موسوعة اللغة العربية

المَبْحَثُ الرَّابعُ: طَرَفَا التَّشْبيهِ


وهُما المُشَبَّهُ والمشبَّهُ به، وهُما رُكْنا التَّشْبيهِ اللَّذانِ لا يَجوزُ التَّخلِّي عنهما، فلا بُدَّ مِن وُجودِهما معًا لفْظًا، مِثلُ: هنْدٌ كالقمَرِ، أو تَقْديرًا، مِثلُ قولِ صالِحٍ الشَّرْنوبيِّ: الخفيف
هائِمُ الرُّوحِ بالهَوى والأمَاني
خالِدُ الذَّاتِ وهُو كالنَّاسِ فانِ
مَلِكٌ حينَما يَشاءُ له الفنُّ
عَزيزُ المَقامِ والصَّوْلجانِ
أو حَقيرٌ عُريانُ مزَّقه الجو
عُ وأضْنَتْه لوعةُ الحِرْمانِ
ففي تلك الأبْياتِ تَشْبيهاتٌ بَليغةٌ حُذِف فيها المُشبَّهُ، وتَقْديرُها: هو ملِكٌ، هو حَقيرٌ.
ويَرى البَلاغيُّونَ أنَّ تَشْبيهَ الشَّيءِ لا يَقومُ إلَّا على أساسَينِ:
الاتِّفاقِ: وهُو أنْ يكونَ بينَهما اشْتِراكٌ في بعضِ المَعاني أوِ الصِّفاتِ الَّتي يُوصَفانِ بها، حتَّى يكونَ بينَهما وجْهُ شبَهٍ.
المُغايَرةِ: أيْ: أنْ يَتفرَّدَ كلٌّ منْهما بصِفاتٍ تَخصُّه، وتَجْعلُ له وُجودَه المُسْتقِلَّ عنِ الآخَرِ.
يقولُ أبو هِلالٍ العَسكرِيُّ: (ويَصِحُّ تَشْبيهُ الشَّيءِ بالشَّيءِ جُملةً، وإنْ شابَهه مِن وجْهٍ واحِدٍ؛ مِثلُ قولِك: وجْهُك مِثلُ الشَّمسِ، ومِثلُ البَدْرِ؛ وإنْ لم يكنْ مِثلَهما في ضِيائِهما وعُلُوِّهما ولا عِظَمِهما، وإنَّما شبَّهه بِهما لمَعْنًى يَجمَعُهما وإيَّاه وهُو الحُسْنُ. وعلى هذا قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ [الرحمن: 24]؛ إنَّما شبَّه المَراكِبَ بالجِبالِ مِن جِهةِ عِظَمِها لا مِن جِهةِ صَلابتِها ورُسوخِها ورَزانتِها، ولو أشْبَهَ الشَّيءُ الشَّيءَ مِن جَميعِ جِهاتِه لكانَ هو هو) [293] ((الصناعتين: الكتابة والشعر)) لأبي هلال العسكري (ص: 239). .
وقد قسَّم البَلاغيُّونَ التَّشْبيهَ مِن حيثُ وَسيلةُ إدْراكِ الطَّرفَينِ فيه إلى أقْسامٍ ثَلاثةٍ:
1- ما يكونُ طرفاه حِسِّيَّينِ، أيْ: يُدرَكُ بالحَواسِّ الخَمْسِ الظَّاهِرةِ، كقَولِه تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ [الأعراف: 171] ؛ حيثُ شبَّه الجبَلَ المَرئيَّ بالعَينِ بالظُّلَّةِ الَّتي تُرى بالعَينِ كذلك. ومنه قولُ امْرئِ القَيْسِ: الطويل
كأنَّ قُلوبَ الطَّيرِ رَطْبًا ويابِسًا
لدى وَكْرِها العُنَّابُ والحَشَفُ البالي
فصوَّر القُلوبَ الرَّطبةَ بالعُنَّابِ، وهُما مَرْئيَّانِ بالعَينِ، والقُلوبَ اليابِسةَ بالتَّمرِ اليابِسِ، وهُما مَرْئيَّانِ كذلك.
وقد يُدرَكُ طَرَفَا التَّشْبيهِ بحاسَّةِ السَّمْعِ، كقولِ أحْمد شَوْقي: الوافر
جَمَعْتَهُمُ على نَبَراتِ صوْتٍ
كنفْخِ الصُّورِ حرَّكتَ الرِّجاما
حيثُ شبَّه نَبْرةَ صوْتِ مَصْطفى كامِل بنفْخِ إسْرافيلَ في الصُّورِ قُبيلَ القِيامةِ، وكلٌّ مِنَ المُشبَّهِ والمُشبَّهِ به مَسْموعانِ، والرِّجامُ: الحِجارَةُ الضَّخْمةُ.
ويُلحَقُ به التَّشبيهُ الخياليُّ: وهو الَّذي يكونُ مُركبًا مِن صُورةٍ خَياليَّةٍ ليس لها وُجودٌ في العالَمِ الخارجيِّ، لكنَّ جُزئياتِها مَوجودةٌ في عالَمِ الحِسِّ، ولهذا ألْحَقَه البلاغيُّونَ بالتَّشبيهِ المحسوسِ؛ لأنَّ صُورتَه المركَّبةَ وإنْ كانت غيْرَ مَوجودةٍ، فإنَّ عَناصرَها الجُزئيَّةَ مَوجودةٌ مَحسوسةٌ، وذلك كقولِ الصَّنَوبريِّ: الكامل
وكأنَّ مُحْمَرَّ الشَّقِيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــقِ إذا تَصَوَّبَ أَوْ تَصَعَّدْ
أَعْلَامُ ياقوتٍ نُشِرْنَ
على رِمَاحٍ مِن زَبَرْجَدْ
وإطلاقُ الخياليِّ على نَوعٍ مِن التَّشبيهِ مُجرَّدُ اصطلاحٍ لا يَتعارَضُ مع ما استَقرَّ عندَ القُدماءِ مِن إطلاقِ الخيالِ على مَلَكةِ اختزانِ الصُّوَرِ المرئيَّةِ والمسموعةِ، ثمَّ استِدعائِها عندَ وُجودِ المُثيراتِ فيما يُسمَّى بالتَّخييلِ الَّذي لا يَكتفي بالاستحضارِ، ولكنَّه يُعيدُ تَركيبَ العناصرِ المُسْتدعاةِ، وهذا يُعرَفُ عندَ المحدَثِين بالخيالِ الثَّاني أو الابتكاريِّ.
2- ما يكونُ طَرفاه عَقْليَّينِ: وهُو ألَّا يُدرَكَ الطَّرفانِ بالحَواسِّ، كقولِ الشَّريفِ الرَّضِيِّ: الكامل:
أرواحُنا دَينٌ وما أنْفاسُنا
إلَّا قَضاءٌ والزَّمانُ غَريمُها
فالأرْواحُ -وهِي المُشبَّهُ- والدَّينُ -وهُو المُشبَّهُ به- لا يُدرَكانِ حِسًّا، وإنَّما يُدرَكانِ بالعقْلِ.
ومنه قولُ شَوْقي في مدْحِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: البسيط
والجهْلُ موْتٌ فإنْ أوْتِيتَ مُعْجزةً
فابْعَثْ مِنَ الجهْلِ أو فابْعَثْ مِنَ الرَّجَمِ
فشبَّهَ الجهْلَ بالموْتِ، وهُما يُدرَكانِ بالعقْلِ لا بالحِسِّ.
ومنه التَّشْبيهُ الوَهْميُّ، وهُو ما لا يكونُ المُشبَّهُ به مُدرَكًا أصْلًا، ولكنَّه لو أمكَنَ إدْراكُه لَما أُدْرِك إلَّا بالحَواسِّ، كقَولِه تعالى: إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ [الصافات: 64-65] ؛ حيثُ شبَّه طلْعَ الشَّجرَةِ برُؤوسِ الشَّياطينِ، وهِي غيرُ مُدرَكةٍ، لكنْ إنْ أمكَنَ ذلك فستُدرَكُ بحاسَّةِ البصَرِ.
  وقدْ ألحَقَ عُلماءُ البلاغةِ التَّشبيهَ الوَهْميَّ بالعقليِّ؛ لأنَّهما سَواءٌ في عدَمِ الإدراكِ بالحواسِّ.
ومنه كذلك: التَّشبيهُ الوُجدانيُّ: وهو أيضًا ممَّا يُلحَقُ بالتَّشبيهِ العقليِّ؛ لأنَّ الأمورَ الوُجدانيَّةَ -كاللَّذَّةِ والألَمِ والفرَحِ والحزنِ- كالأمورِ العقليَّةِ في أنَّهما معًا لا يُدرَكانِ بالحواسِّ، ومع أنَّ المشاعِرَ ليْست عَقليةً مَحْضةً، فإنَّ العقلَ هو النَّافذةُ التي تَستقبِلُ مُثيراتِ وبواعثَ تلك المشاعِرِ. ومِن التَّشبيهاتِ الوُجدانيَّةِ قولُ زَكِي مُبارَك: الكامل
حُزنٌ يُقَطِّعُ في الحَشا
فكأنَّه غَدرُ صديقْ
3- ما يكونُ الطَّرفانِ مُخْتلفَينِ: أحدُهما حِسِّيٌّ والآخَرُ عقْليٌّ؛ فمِن تَشْبيهِ العقْليِّ بالحسِّيِّ قولُه تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ [إبراهيم: 18] ، فصَوَّر عاقِبةَ الأعْمالِ -وهِي عقْليَّةٌ لا تُدرَكُ بالحِسِّ- بالرَّمادِ الَّذي تَذْروه الرِّياحُ في يومٍ عاصِفٍ.
أمَّا تَشْبيهُ الحِسِّيِّ بالمَعْنويِّ (العقْليِّ)، فقد نفَر منه البَلاغيُّونَ وعدُّوه مِنَ التَّشْبيهاتِ الرَّديْئةِ، كقَولِ التَّنوخيِّ: الرجز
وليلةٍ كأنَّها طُولُ الأمَلْ
ظَلامُها كالدَّهرِ ما فيه خلَلْ
كأنَّما الإصْباحُ فيها باطِلٌ
أزْهقَهُ اللهُ لحَقٍّ فبَطَلْ
فشبَّه اللَّيلةَ -وهِي حِسِّيَّةٌ يُدرَكُ أثَرُها بالعَينِ- بطُولِ الأمَلِ، وهُو أمرٌ مَعْقولٌ مَعْنويٌّ لا يُرى؛ ولِهذا عابوا على الشَّاعرِ تَشْبيهَه هذا [294] ينظر: ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) لبهاء الدين السبكي (2/ 34)، ((الصورة البيانية في الموروث البلاغي)) لحسن طبل (ص: 41). .

انظر أيضا: