موسوعة اللغة العربية

تمهيدٌ: الأدَبُ في العصْرِ المملوكيُّ


يُنسَبُ هذا العَصرُ إلى المماليكِ الذين حَكَموا مصرَ وبلادَ الشَّامِ وجُزءًا كبيرًا من الجزيرةِ العَرَبيَّةِ لحِقبةٍ طويلةٍ من الزَّمَنِ [1] يُطلَقُ على مرحلةِ التَّاريخِ الإسلاميِّ الممتدَّةِ من عامِ (658) إلى (923) اسمُ العهدِ المملوكيِّ، رَغْمَ أنَّ دولةَ المماليكِ التي وُجِدَت في هذه الآونةِ لم تكُنْ لتَضُمَّ أكثَرَ أجزاءِ العالمِ الإسلاميِّ يومَذاك، وإنما كانت تشمَلُ رقعةً صغيرةَ المساحةِ نِسبيًّا؛ إذ كانت تحكُمُ مِصرَ والشَّامَ والحِجازَ فقط، ولا بُدَّ لهذه المرحلةِ من اسمٍ يُطلَقُ عليها تحمِلُه وتُعرَفُ به. يُنظر: ((التاريخ الإسلامي)) لمحمود شاكر (7/ 5). ، بدأت مع انتهاءِ الدَّولةِ الأيوبيَّةِ في مِصرَ بوفاةِ الملِكِ الصَّالحِ نَجمِ الدِّينِ أيُّوبَ سَنةَ (647هـ)، ثمَّ بمقتَلِ وَلَدِه تورانَ شاه بَعدَه ببضعةِ أشهُرٍ على أيدي هؤلاء المماليكِ، وتنتهي تلك الفَترةُ بسُقوطِ دولتِهم على يَدِ العُثمانيِّينَ.
والمماليكُ رقيقٌ يُؤسَرون في الحُروبِ ويُباعون في أسواقِ النِّخاسةِ، ويستعمِلُهم أصحابُهم في الخِدمةِ أو التِّجارةِ، ثمَّ بَعدَ ذلك في الحُروبِ وتوطيدِ المُلْكِ.
وقد بدأ إدخالُ عُنصُرِ المماليكِ في الدَّولةِ الإسلاميَّةِ كجُنودٍ مع بدايةِ الدَّولةِ العبَّاسيَّةِ؛ حيثُ أكثَرَ هارونُ الرَّشيدُ ومَن بَعدَه من أولادِه -خاصَّةً المعتَصِمَ- مِن استقدامِهم وشِرائِهم وتعليمِهم أمورَ الإدارةِ والقتالِ؛ ليعتَمِدوا عليهم في تثبيتِ سُلطانِهم، خاصَّةً بَعدَ أن ضاقوا ذَرْعًا بالفُرسِ الذين نشأت الدَّولةُ العبَّاسيَّةُ على أكتافِهم، فقَصَدوا الاعتمادَ على المماليكِ الأتراكِ الذين يأتونَ من بلادِ ما وراءَ النَّهرِ.
ولكِنْ ما لبِث المماليكُ أن تحوَّلوا من عَبيدٍ إلى سادةٍ، فبمُجَرَّدِ قَضائِهم على الفُرسِ دانت لهم الدَّولةُ العبَّاسيَّةُ، واستولَوا على أجهزةِ الدَّولةِ ومَواردِها كافَّةً، وامتَطَوا صَهوةَ التَّغلُّبِ عليها، وصرَّفوا أحكامَها طَوعَ أغراضِهم، حتَّى إنَّه شاع عِندَ المؤرِّخين تسميةُ تلك الفترةِ بعصرِ نُفوذِ الأتراكِ، وهي التي تبدأُ من سَنةِ (232هـ) إلى (334هـ).
بل إنَّ بعضَهم استقلَّ بالحُكمِ عن الدَّولةِ العبَّاسيَّةِ نَفسِها، كما فعَل أحمدُ بنُ طولونَ المملوكيُّ سنةَ (254هـ) حين تولَّى أمورَ مِصرَ نيابةً عن القائِدِ التُّركيِّ بَقْبَق، فسوَّلت له نفسُه الاستقلالَ بمصرَ، معتَمِدًا على أربعةٍ وعشرينَ ألفًا من المماليكِ الأتراكِ والدَّيالِمةِ.
فلمَّا كانت دولةُ المَلِكِ الصَّالحِ نجمِ الدِّينِ أيُّوبَ، أكثَرَ من اتخاذِ المماليكِ الأتراكِ؛ لِما لاقاه من غَدرِ الأكرادِ والخَوارزميَّةِ [2] يُنظر: ((النجوم الزاهرة)) لابن تغري بردي (6/ 324، 331). ، حتَّى كان أكثرُ جيشِه من مماليكِه الذين اشتراهم، بل إنَّ زوجتَه (شجرةَ الدُّرِّ) كانت مملوكةً له، فأعتَقَها وتزوَّجَها.
ولمَّا جاءت الحَملةُ الفَرَنسيَّةُ السَّابعةُ وسَمِع المَلِكُ الصَّالحُ -وكان بدِمَشقَ قد نزل به مَرَضٌ شديدٌ سنة 647- بنُزولِ لُويسَ التَّاسِعِ بدمياطَ، أسرع لمنازلتِه وهو مريضٌ محمولٌ على محفَّةٍ؛ لشِدَّةِ مَرَضِه، واتَّجَه توًّا للِقاءِ العَدُوِّ بالمنصورةِ شَماليَّ الدِّلتا في الطَّريقِ إلى دِمياطَ، وهناك قضى نحبَه والمعارِكُ ناشبةٌ بَيْنَ جيشِه والإفرِنجِ، وكانت شَجَرةُ الدُّرِّ عندَه، فأخفَتْ خَبَرَ موتِه، وكانت تُدَبِّرُ أمورَ الدَّولةِ كُلِّها، وتقولُ: (السُّلطانُ مَريضٌ، ما إليه وُصولٌ)، واستمَرَّ كُلُّ شيءٍ كما كان، واستدعَت ابنَه تُورانَ شاه مِن حِصنِ (كيفا)، ولَمَّا جاء حصَلَت منه أمورٌ اعتزم قادةُ الجُندِ على إثرِها على الفَتكِ به، لتَرقى -بعد مَقتَلِه- إلى العَرشِ شَجَرةُ الدُّرِّ، ثمَّ تنازلت عنه للمُعِزِّ أيبَك -بعدَ أن تزوَّجَتْه- فأسَّس دولةَ المماليكِ [3] يُنظر: ((العبر وديوان المبتدأ والخبر)) لابن خلدون (5/ 416) و (7/ 692-694)، ((المواعظ والاعتبار)) للمقريزي (3/ 411)، ((السلوك لمعرفة دول الملوك)) للمقريزي (1/ 445، 449)، ((الأعلام)) للزركلي (3/ 158)، ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (6/ 31). .
أمَّا الحَرَكةُ الأدبيَّةُ في هذا العَصرِ فإنَّ المماليكَ قد اعتَنَوا بها عنايةً شديدةً، ونبغ كثيرٌ من الأُدَباءِ والشُّعَراءِ في هذه الفترةِ، فقد أعطَوا لديوانِ الإنشاءِ مزيدَ اهتمامٍ وعنايةٍ؛ فلا يعمَلُ فيه إلَّا مَن بلغ سَنامَ البلاغةِ، وارتقى صَهوةَ البيانِ، وأُوتيَ أسرارَ الكَلِمِ، وكثيرًا ما ارتقى كاتبُ الإنشاءِ عِندَهم إلى مرتبةِ الوِزارةِ، وحَسْبُنا ما وصَلَنا من بديعِ النَّثرِ، ودُرَرِ الشِّعْرِ، والموسوعاتِ الأدبيَّةِ المنمَّقةِ؛ مِثلُ: (مسالِكِ الأبصارِ) لابنِ فضلِ اللهِ العُمَريِّ، و(صُبحِ الأعشى في صناعةِ دواوينِ الإنشاءِ) للقَلْقَشَنْديِّ، و(نهايةِ الأَرَب) للنُّوَيريِّ، و(الخُطَطِ) و(السُّلوكِ) للمَقْريزيِّ، وإن كان للكتابةِ في هذا العَصرِ سِمةٌ بارزةٌ، وهي الإفراطُ في استخدامِ أصباغِ البديعِ؛ من جناسٍ وسَجعٍ وتوريةٍ، على النَّحوِ الذي نراه في كتاباتِ القاضي الفاضِلِ، بل إنَّ هناك بعضَ الكُتُبِ التَّاريخيَّةِ قد بُنِيَت على السَّجعِ، مِثلُ كتابِ (عَجائِبِ المقدورِ في نوائِبِ تَيمور) لابنِ عَرَب شاه [4] يُنظَر: ((الفن ومذاهبه في النثر العربي)) لشوقي ضيف (ص: 378). .
وهذا العَصرُ قد افترى عليه الكُتَّابُ، وظَلَمه المُستَشرِقون وكثيرٌ من العَرَبِ ظُلمًا كبيرًا، ووصفوه بالضَّعفِ والانحِطاطِ العِلميِّ والأدَبيِّ؛ فقد سَمَّوه بــ (العَصرِ المغوليِّ)، وقالوا: إنَّ العُلَماءَ والأُدَباءَ عاشوا فيه بالقياسِ إلى أسلافِهم معيشةَ التَّابعِ للمتبوعِ، معيشةً تقليديَّةً خامدةً جامدةً، وإنَّ الشِّعْرَ فيه كان ركيكًا سَمِجًا، وإنَّه أدبُ الزِّينةِ الثَّقيلةِ والألاعيبِ اللَّفظيَّةِ، وإنَّه خلا من الإبداعِ، وإنَّ الشُّعَراءَ لم يتركوا نِتاجًا أدبيًّا يُعتَدُّ به، فضلًا عن أُفولِ شَمسِ النَّقدِ، وبلادةَ الحِسِّ الذي رمَوا به أُدَباءَ تلك الآونةِ، وهذا الغَبنُ الذي لحِقَ بالأدَبِ المملوكيِّ ناتجٌ عن عَدَمِ قِراءةِ أدَبِ تلك الآونةِ قراءةً دقيقةً، أو من غفلةِ أولئك الذين أطلقوا الحُكمَ، ومِن حِقدِهم على تلك الحِقبةِ التي ظنُّوا أنَّ الإسلامَ سيندَثِرُ وتُقَوَّضُ أركانُه فيها، لكِنَّ اللهَ خَيَّب ظنَّهم، وردَّ كيدَهم.
إنَّ ما وصفوا به الأدَبَ في تلك الحِقبةِ -وإن صَحَّ إطلاقُه مُقارنةً بالأدَبِ في العَصرِ العبَّاسيِّ أو على نِتاجِ بعضِ الأُدَباءِ- فلا يَصِحُّ تعميمُه على أدَبِ العَصرِ كُلِّه؛ فإنَّ لأدبِ كُلِّ عصرٍ أحوالًا متفاوِتةً، وأُدَباءَ يختَلِفُ نِتاجُهم الأدبيُّ من قوَّةٍ وضَعفٍ، فإن صَحَّ قولُهم في شيءٍ فإنَّه باطِلٌ في أشياءَ؛ فقد اهتَمَّ أهلُ هذا العَصرِ بالنِّتاجِ الأدَبيِّ القديمِ، فأحْيَوه، ونفَضوا عنه غُبارَ السِّنينَ، وأحدَثوا نِتاجًا جديدًا يناسِبُ عَصرَهم، ويلائِمُ أهلَ زَمانِهم؛ فهذا (شرحُ لاميَّةِ العَجَم) لخليلِ بنِ أيبَكَ الصَّفَديِّ، الذي يُعَدُّ دائرةَ معارِفَ موسوعيَّةً، يَنُمُّ عن ذَوقٍ مُصَفًّى وحِسٍّ مُرهَفٍ، ضَمَّنه كثيرًا من الأحكامِ الشِّعْريَّةِ والنَّقديَّةِ، بجانبِ القضايا النَّحْويَّةِ واللُّغَويَّةِ، والكلاميَّةِ والفَلسَفيَّةِ. وبلَغ من اهتمامِهم بالشِّعْرِ أنْ عَمَد بعضُهم إلى جمعِ مُختاراتٍ من الشِّعْرِ العَرَبيِّ القديمِ، وجعَلَها في كتابٍ مُفرَدٍ؛ كي تَسهُلَ مطالعتُه وحِفظُه، ومنهم من أفرد كُتُبًا لبعضِ الأغراضِ الشِّعْريَّةِ، فيَضَعُ كتابًا يُضَمِّنُه أفضَلَ ما استحسَنه في الغَزَلِ أو في المدحِ، أو غيرِ ذلك. ووُضِعَت في هذا العَصرِ بعضُ الموسوعاتِ الشِّعْريَّةِ، مِثلُ (خِزانةِ الأدَبِ) لابنِ حِجَّةَ الحَمَويِّ، ذَكَر فيه بعضَ القضايا النَّقْديَّةِ، والتَّعريفَ باتِّجاهاتِ الشُّعَراءِ على مدارِ الزَّمَنِ، كما ضمَّنه مُوَشَّحًا نسَبه لديكِ الجِنِّ، فأثارَ قضيَّةً بَيْنَ الأُدَباءِ، وتنازَعوا في الموشَّحاتِ: هل هي عربيَّةُ الأصلِ أو أندلسيَّةُ المَولِدِ والمنشأِ؟ ولمعت في هذا العَصرِ بعضُ الكُتُبِ التي تُعنى بتراجِمِ الشُّعَراءِ والأُدَباءِ، ومن ذلك كتابُ (المُغْرِب في حُلى المَغْرِب) لابن سعيدٍ الغَرْناطيِّ، ترجَمَ فيه لبعضِ شُعَراءِ مِصرَ والمَغرِبِ والأندَلُسِ، ووزَّعهم على أقاليمِهم ومواطِنِهم، سواءٌ أكانت حاضِرةً كبيرةً أم قريةً صغيرةً، ويستَهِلُّ ترجمةَ الشَّاعِرِ بوصفِ بلدتِه جُغرافيًّا، ورَسَّخ في كتابِه هذا شيئًا يُعَدُّ من أعمدةِ الدِّراساتِ الأدبيَّةِ، وهو أنَّ الشَّاعِرَ أسيرُ بيئتِه ومَوطِنِه، وأشعارُه ما هي إلَّا ثمَرةٌ لبيئتِه المكانيَّةِ والزَّمانيَّةِ، وما فيها من أحداثٍ سياسيَّةٍ، واجتِماعيَّةٍ وثقافيَّةٍ، واعتنى بالآدابِ الشَّعبيَّةِ؛ فذكَر الزَّجَلَ والزَّجَّالين، فهذا العَصرُ له سِمةٌ منفرِدةٌ عن العُصورِ السَّابقةِ له، وكان للشُّعَراءِ فيه اتِّجاهاتٌ عِدَّةٌ؛ فمنهم منَ حافَظ على الأسلوبِ الموروثِ عن الأسلافِ، ومنهم مَن حاول التَّجديدَ والابتكارَ، فأتَوا بفُنونٍ جديدةٍ استوحاها عصرُهم، وتطلَّبها زمانُهم؛ فأكثَروا من المولياتِ، والقُوما، والكان كان، وقد ألَّف صَفِيُّ الدِّينِ الحِلِّيُّ كتابَه (العاطِلُ الحالي والمُرَخَّصُ الغالي) ذَكَر فيه تلك الفُنونَ، وأساليبَها، وطُرُقَ نَظْمِها [5] يُنظَر: ((في التراث والشعر واللغة)) لشوقي ضيف (ص: 57 وما بعدها). .
الحالةُ العِلميَّةُ:
شَهِد العَصرُ المملوكيُّ ازدهارًا عِلميًّا كبيرًا، برز فيه الكثيرُ من العُلَماءِ المجَدِّدين؛ كالنَّوويِّ، وابنِ دقيقِ العيدِ، وابنِ منظورٍ، وابنِ تَيميَّةَ، وأبي حيَّانَ الأندَلُسيِّ، والذَّهَبيِّ، وابنِ القَيِّمِ، وابنِ هِشامٍ الأنصاريِّ، وابنِ حَجَرٍ العَسْقَلانيِّ.
وقد اهتمَّ أُمراءُ المماليكِ بنَشرِ العِلمِ، وبَنَوا لذلك المدارِسَ، ووَقَفوا عليها الأوقافَ التي تُنفِقُ عليها، بل كان لهم نصيبٌ كذلك من العِلمِ؛ فالمَلِكُ المُؤَيَّدُ كانت معه إجازةٌ بصحيحِ البُخاريِّ، أخذها من سراجِ الدِّينِ البُلْقينيِّ، وكانت لا تفارِقُه حَضَرًا ولا سَفَرًا [6] يُنظَر: ((حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة)) للسيوطي (2/ 121). .
وقد نال العُلَماءُ في ذلك الزَّمانِ التَّقديرَ والاحترامَ والمهابةَ اللَّائِقةَ بهم؛ فقد كان العِزُّ بنُ عبدِ السَّلامِ مُهابًا من المُلوكِ والأُمَراءِ، وقِصَّتُه في بَيعِ أمراءِ المماليكِ مشهورةٌ، وقد كان السُّلطانُ لاجينُ يُقَبِّل يدَ ابنِ دقيقِ العيدِ [7] يُنظَر: ((البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع)) للشوكاني (2/ 230). .

انظر أيضا: