موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- مِنَ السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ


دعت السُّنَّةُ المُشَرَّفةُ في كثيرٍ من نصوصِها المُسلِمَ إلى الأخذِ بالحَذَرِ والحَيطةِ والتَّيقُّظِ في شؤونِه كلِّها، وحذَّرَتْه من الطَّيشِ والغَفلةِ وقِصَرِ النَّظَرِ؛ فالمُسلِمُ العاقِلُ حكيمٌ يَعرِفُ الخَطَرَ قَبلَ وقوعِه بيَقَظتِه، فيأخُذُ الحَيطةَ والحَذَرَ قَبلَ وُقوعِ المكروهِ، وأمَّا الجاهِلُ فلا يُحِسُّ به ولا يُدرِكُ خطورتَه إلَّا بعدَ وُقوعِه.
1- عن الحَسَنِ بنِ عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنهما أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك؛ فإنَّ الصِّدقَ طُمَأنينةٌ، والكَذِبَ رِيبةٌ)) [2933] أخرجه الترمذي (2518) واللفظ له، والنسائي (5711) مختصرًا، وأحمد (1723) مطوَّلًا. صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (722)، وابن الملقن في ((شرح البخاري)) (14/42)، والشوكاني في ((الفتح الرباني)) (5/2318)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2518)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (320). .
والحديثُ (معناه: إذا وجَدْتَ نَفسَك ترتابُ في الشَّيءِ فاترُكْه وانتَقِلْ إلى ما لا ترتابُ فيه، فإنَّ نفسَ المُؤمِنِ تطمَئِنُّ إلى الصِّدقِ وترتابُ من الكَذِبِ، فارتيابُك في الشَّيءِ مُنبئٌ عن كونِه باطِلًا أو مَظِنَّةً للباطِلِ؛ فاحذَرْه، واطمِئنانُك إلى الشَّيءِ مُشعِرٌ بأنَّه حَقٌّ؛ فاستمسِكْ به، فهذا ضابِطٌ لمعرفةِ كونِ الفِعلِ حَسَنًا وقبيحًا، وكونُ الشَّيءِ حلالًا وحرامًا، ولكِنْ إنَّما يتحقَّقُ ذلك في النُّفوسِ الزَّكيَّةِ الطَّاهِرةِ المحلَّاةِ بالتَّقوى والعدالةِ) [2934] ((لمعات التنقيح)) (5/503). .
2- وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((لا يُلدَغُ المُؤمِنُ من جُحرٍ واحِدٍ مَرَّتينِ)) [2935] أخرجه البخاري (6133)، ومسلم (2998) .
قال القَسْطَلَّانيُّ: (أي: ليَكُنِ المُؤمِنُ حازِمًا حَذِرًا لا يؤتى من ناحيةِ الغَفلةِ، فيُخدَعَ مَرَّةً بعدَ أُخرى، وقد يكونُ ذلك في أمرِ الدِّينِ كما يكونُ في أمرِ الدُّنيا، وهو أَولاهما بالحَذَرِ) [2936] ((إرشاد الساري)) (9/80). .
فـ (مِن شأنِ المُؤمِنِ ألَّا يُلدَغَ من جُحرٍ واحِدٍ مرَّتينِ، فكأنَّه يكونُ معتَبِرًا من الحوادِثِ، لا كالفُسَّاقِ، لا يبالي بشيءٍ وإن أُفرِغَت عليه المصائِبُ، وأقيمت عليه الحدودُ، ويُبتلى بالفِتَنِ، فالمُؤمِنُ يكونُ فَطِنًا متيقِّظًا، يتَّقي مواضِعَ التُّهَمِ، وإذا ابتُلِيَ مرَّةً بشَرٍّ لا يأتيه ثانيًا، حتَّى لا يكونَ مَطعَنًا للنَّاسِ) [2937] ((فيض الباري)) (6/159). .
3- وعن كَعبِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: ((لم يكُنْ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يريدُ غزوةً إلَّا وَرَّى بغيرِها)) [2938] أخرجه البخاري (2947) واللفظ له، ومسلم (2769). .
 قال المُناويُّ: (التَّوريةُ أن يَذكُرَ لَفظًا يحتَمِلُ معنَيَينِ أحَدُهما أقرَبُ من الآخَرِ، فيسألَ عنه وعن طريقِه، فيَفهَمَ السَّامِعُ بسَبَبِ ذلك أنَّه يقصِدُ المحَلَّ القريبَ، والمتكَلِّمُ صادِقٌ، لكِنْ لخَلَلٍ وقَع مِن فَهمِ السَّامِعِ خاصَّةً، وأصلُه من: وَرَّيتُ الخَبَرَ توريةً: سَترتُه وأظهَرْتُ غيرَه، وأصلُه من الوَرْيِ، وهو ما يُجعَلُ وراءَ الإنسانِ؛ لأنَّ مَن وَرَّى بشيءٍ كأنَّه جعَلَه وراءَه؛ وذلك لئلَّا يتفَطَّنَ العَدُوُّ فيَستَعِدَّ للدَّفعِ والحَربِ) [2939] يُنظَر: ((فيض القدير)) (5/96). .
4- وعن أبي هُرَيرةَ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((بادِروا بالأعمالِ فِتَنًا كقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ، يُصبِحُ الرَّجُلُ مُؤمِنًا ويُمسي كافِرًا، أو يُمسي مؤمِنًا ويُصبِحُ كافِرًا، يَبيعُ دينَه بعَرَضٍ من الدُّنيا)) [2940] أخرجه مسلم (118). .
في هذا الحديثِ (يُلهِبُ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عزائِمَ المُؤمِنين إلى العَمَلِ الصَّالحِ، ويحَذِّرُهم من التَّراخي مع التَّمكُّنِ، ويخَوِّفُهم من تأخيرِ طاعاتِ اليومِ إلى الغَدِ، فلا يدري المُسلِمُ ما يأتي به غَدُه، فما أكثَرَ الأمراضَ بَعدَ الصِّحَّةِ، وما أكثَرَ الفَقرَ بَعدَ الغِنى، وما أسرَعَ الشَّيبَ بَعدَ الشَّبابِ، وما أكثَرَ مشاغِلَ الدُّنيا بَعدَ الفراغِ! ويخوِّفُ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما هو أدهى من كُلِّ ذلك، بمستقبَلٍ للمُسلِمين مُظلِمٍ ظلامَ اللَّيلِ، لا يُمَيِّزون فيه الخطَأَ من الصَّوابِ، ولا يحَقِّقون فيه الأمورَ، بل ينجَرِفون وراءَ تيَّاراتِ الفِتَنِ، وينزَلِقون وراءَ الهوى، وينقادون لأهواءِ الحياةِ وزينتِها، فيَبيعون دينَهم بعَرَضٍ حقيرٍ، ويَخسَرون آخِرَتَهم بُدنياهم. يخَوِّفُ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من هذا المُستقبَلِ الغامِضِ، الذي تتطايَرُ فيه الفِتَنُ تطايُرَ النَّارِ والشَّرَرِ، فتُحرِقُ مَن تُحرِقُ، وتُزعِجُ مَن تُزعِجُ، هنالك يُصبِحُ الرَّجُلُ مُؤمِنًا ويُمسي كافِرًا، أو يُمسي مُؤمِنًا فتُحرِقُه الفِتنةُ فيُصبِحُ كافرًا! فلْيَحذَرِ المُؤمِنُ وليُبادِرِ الكَيسَ بالعَمَلِ الصَّالحِ، ولْيُسابِقِ الزَّمَنَ بفِعلِ الحسَناتِ قَبلَ أن يفوتَ الأوانُ) [2941] ((فتح المنعم)) (1/387). .
5- وعن النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما، قال: سمِعتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّ الحلالَ بَيِّنٌ، وإنَّ الحرامَ بَيِّنٌ، وبَيْنَهما مُشتَبِهاتٌ لا يعلَمُهنَّ كثيرٌ من النَّاسِ، فمَن اتَّقى الشُّبُهاتِ استبرَأَ لدينِه وعِرْضِه، ومن وَقَع في الشُّبُهاتِ وقَعَ في الحرامِ، كالرَّاعي يرعى حولَ الحِمى، يُوشِكُ أن يرتَعَ فيه، ألا وإنَّ لكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا وإنَّ حِمى اللَّهِ محارِمُه، ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضغةً إذا صلَحَت صَلَح الجَسَدُ كُلُّه، وإذا فسَدَت فَسَد الجَسَدُ كُلُّه، ألَا وهي القَلبُ)) [2942] أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) واللفظ له. .
قال القُرطبيُّ في قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كالرَّاعي يرعى حَولَ الحِمى يُوشِكُ أن يرتَعَ فيه)): (هذا مَثَلٌ ضَرَبه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمحارِمِ اللَّهِ تعالى. وأصلُه: أنَّ مُلوكَ العَرَبِ كانت تحمي مراعيَ لمواشيها الخاصَّةِ بها، وتحرِّجُ بالتَّوعُّدِ بالعُقوبةِ على مَن قَرِبَها. فالخائِفُ مِن عقوبةِ السُّلطانِ يَبعُدُ بماشيتِه من ذلك الحِمى؛ لأنَّه إن قَرِبَ منه فالغالِبُ الوقوعُ، وإن كَثُر الحَذَرُ؛ إذ قد تنفَرِدُ الفاذَّةُ [2943] الفاذَّةُ: أي: المنفَرِدةُ. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث)) لابن الأثير (3/ 422). ، وتشِذُّ الشَّاذَّةُ ولا تنضَبِطُ، فالحَذَرُ أن يجعَلَ بَينَه وبَينَ ذلك الحِمى مسافةً بحيثُ يأمَنُ فيها من وُقوعِ الشَّاذَّةِ والفاذَّةِ. وهكذا محارِمُ اللَّهِ تعالى، لا ينبغي أن يحومَ حَولَها مخافةَ الوُقوعِ فيها) [2944] ((المفهم)) (4/ 493). .

انظر أيضا: