موسوعة الفرق

المَبحَثُ الأوَّلُ: آراءُ الشِّيعةِ في نشأةِ التَّشيُّعِ


ليس للشِّيعةِ رأيٌ مُوَحَّدٌ في نشأةِ التَّشيُّعِ، ويمكِنُ من خلالِ كُتُبِهم المعتَمَدةِ استِخلاصُ ثلاثةِ آراءٍ لهم في ذلك:
الرَّأيُ الأوَّلُ: أنَّ التَّشيُّعَ قديمٌ مِن قَبلِ رِسالةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فما من نبيٍّ إلَّا وقد عُرِض عليه الإيمانُ بولايةِ عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه!
وقد وَضَع الشِّيعةُ عِدَّةَ رواياتٍ لإثباتِ هذا الشَّأنِ، ومن ذلك ما روَوه عن أبي الحَسَنِ قال: (ولايةُ عَليٍّ مكتوبةٌ في جميعِ صُحُفِ الأنبياءِ، ولن يَبعَثَ اللَّهُ رسولًا إلَّا بنُبُوَّةِ محمَّدٍ صلى اللَّهُ عليه وآلِه، ووَصيَّةِ عليٍّ عليه السَّلامُ) [13] يُنظر: ((الكافي)) للكَليني (1/437). .
وروَوا عن أبي جَعفَرٍ في قولِ اللَّهِ عزَّ وجَلَّ: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه: 115] . قال: (عَهِدْنا إليه في محمَّدٍ والأئمَّةِ مِن بَعدِه، فتَرَك ولم يكُنْ له عَزمٌ! وإنَّما سُمِّي أولو العَزمِ أُولي العَزمِ؛ لأنَّه عَهِد إليهم في محمَّدٍ والأوصياءِ مِن بَعدِه، والمَهديِّ وسِيرتِه، وأجمع عَزمُهم على أنَّ ذلك كذلك والإقرارِ به!) [14] يُنظر: ((الكافي)) للكَليني (1/416). ويُنظر: ((علل الشرائع)) لابن بابويه القمي (ص: 122)، ((الصافي)) للكاشاني (2/80)، ((تفسير القمي)) (2/65)، ((المحجة)) لهاشم البحراني (ص: 635، 636)، ((البحار)) للمجلسي (11/35) و (26/278)، ((بصائر الدرجات)) للصفار (ص: 21). .
وجاء عندَهم في روايةٍ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: (يا عَليُّ، ما بعَث اللَّهُ نبيًّا إلَّا وقد دعاه إلى ولايتِك طائعًا أو كارِهًا!) [15] يُنظر: ((البحار)) للمجلسي (11/60)، ((المعالم الزلفى)) للبحراني (ص: 303). .
وفي روايةٍ أُخرى عن أبي جَعفَرٍ قال: (إنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى أخَذ ميثاقَ النَّبيِّينِ بولايةِ عَليٍّ!) [16] يُنظر: ((المعالم الزلفى)) (ص: 303). .
وعن أبي عَبدِ اللَّهِ قال: (ولايتُنا ولايةُ اللَّهِ، لم يُبعَثْ نبيٌّ قَطُّ إلَّا بها!) [17] يُنظر: ((مستدرك الوسائل)) للنوري الطبرسي (2/195)، ((المعالم الزلفى)) للبحراني (ص: 303). .
وعَقَد لذلك البَحرانيُّ بابًا بعنوانِ: (بابٌ: أنَّ الأنبياءَ بُعِثوا على ولايةِ الأئمَّةِ) [18] ((المعالم الزلفى)) (ص: 303). .
وفي تفسيرِ الصَّافي: (ثبَت أنَّ جميعَ أنبياءِ اللَّهِ ورُسُلِه وجميعَ المُؤمِنين كانوا لعَليِّ بنِ أبي طالبٍ مُجيبينَ، وثبَت أنَّ المُخالِفين لهم كانوا له ولجميعِ أهلِ محبَّتِه مُبغِضين، فلا يدخُلُ الجنَّةَ إلَّا مَن أحَبَّه من الأوَّلين والآخِرين، فهو إذَن قَسيمُ الجنَّةِ والنَّارِ!) [19] ((تفسير الصافي)) للكاشاني (1/16). .
وجاء نحوُ هذه الرِّواياتِ في كثيرٍ مِن كُتُبِهم المُعتَمَدةِ، كما في الكافي [20] يُنظر: ((أصول الكافي)) للكليني (2/8). ، والوافي [21] يُنظر: ((الوافي)) للكاشاني (2/155). ، والبِحارِ [22] يُنظر: ((البحار)) للمجلسي (35/ 151)، ((سفينة البحار)) للقمي (1/729). ، ومُستَدرَكِ الوسائِلِ [23] يُنظر: ((مستدرك الوسائل)) للنوري (2/195). ، والخِصالِ [24] يُنظر: ((الخصال)) للصدوق (1/270). ، وعِلَلِ الشَّرائعِ [25] يُنظر: ((علل الشرائع)) للصدوق (ص: 122، 135، 136، 143، 144، 174). ، والفُصولِ المُهِمَّةِ [26] يُنظر: ((الفصول المهمة)) للحر العاملي (ص: 158). ، وتفسيرِ فُراتٍ [27] يُنظر: ((تفسير فرات)) (ص: 11-13). ، والصَّافي [28] يُنظر: ((تفسير الصافي)) (2/80). ، والبُرهانِ [29] يُنظر: ((البرهان في تفسير القرآن)) للبحراني (1/86). ، وغيرُها كثيرٌ، حتَّى إنَّ الحُرَّ العامِليَّ صاحِبَ وسائِلِ الشِّيعةِ -أحدِ مَصادِرِهم المُعتَمَدةِ في الحديثِ- ذَكَر أنَّ الرِّواياتِ التي فيها أنَّ اللَّهَ حينَ خَلَق الخَلقَ أخَذ الميثاقَ على الأنبياءِ، تزيدُ على ألفِ حَديثٍ [30] يُنظر: ((الفصول المهمة)) (ص: 159). !
بل قالوا: (اللهُ عزَّ اسمُه عرَض ولايتَنا على السَّمَواتِ والأرضِ والجِبالِ والأمصارِ!) [31] ((مستدرك الوسائل)) للنوري (2/195). .
وقال هادي الطَّهرانيُّ -أحَدُ آياتِهم ومراجِعِهم المُعاصِرين-: (تدُلُّ بعضُ الرِّواياتِ على أنَّ كُلَّ نبيٍّ أُمِر بالدَّعوةِ إلى ولايةِ عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه، بل عُرِضَت الوِلايةُ على جميعِ الأشياءِ، فما قَبِل صَلَح، وما لم يَقبَلْ فَسَد!) [32] ((ودايع النبوة)) (ص: 155). .
مناقَشةُ هذا الرَّأيِ:
بعضُ الآراءِ والمُعتَقَداتِ يكفي في بيانِ بُطلانِها مجرَّدُ عَرضِها، وهذا الرَّأيُ من هذا الصِّنفِ؛ إذ إنَّ بُطلانَه من الأمورِ المعلومةِ بالضَّرورةِ عِندَ جميعِ العُقلاءِ، وكتابُ اللَّهِ تعالى وسُنَّةُ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الصَّحيحةُ ليس فيهما شيءٌ من هذه المزاعِمِ، وقد كانت دعوةُ الرُّسُلِ عليهم السَّلامُ إلى التَّوحيدِ لا إلى وِلايةِ عَليٍّ والأئمَّةِ مِن بَعدِه!
قال اللَّهُ تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] .
وقال اللَّهُ سُبحانَه: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] .
فكُلُّ رُسُلِ اللَّهِ وأنبيائِه كانوا يَدعون قومَهم إلى عبادةِ اللَّهِ وَحدَه لا شريكَ له.
فقد قال نوحٌ وهودٌ وصالحٌ وشعيبٌ عليهم السَّلامُ لأقوامِهم: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 59 - 65 - 73 - 85].
وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أُمِرتُ أن أقاتِلَ النَّاسَ حتَّى يشهَدوا أنْ لا إلهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللَّهِ...)) [33] أخرجه البخاري (25)، ومسلم (22) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا بعَث معاذًا رَضِيَ اللهُ عنه إلى اليَمَنِ، قال: ((إنَّك تَقدَمُ على قومٍ أهلِ كتابٍ، فليَكُنْ أوَّلَ ما تدعوهم إليه عبادةُ اللهِ عزَّ وجَلَّ...)) [34] أخرجه البخاري (1458)، ومسلم (19). .
وأئمَّةُ السَّلَفِ متَّفِقون على أنَّ أوَّلَ ما يُؤمَرُ به العبدُ الشَّهادتانِ [35] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 75). .
فأينَ ما يزعُمُه الشِّيعةُ من أمرِ وِلايةِ عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه؟!
وإذا كانت وِلايةُ عَليٍّ مكتوبةٌ في جميعِ صُحُفِ الأنبياءِ، فلماذا ينفَرِدُ بنَقلِها الرَّوافِضُ، ولا يَعلَمُ بها أحدٌ غيرُهم؟! ولماذا لم يَعلَمْ بذلك أصحابُ الدِّياناتِ الأُخرى؟! بل لماذا لم تُسجَّلْ هذه الوِلايةُ في القرآنِ، وهو المهيمِنُ على الكُتُبِ كُلِّها، والمحفوظُ مِن لَدُنْ رَبِّ العِزَّةِ جِلَّ عُلاه؟! فهذا الرَّأيُ دعوى بلا بُرهانٍ.
قال ابنُ تَيميَّةَ: (هذه كُتُبُ الأنبياءِ التي أخرَج النَّاسُ ما فيها مِن ذِكرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ليس في شيءٍ منها ذِكرُ عَليٍّ، وهؤلاء الذين أسلَموا من أهلِ الكِتابِ لم يَذكُرْ أحدٌ منهم أنَّه ذُكِر عَليٌّ عِندَهم، فكيف يجوزُ أن يقالَ: إنَّ كُلًّا من الأنبياءِ بُعثوا بالإقرارِ بوِلاية عَليٍّ، ولم يَذكُروا ذلك لأُمَمِهم، ولا نَقَله أحَدٌ منهم؟!) [36] ((منهاج السنة)) (4/64). .
قال اللَّهُ تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81].
قال ابنُ عبَّاسٍ وغيرُه من المُفَسِّرين: لقد أخَذ اللَّهُ الميثاقَ على الأنبياءِ عليهم السَّلامُ: لئِنْ بُعِث محمَّدٌ وهم أحياءٌ لَيُؤمِنُنَّ به ولَيَنصُرُنَّه [37] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/557). .
وقد أجمع المُسلِمون على أنَّ الرَّجُلَ لو آمَن بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأطاعه، ومات في حياتِه قَبلَ أن يَعلَمَ أنَّ اللَّهَ خَلَق أبا بكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ وعَليًّا، لم يَضُرَّه ذلك شيئًا، ولم يمنَعْه من دُخولِ الجنَّةِ، فإذا كان هذا في أمَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكيف يقالُ: إنَّ الأنبياءَ يجِبُ عليهم الإيمانُ بواحدٍ من الصَّحابةِ [38] يُنظر: ((منهاج السنة)) (4/46). ؟!
قال ابنُ تَيميَّةَ: (إنَّ أولئك ماتوا قبلَ أن يَخلُقَ اللَّهُ عَليًّا، فكيف يكونُ أميرًا عليهم؟! وغايةُ ما يمكِنُ أن يكونَ أميرًا على أهلِ زَمانِه) [39] ((منهاج السنة)) (4/78). .
الرَّأيُ الثَّاني: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو الذي وضَع بَذرةَ التَّشيُّعِ، وأنَّ الشِّيعةَ ظَهَرت في عَصرِه، وأنَّ بعضَ الصَّحابةِ كانوا يتشَيَّعون لعَليٍّ في زَمَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم!
قال القُمِّيُّ: (أوَّلُ الفِرَقِ الشِّيعةُ، وهي فِرقةُ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ، المُسَمَّون شيعةَ عَليٍّ في زمانِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبَعدَه، معروفون بانقِطاعِهم إليه والقولِ بإمامتِه، منهم المِقدادُ بنُ الأسوَدِ الكِنديُّ، وسَلمانُ الفارِسيُّ، وأبو ذَرٍّ جُندُبُ بنُ جُنادةَ الغِفاريُّ، وعَمَّارُ بنُ ياسِرٍ المَذْحِجيُّ، وهم أوَّلُ من سُمُّوا باسمِ التَّشيُّعِ مِن هذه الأمَّةِ) [40] ((المقالات والفرق)) (ص: 15). .
وممَّن شاركه في هذا الرَّأيِ: النُّوبَخْتيُّ [41] يُنظر: ((فرق الشيعة)) (ص: 17). .
وقال محمَّد حُسَين آل كاشِف الغِطاءِ: (إنَّ أوَّلَ مَن وَضَع بَذْرةَ التَّشيُّعِ في حَقلِ الإسلامِ هو نَفسُ صاحِبِ الشَّريعةِ، يعني: أنَّ بَذْرةَ التَّشيُّعِ وُضِعَت في بَذرةِ الإسلامِ جنبًا إلى جَنبٍ، وسواءً بسواءٍ، ولم يَزَلْ غارِسُها يتعاهَدُها بالسَّقيِ والرَّيِّ حتَّى نمت وازدهرت في حياتِه، ثمَّ أثمَرَت بعدَ وَفاتِه!) [42] ((أصل الشيعة)) (ص: 43). .
وقال بهذا الرَّأيِ طائفةٌ من الشِّيعةِ المُعاصِرين [43] يُنظر: ((أعيان الشيعة)) لمحسن العاملي (1/13، 16)، ((الاثنا عشرية وأهل البيت)) لمحمد جواد مغنية (ص: 29)، ((تاريخ الفقه الجعفري)) لهاشم معروف (ص: 105)، ((هوية التشيع)) للوابلي (ص: 27)، ((هكذا الشيعة)) للشيرازي (ص: 4)، ((في ظلال التشيع)) لمحمد الحسني (ص: 50-51)، ((الشيعة في التاريخ)) للزين (ص: 29، 30)، ((تاريخ التشيع)) للمظفر (ص: 18)، ((بحث حول الولاية)) للصدر (ص: 63)، ((أصول الدين)) لأحمد تفاحة (ص: 18، 19). .
مُناقَشةُ هذا الرَّأيِ:
أوَّلًا: أوَّلُ مَن قال بهذا الرَّأيِ: القُمِّيُّ في كتابِه (المقالاتِ والفِرَقِ): والنُّوبَختُّي في كتابِه (فِرَقِ الشِّيعةِ). وقد يكونُ من أهَمِّ أسبابِ نُشوءِ هذا الرَّأيِ هو أنَّ بعضَ عُلَماءِ المُسلِمين أرجَع التَّشيُّعَ في نشأتِه وجُذورِه إلى أصولٍ يَهوديَّةٍ؛ لوجودِ قرائِنَ واضِحةٍ تُثبِتُ ذلك، فدفَع ذلك الشِّيعةَ إلى محاولةِ إعطاءِ التَّشيُّعِ صِفةً شَرعيَّةً، مع تأييدِها وإثباتِها بكُلِّ وسيلةٍ؛ فوَضَعوا رواياتٍ كثيرةً في ذلك [44] في كتُبِ الموضوعاتِ عندَ أهلِ السُّنَّةِ رواياتٌ كثيرةٌ من وَضعِ الرَّوافِضِ في هذا البابِ. يُنظر مثلًا: ((الموضوعات)) لابن الجوزي (1/338) وما بعدها، ((الفوائد المجموعة)) للشوكاني (ص: 342) وما بعدها، ((تنزيه الشريعة)) للكتاني (1/351) وما بعدها. ، ونسبوها إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وزعموا أنَّها رُوِيَت من طُرُقِ أهلِ السُّنَّةِ، وهي رواياتٌ (لا يَعرِفُها جَهابِذةُ السُّنَّةِ ولا نَقَلةُ الشَّريعةِ، بل أكثَرُها موضوعٌ أو مطعونٌ في طريقِه، أو بعيدٌ عن تأويلاتِهم الفاسِدةِ) [45] ((المقدمة)) لابن خلدون (2/527). .
ثانيًا: أنَّ هذا الرَّأيَ لا أصلَ له في الكتابِ والسُّنَّةِ، وليس له سَنَدٌ تاريخيٌّ ثابتٌ، بل هو رأيٌ يجافي أصولَ الإسلامِ، وينافي الحقائِقَ الثَّابتةَ؛ فقد جاء الإسلامُ لجَمعِ هذه الأمَّةِ على كَلِمةٍ سَواءٍ، لا ليُفَرِّقَها شِيَعًا وأحزابًا، ولم يكُنْ بَيْنَ يَدَيْ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شيعةٌ ولا سُنَّةٌ، واللَّهُ سُبحانَه وتعالى يقولُ: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران: 19] ، لا التَّشيُّعُ ولا غيرُه، ويقولُ اللَّهُ سُبحانَه: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85] ، فدِينُ اللَّهِ الذي رَضِيه لعبادِه هو أن يعبُدوه وَحْدَه، ولا يُشرِكوا به شيئًا، وأن يَعبُدوه بما شَرَعه لهم بواسِطةِ رُسُلِه عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ.
ومن الحقائِقِ التَّاريخيَّةِ المتواتِرةِ التي تكشِفُ خَطَأَ هذا الرَّأيِ ومجانبتَه للحقيقةِ: أنَّه لم يكُنْ للشِّيعةِ وُجودٌ في زَمَنِ أبي بَكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ رَضِيَ اللَّهُ عنهم [46] قال ابن تيميَّةَ: (في خلافةِ أبي بكرٍ وعُمَرَ لم يكُنْ أحدٌ يُسَمَّى من الشِّيعةِ، ولا تضافُ الشِّيعةُ إلى أحدٍ). ((منهاج السنة)) (2/64). .
وقد اضطُرَّ بعضُ شُيوخِ الشِّيعةِ للإذعانِ لهذه الحقيقةِ.
قال آيتُهم ومجتَهِدُهم الأكبَرُ في زَمَنِه محمَّد حُسَين آل كاشِف الغِطاءِ: (لم يكُنْ للشِّيعةِ والتَّشيُّعِ يومَئذٍ أي: في عَهدِ أبي بَكرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما مجالٌ للظُّهورِ؛ لأنَّ الإسلامَ كان يجري على مناهِجِه القويمةِ) [47] ((أصل الشيعة)) (ص: 48). .
وبمِثلِ هذا اعتَرَف شَيخُهم محمَّد حُسَين العامِليُّ، فقال: (إنَّ لَفظَ الشِّيعةِ قد أُهمِل بعدَ أن تمَّت الخِلافةُ لأبي بَكرٍ، وصار المُسلِمون فِرقةً واحِدةً إلى أواخِرِ أيَّامِ الخليفةِ الثَّالِثِ) [48] ((الشيعة في التاريخ)) (ص: 39، 40). .
والصَّوابُ أنَّ التَّشيُّعَ لم يكُنْ موجودًا أصلًا في عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعَهدِ الخُلَفاءِ الثَّلاثةِ الرَّاشِدينَ.
ثالثًا: زَعَموا أنَّ الشِّيعةَ كانت تتألَّفُ من عَمَّارٍ، وأبي ذَرٍّ، والمِقدادِ، وسَلمانَ رَضِيَ اللَّهُ عنهم، فهل قال هؤلاء بعقيدةٍ من عقائِدِ الشِّيعةِ مِن دعوى النَّصِّ على خِلافةِ عَليٍّ، وأنَّه الوَصيُّ، وتكفيرِ الشَّيخينِ: أبي بَكرٍ وعُمَرَ وأكثَرِ الصَّحابةِ، أو أظهَروا البراءةَ والسَّبَّ لهم أو كراهيتَهم؟! كلَّا، لم يوجَدْ شيءٌ من ذلك، وكُلُّ ما قاله الشِّيعةُ من دعاوى في هذا لا يعدو أن يكونَ مَحْضَ افتِراءٍ [49] ومن هذا الافتراءِ قَولُهم: (إنَّ الزُّبَيرَ والمقدادَ وسَلمانَ حَلَقوا رؤوسَهم ليقاتِلوا أبا بكرٍ). ((رجال الكشي)) (ص: 133). .
قال ابنُ المُرتضى (وهو شيعيٌّ زَيديٌّ): (إن زعَموا أنَّ عمَّارًا وأبا ذَرٍّ الغِفاريَّ والمِقدادَ بنَ الأسوَدِ وسَلمانَ الفارِسيَّ كانوا سَلَفَهم؛ لقولِهم بإمامةِ عَليٍّ عليه السَّلامُ، أكذَبَهم كونُ هؤلاء لم يُظهِروا البراءةَ من الشَّيخينِ ولا السَّبَّ لهم، ألا ترى أنَّ عمَّارًا كان عامِلًا لعُمَرَ بنِ الخطَّابِ في الكوفةِ [50] يُنظر: ((الاستيعاب)) لابن عبد البر (2/473)، ((أسد الغابة)) لابن الأثير (4/64)، ((الإصابة)) لابن حجر (2/506). ، وسَلمانَ الفارِسيَّ في المدائِنِ [51] يُنظر: ((طبقات ابن سعد)) (4/87). ؟) [52] ((المنية والأمل)) (ص: 124، 125). .
الرَّأيُ الثَّالِثُ: أنَّ تاريخَ ظُهورِ الشِّيعةِ يومَ الجَمَلِ.
قال ابنُ النَّديمِ: (إنَّ عليًّا قَصَد طَلحةَ والزُّبَيرَ ليقاتِلَهما حتَّى يَفيئَا إلى أمرِ اللَّهِ جَلَّ اسمُه، فسَمَّى من اتَّبَعه على ذلك الشِّيعةَ، فكان يقولُ: شيعتي، وسمَّاهم عليه السَّلامُ: الأصفياءَ، الأولياءَ، شُرطةَ الخَميسِ، الأصحابَ) [53] ((الفهرست)) (ص: 175). .
مُناقَشةُ هذا الرَّأيِ:
هذا الرَّأيُ لعَلَّه انفرد به ابنُ النَّديمِ، وهو يشيرُ إلى تاريخِ ظُهورِ الشِّيعةِ بمعنى الأنصارِ والأتباعِ، وفيه تاريخُ إطلاقِ لَقَبِ الشِّيعةِ على أنصارِ عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه، وأنَّ عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عنه هو الذي لقَّبهم بذلك؛ حيثُ يقولُ: (شيعتي).
لكِنَّ هذا القولَ لا يحمِلُ دَلالةً واضِحةً على بدايةِ الأُصولِ الفِكريَّةِ للتَّشيُّعِ، فهو -إن صَحَّ- يعني هنا المعنى اللُّغَويَّ للشِّيعةِ، وهو الأنصارُ؛ ولهذا استخدم أيضًا ألقابًا أخرى تدُلُّ على ذلك كالأصحابِ والأولياءِ.
كما أنَّ الرِّواياتِ التَّاريخيَّةَ ذَكَرت أنَّ لَقَبَ (شيعتي) والشِّيعةِ استعمَلَه كُلٌّ مِن عَليٍّ ومعاويةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما.
وقد وَصَف مصطفى كامل الشِّيبيُّ -وهو شيعيٌّ معاصِرٌ- رأيَ ابنِ النَّديمِ هذا بالغَرابةِ؛ حيثُ جَعَل التَّشيُّعَ لقبًا أطلقه عَليٌّ بنفسِه على أصحابِه [54] ((الصلة بين التصوف والتشيع)) (ص: 18). ويُنظر: ((نشأة الفكر الفلسفي)) للنشار (2/32). !
مع أنَّه لا غرابةَ في أن يدعوَ عَليٌّ أنصارَه بقولِه: (شيعتي)، فقد تقدَّم في التَّعريفِ اللُّغَويِّ أنَّ شيعةَ الرَّجُلِ أنصارُه وأتباعُه، ومن ذلك قولُ اللَّهِ سُبحانَه في قِصَّةِ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ [القصص: 15] ، وقال سُبحانَه بَعدَ أنْ ذَكَر نوحًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ [الصافات: 83] .

انظر أيضا: