موسوعة الفرق

الفَصلُ الأوَّلُ: اهتِمامُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ بالجانِبِ السُّلوكيِّ والأخلاقيِّ


لَمَّا كان السُّلوكُ عِندَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ إيمانًا ودينًا، أفرَدوه بكتُبٍ مُستَقِلَّةٍ، بل أورَدوا الجوانِبَ السُّلوكيَّةَ ضِمنَ كُتُبِ العقيدةِ؛ لأنَّ السُّلوكَ وما يتعَلَّقُ بالصِّفاتِ الأخلاقيَّةِ من شُعَبِ الإيمانِ وخصالِه، فلا تنفَكُّ عنه.
قال الإسماعيليُّ في اعتقادِ أهلِ السُّنَّةِ: (يَرَونَ مجانبةَ البِدعةِ والآثامِ، والفَخرِ والتَّكبُّرِ والعُجبِ، والخيانةِ والدَّغَلِ، والاغتيالِ والسِّعايةِ، ويرَون كَفَّ الأذى، وتَرْكَ الغِيبةِ إلَّا لِمن أظهَر بِدعةً وهوًى يدعو إليهما؛ فالقَولُ فيه ليس بغِيبةٍ عِندَهم) [128] ((اعتقاد أهل السنة)) (ص: 53). .
وقال أبو القاسِمِ الأصبهانيُّ: (من مَذهَبِ أهلِ السُّنَّةِ: التَّورُّعُ في المآكِلِ والمشارِبِ والمناكِحِ، والتَّحرُّرُ من الفواحِشِ والقبائِحِ، والتَّحريضُ على التَّحابِّ في اللهِ عزَّ وجَلَّ، واتِّقاءُ الجِدالِ والمُنازَعةِ في أصولِ الدِّينِ، ومجانَبةُ أهلِ الأهواءِ والضَّلالةِ، وهَجْرُهم ومبايَنتُهم، والقيامُ بوفاءِ العهدِ والأمانةِ، والخُروجُ من المظالِمِ والتَّبِعاتِ، وغَضُّ الطَّرْفِ عن الرِّيبةِ والحُرُماتِ، ومَنعُ النَّفسِ عن الشَّهَواتِ، وتَركُ شهادةِ الزُّورِ وقَذفِ المُحصَناتِ، وإمساكُ اللِّسانِ عن الغِيبةِ والبُهتانِ والفُضولِ من الكلامِ، وكَظمُ الغَيظِ، والصَّفحُ عن زَلَلِ الإخوانِ، والمُسابقةُ إلى فِعلِ الخيراتِ، والإمساكُ عن الشُّبُهاتِ، وصِلةُ الأرحامِ، ومُواساةُ الضُّعَفاءِ، والنَّصيحةُ في اللهِ، والشَّفَقةُ على خَلقِ اللهِ، والتَّهجُّدُ لقيامِ اللَّيلِ لا سِيَّما لحَمَلةِ القُرآنِ، والبِدارُ إلى أداءِ الصَّلواتِ) [129] ((الحجة في بيان الحجة)) (2/528). .
وذكر ابنُ تيميَّةَ جملةً من الصِّفاتِ السُّلوكيَّةِ والأخلاقيَّةِ لأهلِ السُّنَّةِ، ومن ذلك: (يأمُرونَ بالصَّبرِ على البلاءِ، والشُّكرِ عِندَ الرَّخاءِ، والرِّضا بمُرِّ القضاءِ، ويَدْعون إلى مكارِمِ الأخلاقِ ومحاسِنِ الأعمالِ، ويعتَقِدون معنى قولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أكمَلُ المؤمِنين إيمانًا أحسَنُهم خُلُقًا )) [130] أخرجه أبو داود (4682)، والترمذي (1162)، وأحمد (7402) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الترمذيُّ، وابنُ حبان في ((صحيحه)) (479)، والحاكمُ على شرط مسلم في ((المستدرك)) (2)، وابن تيمية في ((الإيمان)) (328)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1162). ، ويَندُبون إلى أن تَصِلَ مَن قطَعَك، وتُعطيَ مَن حَرَمك، وتعفوَ عمَّن ظَلَمك، ويأمُرون ببِرِّ الوالِدَينِ، وصِلةِ الأرحامِ، وحُسنِ الجِوارِ، والإحسانِ إلى اليتامى والمساكينِ وابنِ السَّبيلِ، والرِّفقِ بالمملوكِ، وينهَون عن الفَخرِ والخُيَلاءِ، والبَغيِ والاستطالةِ على الخَلقِ بحَقٍّ أو بغيرِ حَقٍّ، ويأمُرون بمعالي الأخلاقِ ويَنهَون عن سَفْسافِها) [131] ((العقيدة الواسطية)) (ص: 130). .
وقال الذَّهَبيُّ: (السُّلوكُ الكامِلُ هو الوَرَعُ في القُوتِ، والوَرَعُ في النُّطقِ، وحِفظُ اللِّسانِ، وملازَمةُ الذِّكرِ، وتَركُ مخالطةِ العامَّةِ، والبُكاءُ على الخطيئةِ، والتِّلاوةُ بالتَّرتيلِ والتَّدبُّرِ، ومَقتُ النَّفسِ وذَمُّها في ذاتِ اللهِ، والإكثارُ من الصَّومِ المشروعِ، ودوامُ التَّهجُّدِ، والتَّواضُعُ للمُسلِمين، وصِلةُ الرَّحِمِ، والسَّماحةُ وكَثرةُ البِشْرِ، والإنفاقُ مع الخَصاصةِ، وقَولُ الحَقِّ المُرِّ برِفقٍ وتُؤَدةٍ، والأمرُ بالمعروفِ، والأخذُ بالعَفوِ، والإعراضُ عن الجاهِلين، والرِّباطُ بالثَّغرِ، وجِهادُ العَدُوِّ، وحَجُّ البيتِ، وتناوُلُ الطَّيِّباتِ في الأحايِينِ، وكَثرةُ الاستغفارِ في السَّحَرِ، فهذه شمائِلُ الأولياءِ، وصِفاتُ المحمَّديِّين، أماتنا اللهُ على محَبَّتِهم) [132] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) (9/12، 91). .
وأمَّا الفِرَقُ المخالِفةُ لطريقةِ أهلِ السُّنَّةِ في بابِ الأخلاقِ فقد تنوَّعَت سُبُلُها؛ فمنها من لم يهتَمَّ بهذا الجانِبِ على الإطلاقِ سواءٌ من جهةِ حُقوقِ اللهِ سُبحانَه وتعالى، أو مِن جِهةِ حُقوقِ عِبادِه من الواجِباتِ والمُستَحبَّاتِ، فهم مُفَرِّطون في ذلك كُلِّه، وقد أخذوا الاعتقادَ من جهةِ العَقليَّاتِ فقط، فصار عندَهم مجرَّدُ مباحِثَ هي أشبَهُ بمباحِثِ اللَّاهوتِ عِندَ النَّصارى، وليست بمباحِثَ عَقَديَّةٍ تؤثِّرُ في القَلبِ حُبًّا وخُضوعًا، وتستجيبُ معه الجوارِحُ فِعلًا وسُلوكًا، وكما قال الذَّهبيُّ: (لعَنَ اللهُ الذَّكاءَ بلا إيمانٍ) [133] ((سير أعلام النبلاء)) (14/ 62). .
وقد كان للنَّزعةِ الإرجائيَّةِ الكلاميَّةِ أثَرٌ ظاهِرٌ في إهمالِ موضوعاتِ السُّلوكِ والأخلاقِ، فلَمَّا كان الإيمانُ عِندَهم تصديقًا فحَسْبُ، أهملوا أعمالَ القلوبِ والجوارحِ، ولَمَّا كان توحيدُهم فقط هو توحيدَ اعتقادِ الرُّبوبيَّةِ للهِ تعالى أعرَضوا عن توحيدِ العبادةِ والإرادةِ والطَّلَبِ، وما يتبَعُه من الجوانِبِ السُّلوكيَّةِ والأخلاقيَّةِ.
ويُقابِلُ ذلك من جهةٍ أخرى طائفةٌ غَلَت في الأخلاقِ والعبادةِ حتَّى جاوزت المأذونَ به، وتَرَكوا اتِّباعَ السُّنَّةِ والتِزامَ الهَدْيِ النَّبَويِّ في ذلك، كالمُتصَوِّفةِ الذين شابَهوا رُهبانَ النُّصارى.

انظر أيضا: