موسوعة الفرق

الفصلُ الأوَّلُ: آراءُ المُعتَزِلةِ في مسائِلِ النُّبوَّاتِ


أدرَج المُعتَزِلةُ الكلامَ على النُّبوَّاتِ في بابِ العدلِ، وقد وضَّح القاضي عبدُ الجبَّارِ هذا الصَّنيعَ، فقال: (وَجهُ اتِّصالِه ببابِ العدلِ هو أنَّه كلامٌ في أنَّه تعالى إذا علِم أنَّ صلاحَنا يتعلَّقُ بهذه الشَّرعيَّاتِ فلا بُدَّ مِن أن يُعرِّفَنا بها؛ لكي لا يكونَ مُخِلًّا بما هو واجِبٌ عليه، ومِن العدلِ ألَّا يُخِلَّ بما هو واجِبٌ عليه) [1513] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 563). .
فالمُعتَزِلةُ يوجِبونَ إرسالَ الرُّسلِ على اللهِ؛ لأنَّ فيه صلاحًا للمُكلَّفينَ، ولأنَّه مِن مُقتَضياتِ عدلِه عزَّ وجلَّ.
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (الأصلُ في هذا البابِ أن نقولَ: إنَّه قد تقرَّر في عقلِ كُلِّ عاقِلٍ وُجوبُ دَفعِ الضَّررِ عن النَّفسِ، وثبَت أيضًا أنَّ ما يدعو إلى الواجِبِ ويصرِفُ عن القبيحِ فإنَّه واجِبٌ لا محالةَ، وما يصرِفُ عن الواجِبِ ويدعو إلى القبيحِ فهو قبيحٌ لا محالةَ، إذا صحَّ هذا، وكنَّا نُجوِّزُ أن يكونَ في الأفعالِ ما إذا فعلْناه كنَّا عندَ ذلك أقرَبَ إلى أداءِ الواجِباتِ، واجتِنابِ المُقبِّحاتِ، وفيها ما إذا فعلْناه كنَّا بالعكسِ مِن ذلك، ولم يكنْ في قوَّةِ العقلِ ما يُعرَفُ به ذلك، ويفصِلُ بَينَ ما هو مصلحةٌ ولُطفٌ، وبَينَ ما لا يكونُ كذلك- فلا بُدَّ مِن أن يُعرِّفَنا اللهُ تعالى حالَ هذه الأفعالِ؛ كي لا يكونَ عائِدًا بالنَّقضِ على غَرضِه بالتَّكليفِ، وإذا كان لا يُمكِنُ تعريفُنا ذلك إلَّا بأن يبعَثَ إلينا رسولًا مُؤيَّدًا بعِلمٍ مُعجِزٍ دالٍّ على صِدقِه؛ فلا بُدَّ مِن أن يفعَلَ ذلك، ولا يجوزُ له الإخلالُ به، ولهذه الجُملةِ قال مشايِخُنا: "إنَّ البَعثةَ متى حسُنَت وجَبَت") [1514] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 564). .
والبَعثةُ لُطفٌ بالمبعوثِ إليهم وللمبعوثِ أيضًا، قال عبدُ الجبَّارِ: (إنَّ البَعثةَ لا بُدَّ مِن أن تكونَ لُطفًا لنا، وكما تكونُ لُطفًا فلا بُدَّ أن تكونَ لُطفًا للمبعوثِ؛ لأنَّه لا يجوزُ مِن الحكيمِ تعالى أن يُحمِّلَ المُكلَّفَ مشقَّةً لنَفعِ مُكلَّفٍ آخَرَ فقط) [1515] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 575- 576). .
والمُعتَزِلةُ يرَونَ أنَّ النُّبوَّةَ جزاءٌ على عَملٍ سابِقٍ؛ فالنَّبيُّ عندَهم فعَل مِن الأعمالِ الصَّالِحةِ ما استحقَّ به أن يجزيَه اللهُ بالنُّبوَّةِ؛ قال عبدُ الجبَّارِ: (قال شُيوخُنا -رحِمهم اللهُ- في النُّبوَّةِ: إنَّها جزاءٌ على عَملٍ) [1516] ((المغني)) (15/ 16). .
وأمَّا المُعجِزاتُ فقد ذكَر عبدُ الجبَّارِ أنَّ اللهَ تعالى (إذا بعَث إلينا رسولًا ليُعرِّفَنا المصالِحَ فلا بُدَّ أن يدَّعيَ النُّبوَّةَ، ويظهَرَ عليه العِلمُ المُعجِزُ الدَّالُّ على صِدقِه عَقيبَ دَعواه) [1517] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 568). .
والمُعجِرُ في اصطِلاحِ المُعتَزِلةِ: هو الفِعلُ الذي يدُلُّ على صِدقِ المُدَّعي للنُّبوَّةِ [1518] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 568). .
وأمَّا عِصمةُ الأنبياءِ فإنَّ المُعتَزِلةَ يرَونَ أنَّ البَعثةَ لُطفٌ للمُكلَّفينَ، وأنَّها واجِبةٌ، وأنَّ اللهَ يفعَلُها على أحسَنِ وُجوهِها، بمعنى أن تكونَ أوصافُ النَّبيِّ مُتَّفِقةً معَ وظيفةِ النُّبوَّةِ؛ بأن يكونَ مُنزَّهًا مِن المُنفِّراتِ كبيرِها وصغيرِها؛ لأنَّ الغرضَ بالبَعثةِ ليس إلَّا لُطفَ العِبادِ ومصالِحَهم، ولا بُدَّ أن يُجنِّبَ اللهُ رسولَه عمَّا يُنفِّرُ عن القَبولِ منه؛ حتَّى يتحقَّقَ المقصودُ مِن البَعثةِ؛ ولذلك جنَّب اللهُ رسولَه عليه السَّلامُ عن الغِلظةِ والفَظاظةِ، وذكَر علَّتَه فقال: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 259]، ويرى المُعتَزِلةُ أنَّ الكبائِرَ لا تجوزُ على الأنبِياءِ لا قَبلَ البَعثةِ ولا بَعدَها [1519] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 573). .
أمَّا الصَّغائِرُ التي لا تُؤدِّي إلى التَّنفيرِ فقد جوَّزها المُعتَزِلةُ على الأنبياء، قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (وأمَّا الصَّغائِرُ التي لا حظَّ لها إلَّا في تقليلِ الثَّوابِ دونَ التَّنفيرِ؛ فإنَّها مُجوَّزةٌ على الأنبياءِ، ولا مانِعَ يمنَعُ منه؛ لأنَّ قِلَّةَ الثَّوابِ ممَّا لا يقدَحُ في صِدقِ الرَّسولِ، ولا في القَبولِ منهم) [1520] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 573- 575). .

انظر أيضا: