موسوعة الفرق

المَبحَثُ الأوَّلُ: من أسبابِ اهتمامِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ بالجانِبِ السُّلوكيِّ والأخلاقيِّ: وجودُ تلازُمٍ بَيْنَ السُّلوكِ والاعتِقادِ


فالسُّلوكُ الظَّاهِرُ مُرتَبِطٌ بالاعتقادِ الباطِنِ، ومِن ثَمَّ فإنَّ الانحرافَ الواقِعَ في السُّلوكِ والأخلاقِ الظَّاهِرةِ إنَّما هو ناشئٌ عن نقصٍ في الإيمانِ الباطِنِ.
قال ابنُ تَيميَّةَ: (إذا انقَضَت الأعمالُ الظَّاهِرةُ الواجِبةُ، كان ذلك نَقصَ ما في القَلبِ من الإيمانِ، فلا يُتصوَّرُ مع كمالِ الإيمانِ الواجِبِ الذي في القَلبِ أن تَعدَمَ الأعمالُ الظَّاهِرةُ الواجِبةُ، بل يلزَمُ من وجودِ هذا كاملًا وجودُ هذا كامِلًا، كما لَزِم مِن نَقصِ هذا نَقصُ هذا؛ إذ تقديرُ إيمانٍ تامٍّ في القلبِ بلا ظاهِرٍ من قولٍ وعملٍ كتقديرِ مُوجِبٍ بلا مُوجِبِه، وعِلَّةٍ تامَّةٍ بلا مَعلولِها، وهذا ممتَنِعٌ) [134] ((مجموع الفتاوى)) (7/582) و (7/616). .
وقال أيضًا: (إذا قام بالقَلبِ التَّصديقُ به والمحبَّةُ له، لَزِم ضرورةً أن يتحَرَّكَ البدَنُ بموجِبِ ذلك من الأقوالِ الظَّاهرةِ، والأعمالِ الظَّاهرةِ، فما يظهَرُ على البَدَنِ مِن الأقوالِ والأعمالِ هو مُوجِبُ ما في القَلبِ ولازِمُه، ودليلُه ومعلولُه، كما أنَّ ما يقومُ بالبَدَنِ مِن الأقوالِ والأعمالِ له أيضًا تأثيرٌ فيما في القَلبِ، فكُلٌّ منهما يؤثِّرُ في الآخَرِ، لكِنَّ القَلبَ هو الأصلُ، والبَدَنُ فَرعٌ له، والفَرعُ يستَمِدُّ مِن أصلِه، والأصلُ يَثبُت ويَقْوى بفَرْعِه) [135] ((مجموع الفتاوى)) (7/541). .
وقال الشَّاطبيُّ: (الأعمالُ الظَّاهِرةُ في الشَّرعِ دليلٌ على ما في الباطِنِ؛ فإن كان الظَّاهِرُ مُنخَرِمًا حُكِم على الباطِنِ بذلك، أو مُستقيمًا حُكِمَ على الباطِنِ بذلك أيضًا، وهو أصلٌ عامٌّ في الفِقهِ وسائِرِ الأحكامِ العاديَّاتِ والتَّجريبيَّاتِ، بل الالتِفاتُ إليهما مِن هذا الوَجهِ نافعٌ في جملةِ الشَّريعةِ جِدًّا) [136] ((الموافقات)) (1/233). .
والإيمانُ إذا جاء مُطلَقًا مجرَّدًا فإنَّه يندَرِجُ فيه السُّلوكُ والأخلاقُ وسائِرُ الأعمالِ الصَّالحةِ، كما في حديثِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الإيمانُ بِضعٌ وسَبعون أو بِضعٌ وسِتُّون شُعبةً، فأفضَلُها قولُ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطَّريقِ، والحياءُ شُعبةٌ من الإيمانِ )) [137] أخرجه البخاري (9) مختصرًا، ومسلم (35) واللَّفظُ له من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال ابنُ تيميَّةَ: (اسمُ الإيمانِ يُستعمَلُ مُطلقًا، ويُستعمَلُ مُقَيَّدًا، وإذا استُعمِلَ مُطلَقًا فجميعُ ما يحِبُّه اللهُ ورسولُه من أقوالِ العبدِ وأعمالِه الباطنةِ والظَّاهرةِ يدخُلُ في مُسَمَّى الإيمان عِندَ عامَّةِ السَّلَفِ والأئمَّةِ من الصَّحابةِ والتَّابعين وتابعيهم الذين يجعَلون الإيمانَ قولًا وعملًا... ودخَل في ذلك ما قد يُسَمَّى مقامًا وحالًا، مِثلُ الصَّبرِ، والشُّكرِ، والخَوفِ، والرَّجاءِ، والتَّوكُّلِ، والرِّضا، والخَشيةِ، والإنابةِ، والإخلاصِ، والتَّوحيدِ، وغيرِ ذلك) [138] ((مجموع الفتاوى)) (7/642)، ويُنظر فيه: (7/515). .

انظر أيضا: