الموسوعة الفقهية

المَطلبُ الأوَّلُ: مُحاسَبةُ الناظِرِ على الوقْفِ


يجوزُ -في الجُملةِ- مُحاسَبةُ الوالي على الوقْفِ، وذلك باتِّفاقِ المذاهبِ الفِقهيَّةِ الأربعةِ [861] اختَلَفوا في قَبولِ قولِ الناظرِ في الإنفاقِ؛ هل يُقبَلُ دونَ بيِّنةٍ أم لا بُدَّ مِن البيِّنةِ؟ وهل يُقبَلُ قولُه مع يَمينِه أو دونَ يمينٍ؟ : الحنَفيَّة [862] دلَّت نُصوصُ الحنفيَّةِ على جَوازِ مُحاسَبةِ والي الوقفِ، واختلَفُوا في بعضِ الفروعِ. ((البحر الرائق)) لابن نُجَيم (5/262، 263)، ((حاشية ابن عابدين)) (4/448). ، والمالكيَّةِ [863] ذهَبَ المالكيَّةُ إلى أنَّ القَولَ قَولُ الناظرِ إذا كان أمينًا بلا بيِّنةٍ ولا يمينٍ، بشرْطِ أنْ يكونَ ما يدَّعيه مِن الصَّرفِ يُشبِهُ ما يقولُ، ولم يُشترَطْ عليه الإشهادُ في الإدخال ِوالإخراجِ، فإنِ اشتُرِطَ عليه الإشهادُ في أصلِ الوقْفِ فلا بُدَّ مِن البيِّنةِ فيما أدخَلَ أو أخرَجَ. وإنْ كان ما ادَّعاه مِن الصَّرفِ لا يُشبِهُ ما قال، فإنَّ عليه أنْ يَحلِفَ اليمينِ؛ لأنه مُتَّهمٌ، فإنْ حَلَفَ بَرِئَت ذِمَّتُه، وإنْ نَكَلَ أُلزِمَ بدفْعِ ما ادُّعِيَ به عليه. ((مواهب الجليل)) للحطَّاب (7/658)، ((الشرح الكبير للدَّرْدِير وحاشية الدسوقي)) (4/89). ، والشَّافعيَّةِ [864] فرَّق الشافعيَّةُ بيْن أن يكونَ المَوقوفُ عليهم مُعيَّنينَ أو غيرَ مُعيَّنينَ؛ فإنْ كانوا مُعيَّنينَ فإنَّ القَولَ قَولُهم، ولهم مُطالَبتُه بالحِسابِ، وإنْ كان المَوقوفُ عليهم غيرَ مُعيَّنينَ -كالفقراءِ- فهل للقاضي الحقُّ في مُحاسَبتِه؟ وجهانِ؛ أصحُّهما: أنَّ للقاضي الحقَّ في مُطالَبتِه بالحسابِ، ويُصدَّقُ في قدْرِ ما أنفَقَه عندَ الاحتِمالِ، فإنِ اتَّهَمَه القاضي حلَّفَه. ((مغني المحتاج)) للشربيني (2/394)، ((تحفة المحتاج للهيتمي وحاشية الشرْواني)) (6/292). ، والحَنابلةِ [865] فرَّق الحنابلةُ بيْنَ الناظرِ الأمينِ إذا كان مَنصوبًا مِن قِبَلِ الواقفِ وبيْن غَيرِه؛ فمَنَعوا المستحِقَّ مِن الاعتِراضِ على مَنصوبِ الواقفِ إذا كان أمينًا، بخلاف إذا لم يكُنِ الناظرُ مَنصوبًا مِن قِبَلِ الواقفِ أو لم يكُنْ أمينًا. ((الإقناع)) للحَجَّاوي (3/19)، ((كشاف القناع)) للبُهوتي (4/277).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِن السُّنة
عن أبي حُميدٍ الساعديِّ رضِيَ اللهُ عنه، قال: ((استعمَلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رجُلًا على صدَقاتِ بني سُلَيمٍ يُدْعى ابنَ اللُّتْبِيَّةِ، فلمَّا جاء حاسَبَه، قال: هذا مالُكم، وهذا هَديَّةٌ. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فهلَّا جلَسْتَ في بيتِ أبِيك وأُمِّك حتى تَأتِيَك هَديَّتُك إنْ كنتَ صادقًا! ثمَّ خَطَبَنا، فحمِدَ اللهَ وأثْنى عليه، ثمَّ قال: أمَّا بعدُ؛ فإنِّي أستَعمِلُ الرَّجُلَ منكم على العملِ ممَّا ولَّاني اللهُ، فيَأتي فيقولُ: هذا مالُكم، وهذا هَديَّةٌ أُهدِيَت لي! أفلا جلَسَ في بيتِ أَبِيه وأُمِّه حتى تَأتِيهَ هَديَّتُه! واللهِ لا يَأخُذُ أحدٌ منكم شَيئًا بغيرِ حقِّه إلَّا لَقِيَ اللهَ يَحمِلُه يومَ القيامةِ، فلَأعْرِفنَّ أحدًا منكم لَقِيَ اللهَ يَحمِلُ بَعيرًا له رُغاءٌ، أو بَقرةً لها خُوارٌ، أو شاةً تَيْعَرُ [866] تَيعِرُ: بكسرِ العَينِ وفَتحِها، أي: تصيحُ، واليُعار صوتُ المَعْزِ خاصَّةً. يُنظر: ((المُفْهِم)) لأبي العباس القرطبي (4/29)، ((شرح النووي على مسلم)) (12/219). ثمَّ رَفَعَ يَدَه حتى رُئِيَ بَياضُ إبْطِه، يقولُ: اللَّهمَّ هلْ بلَّغْتُ؟ )) [867] أخرجه البخاريُّ (6979) واللفظُ له، ومسلمٌ (1832).
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حاسَبَ أحَدَ مَن ولَّاهم شَيئًا يتَّصِلُ بالمالِ [868] ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (12/220). ، وناظرُ الوقفِ مُتوَلٍّ للمالِ الموقوفِ، فتُشرَعُ مُحاسبَتُه مِثلَه.
ثانيًا: ليَستوِيَ عِلْمُهم مع عِلمِ الناظرِ فيما يَتعلَّقُ بالوقفِ [869] ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (4/277).

انظر أيضا: