الموسوعة الفقهية

المَطْلَبُ الثَّالثُ: حُكمُ صَلاةِ العِيدَينِ


صلاةُ العِيدينِ مشروعةٌ بالإجماعِ قال الجوينيُّ: (الأصل فيها الكتاب، والسُّنة، والإجماع... ونقلُ صلاةِ العيد متواترٌ، والإجماعُ من الكافة منعقدٌ) ((نهاية المطلب)) (2/611). وقال ابنُ قُدامة: (الأصلُ في صلاة العيد الكتابُ والسُّنَّة والإجماع... وأجمَع المسلمونَ على صلاةِ العيدين) ((المغني)) (2/272). وقال النوويُّ: (أجمَع المسلمون على أنَّ صلاةَ العيد مشروعةٌ) ((المجموع)) (5/2). وقال ابنُ دَقيق العيد: (لا خلافَ في أنَّ صلاة العيدين من الشعائرِ المطلوبة شرعًا، وقد تواتَر بها النقلُ الذي يَقطع العُذرَ) ((إحكام الأحكام)) (ص: 229). وقال الصَّنعانيُّ: (صلاة العيد مُجمَعٌ على شرعيَّتها، مختلفٌ فيها على أقوال ثلاثة) ((سبل السلام)) (2/66، 67). واختَلف أهلُ العِلمِ في حُكمِها، على ثلاثةِ أقوال:
القول الأوّل: أنَّ صلاةَ العيدينِ واجبةٌ على الأعيانِ، وهذا مذهبُ الحَنَفيَّة [6285] الواجبُ عند الحنفيَّة في منزلةٍ بين الفَرض والسُّنة، وهو ما ثبَت بدليلٍ ظنيٍّ، أو كانت دلالته ظنيَّة. يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي، مع ((حاشية الشلبي)) (1/223)، ((حاشية ابن عابدين)) (2/166) (6/337). ، وبه قال ابنُ حبيبٍ من المالِكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطَّاب (2/568). ، وهو روايةٌ عن أحمد ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (23/161)، ((الإنصاف)) للمرداوي (2/294). ، واختاره ابنُ تيميَّة [6288] قال ابنُ تيميَّة: (ولهذا رجَّحنا أنَّ صلاةَ العيد واجبةٌ على الأعيان، كقول أبي حنيفة وغيرِه، وهو أحد أقوال الشافعي، وأحد القولين في مذهب أحمد) ((مجموع الفتاوى)) (23/161، 162). ، وابنُ القيِّم قال ابنُ القيِّم: (صلاة العيدِ واجبةٌ على الأعيان. وهذا هو الصَّحيحُ في الدَّليل) ((الصلاة وأحكام تاركها)) (ص: 39، 40). ، والصَّنعانيُّ قال الصَّنعانيُّ: (صلاةُ العيد مُجمَع على شرعيَّتها، مُختلَفٌ فيها على أقوال ثلاثة: الأول: وجوبها عينًا عند الهادي وأبي حنيفة، وهو الظاهرُ من مداومته صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والخلفاء من بعدِه، وأمْرِه بإخراج النِّساء، وكذلك ما سلَفَ من حديثِ أمرهم بالغُدوِّ إلى مصلَّاهم، فالأمرُ أصلُه الوجوب، ومن الأدلَّة قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ **الكوثر: 2** على مَن يقول المرادُ به صلاةُ النحر، وكذلك قولُه تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى **الأعلى: 14- 15**؛ فسَّرها الأكثر بزكاة الفِطر وصلاة عِيدِه) ((سبل السلام)) (2/66، 67). ، والشوكانيُّ قال الشوكانيُّ: (اعلم أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لازَمَ هذه الصَّلاة في العيدين، ولم يتركْها في عيد من الأعياد، وأمَر الناس بالخروج إليها، حتى أمَر بخروج النساء العواتقِ وذواتِ الخدورِ والحُيَّض، وأمَر الحُيَّض أن يعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، حتى أمر مَن لا جلبابَ لها أن تُلبِسَها صاحبتُها من جلبابها، وهذا كله يدلُّ على أنَّ هذه الصلاة واجبةٌ وجوبًا مؤكَّدًا على الأعيان لا على الكفاية، ويَزيد ذلك تأكيدًا: أنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَ الناس بالخروجِ لقضائها في اليومِ الثاني مع اللَّبس كما تقدَّم، وهذا شأنُ الواجبات لا غيرها) ((السيل الجرار)) (ص: 192). ، وابنُ باز قال ابن باز: (صلاةُ العيد فرضُ كفايةٍ عند كثيرٍ من أهل العلم، ويجوز التخلُّفُ من بعض الأفراد عنها، لكن حضوره لها ومشاركته لإخوانه المسلمين سُنَّةٌ مؤكَّدة لا ينبغي تركها إلّا لعذر شرعي، وذهَب بعضُ أهل العلم إلى أنَّ صلاة العيدِ فرضُ عينٍ كصلاة الجمعة؛ فلا يجوز لأيِّ مُكلَّف من الرجال الأحرار المستوطنين أن يَتخلَّف عنها، وهذا القولُ أظهرُ في الأدلَّة وأقربُ إلى الصَّواب) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (13/7). ، وابنُ عُثيمين [6293] قال ابنُ عُثَيمين: (صلاةُ العيدِ فرضُ عينٍ على الرِّجال على القولِ الرَّاجحِ من أقوالِ أهلِ العِلم) ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (16/223).
الأدلَّة:
أولًا: من الكِتاب
قال اللهُ تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر: 2]
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ هذا أمرٌ من الله، والأمر يَقتضي الوجوبَ [6294] ((المغني)) لابن قدامة (2/272).
ثانيًا: من السُّنَّة
عن أمِّ عطيةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالتْ: (أمَرَنا- تعني النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أن نُخرِجَ في العِيدينِ: العواتقَ [6295] قال النوويُّ: (العواتقُ جمْع عاتق، وهي البنتُ التي بلَغتْ، وقال أبو زيد: هي البالِغة ما لم تعنسْ، وقيل: هي التي لم تتزوَّجْ، قال ثعلب: سُمِّيتْ عاتقًا؛ لأنَّها عتقت من ضرِّ أبويها، واستخدامهما وامتهانها بالخروجِ في الأشغال) ((المجموع)) (5/8). ، وذواتِ الخدورِ [6296] الخدور: جمْع خِدر، وهو ناحيةٌ في البيتِ يُتركُ عليها سترٌ، فتكون فيه الجاريةُ البِكر. وقيل: الخدور: البيوت. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/13)، ((المجموع)) للنووي (5/9)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/110)، ((شرح أبي داود)) للعيني (4/480)، ((حاشية السندي على سنن النسائي)) (1/194). ، وأَمَر الحُيَّضَ أنْ يعتزِلْنَ مُصلَّى المسلمينَ ) [6297] رواه البخاري (974)، ومسلم (890) واللفظ له.
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الأمرَ بخروج النِّساء يقتضي الأمرَ بالصَّلاة؛ وذلك لأنَّ الخروجَ وسيلةٌ إلى الصَّلاة، ووجوب الوسيلةِ يستلزمُ وجوبَ المتوسَّل إليه، وإذا أمر بذلك النساءَ، فالرِّجالُ من باب أَوْلى [6298] قال ابنُ عُثَيمين: (الأمرُ يقتضي الوجوب، وإذا كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَر النساء، فالرجالُ من باب أَوْلى؛ لأنَّ الأصل في النساء أنهنَّ لسْنَ من أهل الاجتماع؛ ولهذا لا تُشرع لهن صلاة الجماعة في المساجد، فإذا أمَرَهن أن يخرجن إلى مصلَّى العيد؛ ليصلِّين العيدَ ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، دلَّ هذا على أنَّها على الرجال أوجبُ، وهو كذلك) ((الشرح الممتع)) (5/114)، ويُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (16/273).
ثالثًا: أنَّ صلاة العيدينِ مِن أعظمِ شعائرِ الإسلامِ، والناسُ يَجتمعون لها أعظمَ مِنَ الجُمُعةِ، وقد شُرِع فيها التكبيرُ، فلو كانتْ سُنَّةً فربَّما اجتمع الناسُ على تركِها، فيفوتُ ما هو من شعائرِ الإسلامِ؛ فكانت واجبةً صِيانةً لِمَا هو من شعائرِ الإسلامِ عن الفوتِ ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/275)، ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/71)، ((المغني)) لابن قدامة (2/272)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (23/161)، ((الصلاة وأحكام تاركها)) لابن القيم (ص: 39، 40).
رابعًا: أنَّها صلاةٌ شُرِعتْ لها الخُطبة؛ فكانتْ واجبةً على الأعيانِ، كالجُمعةِ ((المغني)) لابن قُدامة (2/272).
القول الثاني: أنَّها سُنَّةٌ مؤكَّدة، وهو مذهبُ المالِكيَّة [6301] ((الكافي)) لابن عبد البَرِّ (1/263)، و((حاشية العدوي على كفاية الطالب الربَّاني)) (1/388). ، والشافعيَّة [6302] ((المجموع)) للنووي (5/2)، و((مغني المحتاج)) للشربيني (1/310). ، وقولٌ للحنفيَّة [6303] ((مجمع الأنهر)) لشيخي زاده (1/172). ، وروايةٌ عن أحمد [6304] قال المرداويُّ: (وعنه- أي: عن أحمد- هي- أي: صلاة العيد- سُنَّة مؤكَّدة) ((الإنصاف)) (2/294). ، واختارَه داودُ الظاهريُّ [6305] قال النوويُّ: (قد ذكرنا أنَّها- أي: صلاة العيد- سُنَّةٌ متأكِّدة، عندنا وبه قال... وداودُ) ((المجموع)) (5/3). ، وهو قولُ عامَّة أهلِ العِلمِ من السَّلفِ والخَلفِ [6306] قال النوويُّ: (جماهيرُ العلماء من السَّلَف والخَلف أنَّ صلاة العيد سُنَّةٌ، لا فرضُ كفاية) ((المجموع)) (5/3). وقال ابنُ رجب: (أمَّا صلاة العيد، فاختلف العلماءُ فيها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها سُنَّةٌ مسنونة، فلو تركها الناس لم يأثموا، هذا قولُ الثوري، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وأبي يوسف، وحُكِي روايةً عن أحمد) ((فتح الباري)) (6/75).
الأدلَّة:
أولًا: من السُّنَّة
1- عن طَلحةَ بنِ عُبَيدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ رجلًا جاءَ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يسألُه عن الإسلامِ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((خمسُ صلواتٍ كتبهنَّ اللهُ على عبادِه، فقال: هل عليَّ غيرُها؟ قال: لا، إلَّا أنْ تطوَّع )) [6307] رواه البخاري (2678)، ومسلم (11).
2- عن عبدِ اللهِ بن عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعَثَ مُعاذًا رَضِيَ اللهُ عنه إلى اليَمنِ، فقال: ادعُهم إلى شهادةِ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وأنِّي رسولُ اللهِ، فإنْ هم أطاعوا لذلك، فأَعْلِمْهم أنَّ اللهَ قد افتَرَضَ عليهم خمسَ صلواتٍ في كلِّ يومٍ وليلةٍ... )) الحديث [6308] رواه البخاري (1395) واللفظ له، ومسلم (19).
ثانيًا: أنَّ صلاةَ العيدينِ صلاةٌ مؤقَّتة، لا تُشرَعُ لها الإقامةُ؛ فلم تجِبِ ابتداءً بالشرعِ كصلاةِ الاستسقاءِ والكسوفِ [6309] ((المجموع)) للنووي (5/2)، ((المغني)) لابن قدامة (2/272).
ثالثًا: أنَّ صلاةَ العيدينِ لو كانتْ واجبةً لوجَبَتْ خُطبتُها، ووجَب استماعُها كالجُمُعةِ ((مجلة البحوث الإسلامية)) (62/271).
القول الثالث: صَلاةُ العِيدينِ فَرضُ كفايةٍ، وهو مذهبُ الحَنابِلَةِ [6311] ((الإقناع)) للحجاوي (1/ 199)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/272). ، وقولٌ عند الحَنَفيَّة [6312] ((البناية)) للعيني (3/95)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/275). ، وقولٌ للمالكيَّة [6313] ((حاشية الصاوي على الشرح الصغير)) (1/523)، ((حاشية الدسوقي)) (1/396). ، وقولٌ عند الشافعيَّة [6314] ((تحفة المحتاج)) للهيتمي (3/39)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/310). ، وعليه فتوى اللَّجنةِ الدَّائمة [6315] قالت اللَّجنة الدَّائمة: (صلاةُ العيدين: الفطر والأضحى، كلٌّ منهما فرضُ كفاية، وقال بعضُ أهل العلم: إنَّهما فرضُ عينٍ كالجمعة؛ فلا ينبغي للمؤمن تركها) ((فتاوى اللَّجنة الدَّائمة- المجموعة الأولى)) (8/284).
أولًا: الأدلَّة على وُجوبِها
قال اللهُ تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر: 2]
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ هذا أمرٌ مِنَ اللهِ، والأمر يَقتضي الوجوبَ [6316] ((المغني)) لابن قدامة (2/272).
ثانيًّا: لأنَّها لو لم تجِبْ لم يجبْ قتالُ تاركيها، كسائرِ السُّننِ؛ يُحقِّقه أنَّ القتالَ عقوبةٌ لا تتوجَّه إلى تاركِ مندوبٍ، كالقَتْلِ والضربِ [6317] ((المغني)) لابن قدامة (2/272).
ثالثًا: لأنَّها إظهارٌ لأبَّهةِ الإسلامِ [6318] ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/568).
أدلَّة كونِها على الكِفايةِ:
أولًا: من السُّنَّة
عن طلحةَ بن عُبَيدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((جاءَ رجلٌ إلى رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من أهلِ نجدٍ، ثائر الرأس، نَسمَع دويَّ صوته ولا نَفْقَهُ ما يقولُ، حتى دنا من رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإذا هو يسألُ عن الإسلامِ، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: خمسُ صلواتٍ في اليومِ واللَّيلةِ، فقال: هل عليَّ غيرُهنَّ؟ قال: لا؛ إلَّا أنْ تطوَّع، وصيامُ شهرِ رمضان، فقال: هل عليَّ غيرُه؟ فقال: لا، إلَّا أن تطوَّع، وذكر له رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الزكاةَ؛ فقال: هل عليَّ غيرُها؟ قال: لا، إلَّا أن تطوَّع، قال، فأدْبَر الرجلُ، وهو يقول: واللهِ لا أزيدُ على هذا ولا أنقصُ منه! فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أفْلَحَ إنْ صَدَق )) رواه البخاري (2678)، ومسلم (11).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ قوله: (إلا أن تَطَوَّع) استثناء من قوله: (لا) أي لا فرضَ عليك غيرها [6320] ((فتح الباري)) لابن حجر (1/107)
ثانيًا: أنَّها لا يُشرع لها الأذانُ، فلم تجبْ على الأعيانِ، كصلاةِ الجنازةِ [6321] ((المغني)) لابن قدامة (2/272).
ثالثًا: لأنَّها لو وجبتْ على الأعيانِ لوجبتْ خُطبتُها، ووجَب استماعُها كالجُمعةِ [6322] ((المغني)) لابن قدامة (2/272).
رابعًا: لأنَّها صلاةٌ يتوالَى فيها التكبيرُ في القيامِ، فكانتْ فرضًا على الكِفايةِ، كصلاةِ الجنازةِ [6323] ((البيان)) للعمراني (2/625).

انظر أيضا: