138). وقيل: المراد: لو أنَّ عِندَنا كِتابًا أُنزِلَ مِن السَّماءِ، كالتَّوراةِ والإنجيلِ، أو نبيًّا أتانا مِثلَ الذي أتَى اليهودَ والنَّصارى. وممَّن قال بهذا المعنى: ابن جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/655). وقيل: المعنى: لو كان عِندَهم مَن يُذَكِّرُهم بأمْرِ اللهِ، وما كان مِن أمْرِ القُرونِ الأُولى، ويأتيهم بكتابِ اللهِ. وممَّن ذهب إليه: ابن كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/44)، ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن جزي)) (2/199). وقيل: المرادُ: لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا أي: على أيِّ حالٍ كان مِن أحوالِه مِن كِتابٍ أو غيرِه مِنَ الْأَوَّلِينَ أي: مِن الرُّسُلِ الماضين. وممَّن قال بذلك: البقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) (16/313). .
كما قال تعالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا [فاطر: 42] .
لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169).
أي: لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الذين أخلَصوا للهِ تعالَى، وأخلَصَهم لعِبادتِه وطاعتِه، واختارَهم لجَنَّتِه [1093] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/655)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/316)، ((تفسير القرطبي)) (15/139)، ((تفسير السعدي)) (ص: 708)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 350). .
كما قال تعالَى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ [الأنعام: 156، 157].
فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170).
فَكَفَرُوا بِهِ.
أي: فلمَّا أتاهم ما تمَنَّوه كفَروا بالقُرآنِ الذي جاءَهم به مُحمَّدٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ [1094] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/395)، ((تفسير ابن جرير)) (19/656)، ((تفسير القرطبي)) (15/139)، ((تفسير السعدي)) (ص: 708)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/194). .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ [فصلت: 41].
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
أي: فسَوفَ يَعلَمُ هؤلاءِ الكُفَّارُ ما يأتيهم مِنَ الخِزْيِ والعَذابِ؛ بسَبَبِ كُفرِهم برَبِّهم، وإعراضِهم عن كِتابِه، وتَكذيبِهم رَسولَه [1095] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/656)، ((تفسير ابن كثير)) (7/44)، ((تفسير السعدي)) (ص: 708)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/194)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 351-352). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

أنَّه يَنبغي تأكيدُ الخِطابِ إذا كان المُخاطَبُ مُنكِرًا، أو مُترَدِّدًا، أو كان المعنى ذا أهميَّةٍ يَحتاجُ إلى التَّوكيدِ؛ لِقَولِه تعالَى مُخبِرًا عن الملائكةِ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ؛ وذلك مِن أجْلِ تَقريرِ هؤلاء المُنكِرينَ الذين يَدَّعونَ أنَّ الملائِكةَ بناتُ اللهِ؛ فيَقولونَ: نحن نَصُفُّ للهِ تَعبُّدًا له وتَعظيمًا [1096] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 347). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالَى: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ بيانُ أنَّ الملائِكةَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ مُنَزَّهُون عمَّا يَدَّعِيه هؤلاء مِن كونِهم بَناتِ اللهِ، ووجهُ ذلك: أنَّهم مُكَلَّفونَ بالعِبادةِ على حَدٍّ مَعلومٍ -على قولٍ في التفسيرِ-، ومَن كان مُكَلَّفًا بالعِبادةِ لا يُمكِنُ أنْ يكونَ ابنًا أو ولَدًا للمَعبودِ [1097] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 346). !
2- قَولُ اللهِ تعالَى: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ يدُلُّ على أنَّ مِن صِفاتِ الملائِكةِ أنَّ لكُلِّ واحدٍ منهم مَرتبةً لا يَتجاوَزُها، ودرجةً لا يتعدَّاها [1098] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/362). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
3- قَولُ اللهِ تعالَى: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ فيه بيانُ بَراءةِ الملائِكةِ عليهم السَّلامُ ممَّا قالَه فيهم المُشرِكونَ، وأنَّهم عِبادُ اللهِ لا يَعصُونَه طَرفةَ عَينٍ؛ فما منهم مِن أحدٍ إلَّا له مَقامٌ وتَدبيرٌ قدْ أمَرَه اللهُ به لا يَتعدَّاه ولا يَتجاوزُه -وذلك على قَولٍ في التفسيرِ-، وليس لهم مِنَ الأمرِ شَيءٌ [1099] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:708). .
4- قَولُ اللهِ تعالَى: وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ذلك أفظَعُ الكُفرِ؛ لأنَّه كُفرٌ بما كانوا على بَصيرةٍ مِن أمْرِه، إذ كانوا يتَمنَّونَه لأنفُسِهم، ويَغبِطونَ الأُمَمَ التي أُنزِلَ عليهم مِثلُه، فلم يكُنْ كُفرُهم عن مُباغَتةٍ، ولا عن قِلَّةِ تمكُّنٍ مِن النَّظَرِ [1100] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/193). .
5- أنَّ النَّاسَ لا يُمكِنُ أنْ يكونَ لهم استِقامةٌ إلَّا بكُتُبٍ نازلةٍ مِن السَّماءِ، حتى المُشرِكونَ الكُفَّارُ يُقِرُّونَ بهذا؛ لقَولِه تعالَى: لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، وهذه الفائِدةُ يَشهَدُ لها الواقِعُ؛ فإنَّ الأُمَمَ الذين لم تَنزِلْ عليهمُ الكتُبُ تَجِدُهم في فَوضَى مُطَّرِدةٍ، لا يَستقيمُ لهم حالٌ، ولا يَمشونَ على خَطٍّ مُستقيمٍ، بخِلافِ الأُمَمِ التي تَنزِلُ عليها الكُتُبُ؛ فإنَّها تكونُ مُستقيمةً بقَدرِ تَمَسُّكِها بهذه الكُتُبِ [1101] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 353). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ حِكايةُ اعتِرافِ الملائكةِ بالعُبوديَّةِ للرَّدِّ على عَبَدتِهم. ويَحتمِلُ أنْ يَكونَ هذا وما قبْلَه مِن قَولِه: سُبْحَانَ اللَّهِ [الصافات: 159] مِن كَلامِهم؛ لِيَتَّصِلَ بقَولِه: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ [الصافات: 158] ، كأنَّه قال: ولقدْ عَلِمَتِ المَلائكةُ أنَّ المُشركينَ مُعَذَّبونَ بذلك، وقالوا: سُبحانَ اللهِ؛ تَنزيهًا له عنه، ثمَّ استَثْنَوُا المُخلَصينَ؛ تَبرئةً لهم منه، ثمَّ خاطَبوا المُشركينَ بأنَّ الافتِتانَ بذلك للشَّقاوةِ المُقَدَّرةِ، ثمَّ اعتَرَفوا بالعُبوديَّةِ، وتَفاوُتِ مَراتِبِهم فيها لا يَتجاوَزُونَها؛ فحُذِف المَوصوفُ وأُقيمَتِ الصِّفةُ مُقامَه [1102] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/20). ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- ويَجوزُ أنْ يَكونَ قولُه: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ مِن قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعلى هذا يَكونُ قَولُه: سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ اعتراضًا، وكلامُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ استِطرادًا؛ لأنَّه تعالى لَمَّا أمَرَ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالاستِفتاءِ عن وجهِ تلك القِسمةِ الضِّيزَى الَّتي قَسَموها بقَولِه: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ [الصافات: 149] ، وبالإنكارِ البَليغِ واستِجهالِ النُّفوسِ واستِركاكِ العُقولِ سُخطًا عليهم وغضَبًا على تلك المقالةِ الشَّنيعةِ؛ أتَى بما دَلَّ على ضِدِّ ذلك مِن مَعنى الرِّضا عن المؤمِنينَ لأجْلِ أعْمالِهمُ الصَّالحةِ؛ مِنَ الصَّلاةِ في الجَماعاتِ، وتَسبيحِ اللهِ وتَنزيهِه عمَّا أَضافَ إليه الكَفَرةُ [1103] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/219). .
- قولُه: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (المَقامُ): أصْلُه مكانَ القِيامِ، ولَمَّا كان القِيامُ يَكونُ في الغالِبِ لأجْلِ العَملِ؛ كثُرَ إطلاقُ المَقامِ على العَملِ الَّذي يَقومُ به المرءُ. و(المعلومُ): المُعَيَّنُ المَضبوطُ، وأُطلِقَ عليه وصْفُ مَعلومٍ؛ لأنَّ الشَّيءَ المُعَيَّنَ المَضبوطَ لا يَشتبِهُ على المُتبَصِّرِ فيه، فمَن تأمَّلَه عَلِمَه. والمعنى -على قولٍ في التَّفسيرِ-: ما مِن أحدٍ مِنَّا -مَعشَرَ المؤمِنينَ- إلَّا له صِفةٌ وعمَلٌ نحوَ خالِقِه لا يَستزِلُّه عنه شَيءٌ، ولا تَرُوجُ عليه فيه الوَساوِسُ؛ فلا تَطْمَعوا أنْ تُزِلُّونا عن عِبادةِ ربِّنا، فالمَقامُ هو صِفةُ العُبوديَّةِ للهِ؛ بقرينةِ وُقوعِ هذه الجُملةِ عَقِبَ قَولِه: فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ [الصافات: 161، 162]، أي: ما أنتم بفاتِنينَ لنا، فلا يَلتبِسُ علينا فضْلُ الملائكةِ فنَرفَعَه إلى مَقامِ البُنوَّةِ للهِ تعالَى، ولا نُشَبِّهُ اعتِقادَكم في تَصرُّفِ الجِنِّ أنْ تَبلُغوا بهم مَقامَ المُصاهَرةِ للهِ تعالَى والمُداناةِ لجَلالِه، كقَولِه: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ [1104] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/192). [الأنعام: 100].
2- قولُه تعالَى: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ
- قَولُه: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ فيه تَحليةُ كلامِهم بفُنونِ التَّأكيدِ -بـ (إنَّ) واللَّامِ، وتَوسيطِ الفَصلِ (نحن)- مِنَ التأكيدِ والاختِصاصِ؛ لأنَّهم المُواظِبونَ على ذلك دائمًا مِن غيرِ فَترةٍ دُونَ غَيرِهم، ولإبرازِ أنَّ صُدورَه عنهم بكَمالِ الرَّغبةِ والنَّشاطِ [1105] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/20)، ((تفسير أبي السعود)) (7/210). .
- وحُذِف مُتعلَّقُ «الصَّافُّونَ المُسَبِّحونَ»؛ لدَلالةِ قَولِه مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ [الصافات: 162] عليه، أي: الصَّافُّونَ لعِبادتِه، المُسَبِّحونَ له؛ فإنَّ الكلامَ في هذه الآياتِ كلِّها مُتعلِّقٌ بشُؤونِ اللهِ تعالَى [1106] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/192). .
- قَولُه: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ تعريفُ جُزْأيِ الجُملةِ، وضميرُ الفَصلِ مِن قَولِه: لَنَحْنُ يُفيدانَ قَصْرًا مؤكِّدًا؛ فهو قَصرُ قَلبٍ، أي: دُونَ ما وصَفْتُموهُ به مِنَ البُنوَّةِ للهِ [1107] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/192). .
- وعبَّرَ في قَولِه: وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ بالجُملةِ الاسميةِ، وهي تفيدُ الثُّبوتَ والاستمرارَ؛ فدَلَّ على أنَّ دَأْبَ الملائكةِ التسبيحُ [1108] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 348). .
3- قولُه تعالَى: وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
- انتقَلَ الكلامُ إلى ذِكرِ ما كفَرَ به المُشرِكونَ مِن تَكذيبِ القُرآنِ الَّذي أنزَلَه اللهُ هُدًى لهم؛ فالمقصودُ مِن هذا هو قَولُه: فَكَفَرُوا بِهِ، أي: الذِّكرِ، وإنَّما قُدِّم له في نَظْمِ الكلامِ ما فيه تَسجيلٌ على الكافِرينَ بتَهافُتِهم في القَولِ؛ إذْ كانوا قبْلَ أنْ يأتيَهم محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالكِتابِ المُبينِ يَوَدُّونَ أنْ يُشَرِّفَهمُ اللهُ بكِتابٍ لهم كما شرَّفَ الأوَّلينَ، ويَرْجونَ لو كان ذلك أنْ يَكونوا عِبادًا للهِ مُخلِصينَ له، فلمَّا جاءَهم ما رَغِبوا فيه كَفَروا به [1109] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/193). .
- قَولُه: وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ تأكيدُ الخَبرِ بـ (إنْ) المُخفَّفةِ مِنَ الثَّقيلةِ، وبلامِ الابتِداءِ الفارِقةِ بيْن المُخفَّفةِ والنَّافيةِ؛ للتَّسجيلِ عليهم بتَحقيقِ وُقوعِ ذلك منهم؛ لِيُسَدَّ عليهم بابُ الإنكارِ [1110] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/193). ؛ فقد كانوا جادِّينَ في ذلك، ثمَّ ظهَرَ منهمُ التَّكذيبُ والنُّفورُ البَليغُ، فكَمْ بيْن أوَّلِ أمْرِهم وآخِرِه [1111] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/67)، ((تفسير أبي حيان)) (9/130، 131). !
- وإقحامُ فِعلِ كَانُوا في قَولِه: وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ؛ للدَّلالةِ على أنَّ خبْرَ (كان) ثابتٌ لهم في الماضي [1112] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/193). .
- والتَّعبيرُ بالمُضارِعِ في (يَقولونَ)؛ لإفادةِ أنَّ ذلك تَكرَّرَ منهم [1113] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/193). .
- قولُه: وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ ... مِنَ ابتدائيَّة، أي: ذِكرًا جائيًا مِن الرُّسُلِ الأوَّلينَ، أي: مِثل موسى وعيسى، ومُرادُهم بهذا أنَّ الرُّسلَ الأوَّلينَ لم يَكونوا مُرسَلينَ إليهم، ولا بَلَّغوا إليهم كِتابَهم، ولو كانوا مُرسَلينَ إليهم لآمَنوا بهم، فكانوا عِبادَ اللهِ المُخلَصينَ، فذُكِرَ في جَوابِ (لو) ما هو أخَصُّ مِنَ الإيمانِ؛ ليُفيدَ معنَى الإيمانِ بدَلالةِ الفَحْوى [1114] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/193، 194). وفحْوَى الخطابِ -ويُسمَّى تنبيهَ الخطابِ، ومفهومَ الموافقةِ-: هو إثباتُ حُكمِ المنطوقِ به للمَسكوتِ عنه بطريقِ الأولَى، كقولِه تعالَى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23] ، فيه تنبيهٌ على النَّهيِ عن ضربِهما وسَبِّهما؛ لأنَّ الضَّربَ والسَّبَّ أعظمُ مِن التَّأْفيفِ، وكذلك قولُه تعالَى: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: 75] ، فيه تنبيهٌ على أنَّه يُؤدِّي ما كانَ دونَ القنطارِ؛ ففي هذه الآيةِ نَبَّه بالأعلَى على الأدنَى، وفي الآيةِ الأولى نَبَّه بالأدنَى على الأعلَى. يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (1/233)، ((تقريب الوصول إلي علم الأصول)) لابن جزي (ص: 163). .
- وفي جُملةِ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ صِيغةُ قَصرٍ؛ مِن أجْلِ كَونِ المُسنَدِ إليه مَعرفةً بالإضمارِ، والمُسنَدِ مَعرفةً بالإضافةِ، أي: لَكُنَّا عِبادَ اللهِ دُونَ غَيرِنا، ولَمَّا وُصِف المُسنَدُ بـ الْمُخْلَصِينَ وهو مُعرَّفٌ بِلامِ الجِنسِ، حصَلَ قَصرُ عِبادِ اللهِ الَّذينَ لهم صِفةُ الإخلاصِ في المُسنَدِ إليه، وهذا قَصرٌ ادِّعائيٌّ [1115] القَصرُ أو الحَصرُ في اصطِلاح البلاغيِّينَ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثاني: مقصورًا عليه، مثل: إنَّما زيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصْرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِع، بألَّا يتعدَّاه إلى غيره أصلًا، مِثل: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصفُ الإِلَهيَّةِ الحقِّ على موصوفٍ هو الله وحْدَه، وهذا مِن قصْرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحَقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزلةَ العدَمِ، وقصْر الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/162). ؛ لِلمُبالَغةِ في ثُبوتِ صِفةِ الإخلاصِ لهم حتَّى كانوا شَبِيهينَ بالمُنفرِدينَ بالإخلاصِ؛ لعدَمِ الاعتِدادِ بإخلاصِ غَيرِهم في جانبِ إخلاصِهم، وهو يَؤولُ إلى معنَى تَفضيلِ أنفُسِهم في الإخلاصِ للهِ حينَئذٍ [1116] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/194). .
- والفاءُ في قَولِه: فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ للتَّعقيبِ على فِعلِ لَيَقُولُونَ، أي: استَمَرَّ قَولُهم حتَّى كان آخِرُه أنْ جاءَهمُ الكِتابُ فكَفَروا به. أو للفَصيحةِ، والتَّقديرُ: فكان عِندَهم ذِكرٌ فكَفَروا به، فالضَّميرُ عائدٌ إلى الذِّكرِ، وهو القُرآنُ، وبهذا كان للوَعيدِ بقَولِه: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ مَوقِعُه المُصادِفُ المَحَزَّ مِنَ الكَلامِ، وهَولُه بما ضُمِّنَه مِنَ الإبهامِ [1117] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/194). .