الموسوعة الفقهية

المَطْلَبُ الثَّاني: مَشروعيَّةُ خِيارِ المجلِسِ


يُشرَعُ خِيارُ المجلِسِ في البيعِ، وهو مَذهَبُ الشَّافعيَّةِ ((تحفة المحتاج لابن حجر الهيتمي مع حاشية الشرواني)) (4/332). ، والحنابِلةِ ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (5/32)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامةَ (3/483، 484). ، وبعضِ المالكيَّةِ ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (3/91)، ((منح الجليل)) لعُلَيش (5/113). ، وهو قوْلُ جُمهورِ السَّلفِ قال النَّوويُّ: (قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((البيِّعانِ كلُّ واحدٍ منهما بالخيارِ على صاحبِه ما لم يَتفرَّقَا، إلَّا بَيعَ الخيارِ)) هذا الحديثُ دَليلٌ لثُبوتِ خِيارِ المجلِسِ لكلِّ واحدٍ مِن المتبايعينِ بعْدَ انعقادِ البيعِ حتَّى يَتفرَّقا مِن ذلك المجلِسِ بأبدانِهما، وبهذا قال جَماهيرُ العُلماءِ مِن الصَّحابةِ والتَّابعينَ ومَن بعْدَهم ممَّن، قال به عليُّ بنُ أبى طالبٍ وابنُ عُمرَ، وابنُ عبَّاسٍ وأبو هُرَيرةَ، وأبو بَرْزةَ الأسلميُّ وطاوسٌ، وسَعيدُ بنُ المسيِّبِ وعطاءٌ، وشُرَيحٌ القاضي والحسَنُ البصرىُّ، والشَّعبيُّ والزُّهريُّ، والأوزاعيُّ وابنُ أبي ذِئبٍ، وسُفيانُ بنُ عُيَينةَ، والشَّافعىُّ وابنُ المبارَكِ، وعلِيُّ بنُ المَدينِيِّ وأحمَدُ بنُ حَنبلٍ، وإسحاقُ بنُ راهَوَيه، وأبو ثَورٍ وأبو عُبَيدٍ، والبُخاريُّ وسائرُ المحدِّثينَ، وآخَرون) ((شرح مسلم)) (10/173)، يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (7/237)، ((الدراري المضية)) للشوكاني (2/258). ، وابنِ حَزمٍ قال ابنُ حَزمٍ: (كلُّ مُتبايعينِ صَرْفًا أو غيْرَه، فلا يَصِحُّ البيعُ بيْنهما أبدًا وإنْ تَقابَضا السِّلعةَ والثَّمنَ، ما لم يَتفرَّقا بأبدانِهما مِن المكانِ الذي تَعاقَدَا فيه البيعَ، ولكلِّ واحدٍ منهما إبطالُ ذلك العقدِ، أحَبَّ الآخَرُ أم كَرِهَ، ولو بَقِيا كذلك دَهْرَهما، إلَّا أنْ يقولَ أحدُهما للآخَرِ -لا تُبالِ أيُّهما كان القائلَ بعْدَ تَمامِ التَّعاقُدِ -: اختَرْ أنْ تُمضِيَ البيعَ أو أنْ تُبطِلَه، فإنْ قال: قدْ أمضَيْتُه فقدْ تمَّ البيعُ بيْنهما، تَفرَّقا أو لمْ يَتفرَّقَا) ((المحلى)) (7/233). ، وهو اختيارُ ابنُ تَيميَّةَ قال ابنُ تَيميَّةَ: (يَثبُتُ خيارُ المجلِسِ في البيعِ، ويَثبُتُ خيارُ الشَّرطِ في كلِّ العقودِ ولو طالت المدَّةُ) ((الفتاوى الكبرى)) (5/390). ، وابنِ القيِّمِ قال ابنُ القيِّمِ: (فإنَّ الشَّارعَ -صَلواتُ اللهِ وسلامُه عليه وعلى آلِه- أثبَتَ خيارَ المجلسِ في البيعِ حِكمةً ومَصلحةً للمتعاقدينِ، وليَحصُلَ تَمامُ الرِّضا الذي شرَطَه تعالَى فيه؛ فإنَّ العقدَ قدْ يقَعُ بَغتةً مِن غيرِ تَروٍّ ولا نظَرٍ في القيمةِ، فاقتَضَت مَحاسِنُ هذه الشَّريعةِ الكاملةِ أنْ يَجعَلَ للعقدِ حَريمًا يَتروَّى فيه المتبايعانِ ويُعيدانِ النَّظرَ، ويَستدرِكُ كلُّ واحدٍ منهما عَيبًا كان خَفيًّا)، ((إعلام الموقعين)) (3/194). ، والصَّنعانيِّ قال الصَّنعانيُّ: (قولُه: «فإنْ خيَّرَ أحدُهما الآخَرُ فتَبايَعا على ذلك؛ فقدْ وجَبَ البيعُ» أي: نَفَذ وتمَّ «وإنْ تَفرَّقَا» بالأبدانِ «بعْدَ أنْ تَبايَعا» أي: عقَدَا عقْدَ البيعِ «ولم يَترُكْ واحدٌ منهما البيعَ؛ فقدْ وجَبَ البيعُ» متَّفقٌ عليه، واللَّفظُ لمسلمٍ، الحديثُ دَليلٌ على ثُبوتِ خيارِ المجلسِ للمُتبايعينِ، وأنَّه يَمتَدُّ إلى أنْ يَحصُلَ التفرُّقُ بالأبدانِ) ((سبل السلام)) (2/45). ، والشَّوكانيِّ قال الشَّوكانيُّ: (أمَّا كونُ الخيارِ في المجلِسِ ثابتًا ما لم يَفتَرِقَا؛ فلِحديثِ حَكيمِ بنِ حِزامٍ في الصَّحيحينِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((البيِّعانِ بالخيارِ مالم يَفتَرِقَا))، وفيهما أيضًا نحْوُه مِن حَديثِ ابنِ عُمرَ، وفي البابِ أحاديثُ، وقد ذهَبَ إلى إثباتِ خِيارِ المجلِسِ جماعةٌ مِن الصَّحابةِ، منهم علِيٌّ وأبو بَرْزةَ الأسلميُّ، وابنُ عُمرَ وابنُ عبَّاسٍ، وأبو هُرَيرةَ وغيرُهم، ومِن التَّابعينَ شُرَيحٌ والشَّعبيُّ، وطاوسٌ وعَطاءٌ، وابنُ أبي مُلَيكةَ، نقَلَ ذلك عنهم البُخاريُّ، ونقَلَ ابنُ المنذِرِ القولَ به أيضًا عن سَعيدِ بنِ المسيِّبِ والزُّهريِّ، وابنِ أبي ذِئبٍ مِن أهلِ المدينةِ، وعن الحسَنِ البصريِّ والأوزاعيِّ، وابنِ جُريجٍ وغيرِهم، وبالَغَ ابنُ حَزمٍ فقال: لا يُعرَفُ لهم مخالِفٌ مِن التَّابعينَ إلَّا النَّخَعيَّ وحْدَه. ونقَلَ صاحبُ البحرِ ذلك عن الصَّادقِ والباقرِ، وزَينِ العابدينَ وأحمدَ بنِ عِيسى، والنَّاصرِ والإمامِ يَحيى، وحكاهُ أيضًا عن الشَّافعيِّ وأحمدَ، وإسحاقَ وأبي ثَورٍ، وذهَبَ الحنَفيَّةُ والمالكيَّةُ وغيرُهم إلى أنَّها إذا وَجَبت الصَّفقةُ، فلا خِيارَ، والحقُّ القولُ الأوَّلُ) ((الدراري المضية)) (2/258). ، والشِّنقيطيِّ قال الشِّنقيطيُّ: (إنَّ المنْصِفَ إذا تأمَّلَ تأمُّلًا صادقًا خاليًا مِن التَّعصُّبِ، عرَف أنَّ الحقَّ هو ثبوتُ خيارِ المجلسِ، وأنَّ المرادَ بالتفرُّقِ التفرُّقُ في الأبدانِ لا بالكلامِ؛ لأنَّ مَعنى التفرُّقِ بالكلامِ هو حُصولُ الإيجابِ مِن البائعِ، والقَبولِ مِن المشتري) ((أضواء البيان)) (7/367). ، وابنِ عُثَيمينَ قال ابنُ عُثَيمينَ: (فالصَّوابُ ما عليه الجمهورُ: أنَّ خِيارَ المجلسِ ثابتٌ ما دامَ المتعاقدانِ في المجلسِ) ((الشرح الممتع)) (8/263).
الأدلَّةُ:
أوَّلًا: مِن السُّنَّةِ
عن ابنِ عُمرَ رَضِي اللهُ عنهما، عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أنَّه قال: ((إذا تَبايَعَ الرَّجلانِ، فكلُّ واحدٍ منهما بالخيارِ ما لم يَتفرَّقا وكانا جَميعًا، أو يُخيِّرُ أحدُهما الآخَرَ، فتَبايَعا على ذلك؛ فقدْ وجَبَ البيعُ، وإنْ تَفرَّقا بعْدَ أنْ يَتبايَعَا، ولم يَترُكْ واحدٌ منهما البيعَ؛ فقدْ وجَبَ البيعُ)) أخرجه البخاري (2112) واللفظ له، ومسلم (1531).
ثانيًا: مِن الآثارِ
عن نافعٍ (أنَّ ابنَ عُمرَ رَضِي اللهُ عنهما كان إذا بايَعَ رجلًا، فأراد ألَّا يُقِيلَه، قام، فمَشى هُنَيْهةً، ثم رجَعَ إليه) أخرجه مسلم (1531).
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ ابنَ عُمِر رَضِي اللهُ عنهما فَهِم مِن الحديثِ أنَّ التَّفرُّقَ بالأبدانِ، وطبَّقَه عَمليًّا؛ فمَشى ثم رجَعَ، وهو راوي الحديثِ، والأعلَمُ بمَعناهُ يُنظر: ((الكافي في فقه الإمام أحمد)) لابن قدامة (2/ 26).
ثالثا: لأنَّ الإنسانَ قدْ يَبيعُ شيئًا ويَشتري شيئًا، ثم يَبْدو له، فيَندَمُ، فيَحتاجُ إلى التَّدارُكِ بالفسْخِ، فكان ثُبوتُ الخيارِ في المجلِسِ مِن بابِ النَّظرِ للمُتعاقدين يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (5/228).

انظر أيضا: