موسوعة الفرق

الفَصلُ الأوَّلُ: بدايةُ التَّفرُّقِ عِندَ الخَوارِجِ وأسبابُه


كان لهذا الافتراقِ أسبابُه الظَّاهرةُ والخفيَّةُ، وإن لم تكُنْ في أغلَبِ الأحيانِ أسبابًا لها قيمُتها، فقد كانوا يختَلِفون ويفتَرِقون أحيانًا لأتفَهِ الأسبابِ، ومهما يكُنْ من أمرٍ فإلى جانبِ اختلافِهم حولَ سُلوكِ بعضِهم على هذا النَّحوِ أو ذاك كانت هناك أسبابٌ لهذا الاختلافِ ترجِعُ إلى اختلافِهم في الآراءِ الدِّينيَّةِ وفي مواقِفِهم من الجماعةِ الإسلاميَّةِ.
فقد كان الخَوارِجُ في مبدأِ أمرِهم لا يَعرِفون تلك التَّفاصيلَ في مذهَبِهم التي أحدَثَت بَينَهم الخلافاتِ فيما بَعدُ، وفَرَّقَتْهم فِرَقًا متعَدِّدةً ذاتَ آراءٍ مختلفةٍ؛ كالاختلافِ في القَعَدةِ والتَّقيَّةِ، والهِجرةِ من دارِ مُخالفيهم إلى دارِهم، وكذلك حُكمُ أطفالِ مخالِفيهم هل هو تابعٌ لحُكمِ آبائِهم أم يختصُّون بحُكمٍ مُستقِلٍّ مع الاختلافِ في حُكمِ هؤلاء الآباءِ المخالِفين... إلخ.
وقد أثَّرت فيهم هذه الاختلافاتُ في الآراءِ حينَ حدَثت فتعدَّدت طوائفُهم.
وقد اختلف العُلَماءُ في الشَّخصيَّةِ التي أحدثت هذه الخلافاتِ بَينَ صفوفِ الخَوارِجِ وفرَّقت كَلِمتَهم وجعَلت بعضَهم يتبرَّأُ من بعضٍ؛ فقيل: إنَّ أوَّلَ من أحدث الخلافَ بَينَ الخَوارِجِ هو نافِعُ بنُ الأزرَقِ الحَنَفيُّ، وقيل: إنَّ أوَّلَ من أحدَثها عبدُ رَبِّه الكبيرُ، أو رجُلٌ يُسَمَّى عبدَ اللهِ بنَ الوَضينِ، وأنَّ نافعَ بنَ الأزرقِ كان من المخالِفين له في مبدأِ أمرِه، ولكِنَّه بَعدَ وفاتِه تبيَّن له أنَّ الحَقَّ كان معه، فرجع إلى الأخذِ بقولِه، وأكفَرَ من يخالفُه بَعدَ ذلك. وأمَّا من خالفه قَبلَ ذلك -أي: قَبلَ أن يرى نافِعٌ أنَّ قولَه صحيحٌ- فليس بكافرٍ، وكأنَّ الحُكمَ يبتدئُ عِندَه مِن يومِ أن تبيَّنَ له صحَّةُ رأيِ ابنِ الوَضينِ، وقيل: إنَّ أوَّلَ من أحدثها عبدُ رَبِّه الصَّغيرُ [75] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/170)، ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 84). .
ولعلَّ الحقيقةَ أنَّ خِلافَ الخَوارِجِ لم يشتَدَّ ولم يأخُذْ شَكلَه الحادَّ إلَّا حينَ تبنَّى نافِعُ بنُ الأزرَقِ آراءَه الخاصَّةَ في تلك المسائِلِ التي لم يعرِفْها سَلَفُ الخَوارِجِ، ولم يخوضوا فيها بالتَّفصيلِ، وحينما أخذ نافعٌ في تطبيقِها اعتبرها الخَوارِجُ آراءً مُتطَرِّفةً لم يقُلْ بها سلَفُهم من أهلِ النَّهْرَوانِ ولا غيرُهم؛ فمَثَلًا حَرَّم التَّقيَّةَ واعتبَرَها خشيةً من غيرِ اللهِ لا تجوزُ بحالٍ، مُستدِلًّا بقولِ اللهِ تعالى: إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [النساء: 77] .
وعلى هذا فإنَّ القَعَدةَ الذين يستَنِدون إلى التَّقيَّةِ غيرُ مُؤمِنين في نَظَرِه، واعتبر كُلَّ مخالِفيه مُشرِكين كَفَرةً لا تحِلُّ مُناكَحتُهم ولا مُوارَثتُهم، ولا أكلُ ذبائحِهم، ولا يجِبُ رَدُّ أماناتِهم إليهم. ويحِلُّ أيضًا قَتلُ نِسائِهم وأطفالِهم، كما حكى اللهُ تعالى عن نوحٍ عليه السَّلامُ قَولَه: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح: 27] .
وعندما وصل إلى هذا الحَدِّ انفصلت عنه (النَّجَداتُ) بقيادةِ نَجْدةَ بنِ عامرٍ؛ لأنَّهم رأوا أن هذه الآراءَ مخالِفةٌ لكتابِ اللهِ تعالى وسُنَّةِ رَسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وسَلَفِهم القديمِ، قائلين له: (أحدَثْتَ ما لم يكُنْ عَمِلَه السَّلَفُ من أهلِ النَّهْرَوانِ وأهلِ القبلةِ)، فأجابهم بأنَّ هذه حُجَّةٌ عَرَفها وقامت عليه وينبغي الأخذُ بها [76] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/170)، ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 84). !
(إنَّ الآراءَ الشَّديدةَ للغايةِ التي تبنَّاها نافِعُ بنُ الأزرَقِ وضَعت الخَوارِجَ في بدايةِ مَرحلةٍ خطيرةٍ، فقد فتَحت مجالًا واسعًا أمامَ مجتَهِديهم لمناقشاتٍ نظريَّةٍ واسعةٍ استمرَّت فترةً من الزَّمَنِ، وأدَّت إلى ظهورِ آراءٍ مُتباينةٍ ومواقِفَ مختلفةٍ، وكانت سببًا في تفَرُّقِهم) [77] ((البحرين في صدر الإسلام)) للعاني (ص: 128). .
قال ابنُ عبدِ رَبِّه: (الأزارقةُ: أصحابُ نافِعِ بنِ الأزرَقِ الحَنَفيِّ، وكانوا قَبلُ على رأيٍ واحدٍ لا يختلفون إلَّا في الشَّيءِ الشَّاذِّ) [78] ((العقد الفريد)) (2/391). .
ومهما يكُنْ من اختلافِ العُلَماءِ حولَ تحديدِ أوَّلِ من أحدث الافتراقَ بَينَ الخَوارِجِ، فقد كان لهذه الاختلافاتِ أثَرُها السَّيِّئُ على مجرى حياتِهم؛ إذ أخذ كُلُّ فريقٍ منهم يُشَنِّعُ على مخالِفيه قولِه، كما سيتبيَّنُ ذلك فيما بَعدُ إن شاء اللهُ تعالى.

انظر أيضا: