موسوعة الأخلاق والسلوك

د- نماذِجُ مِن كَرَمِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وجُودِه


لقد مَثَّل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المَثَلَ الأعلى والقُدوةَ الحَسَنةَ في الجُودِ والكَرَمِ (وقد بلَغ -صلَواتُ اللهِ عليه- مرتبةَ الكمالِ الإنسانيِّ في حُبِّه للعطاءِ؛ إذ كان يُعطي عطاءَ مَن لا يحسُبُ حِسابًا للفَقرِ ولا يَخشاه؛ ثقةً بعظيمِ فَضلِ اللهِ، وإيمانًا بأنَّه هو الرَّزَّاقُ ذو الفَضلِ العظيمِ) [2818] يُنظَر: ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبد الرحمن الميداني (2/377). .
وهو القائِلُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لو كان لي مِثلُ أُحُدٍ ذَهَبًا ما يَسُرُّني أن لا يمُرَّ عَلَيَّ ثلاثٌ، وعندي منه شيءٌ إلَّا شيءٌ أرصُدُه لدَينٍ [2819] أرصُدُه: أي أُعِدُّه وأترقَّبُ به أداءَ دَيْني. يُنظَر: ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) للقاضي عياض (3/ 506). ) [2820] أخرجه البخاري (2389). .
(إنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُقَدِّمُ بهذا النَّموذَجِ المثاليِّ للقُدوةِ الحَسَنةِ، لا سيَّما حينما نلاحِظُ أنَّه كان في عطاءاتِه الفِعليَّةِ مُطَبِّقًا لهذه الصُّورةِ القوليَّةِ التي قالها؛ فقد كانت سعادتُه ومَسَرَّتُه عظيمتَينِ حينما كان يبذُلُ كُلَّ ما عندَه من مالٍ.
ثمَّ إنَّه يُرَبِّي المسلِمين بقولِه وعَمَلِه على خُلُقِ حُبِّ العطاءِ؛ إذ يُريهم من نَفسِه أجمَلَ صورةٍ للعَطاءِ وأكمَلَها) [2821] يُنظَر: ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبد الرحمن الميداني (2/378). .
وعن جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ أنَّه بينا هو مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومعه النَّاسُ، مُقبِلًا من حُنَينٍ، عَلِقَت رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الأعرابُ يسألونه حتى اضطرُّوه إلى سَمُرةٍ [2822] شجرةٌ من شَجَرِ الباديةِ ذاتُ شَوكٍ. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (6/ 35). ، فخطَفَت رداءَه! فوقف رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: ((أعطوني ردائي، فلو كان عدَدُ هذه العِضاهِ [2823] شَجَرٌ ذو شَوكٍ. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (6/ 35). نَعَمًا، لقَسَمْتُه بينكم، ثمَّ لا تَجدوني بَخيلًا ولا كَذوبًا ولا جَبانًا)) [2824] أخرجه البخاري (3148). .
 وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُؤثِـُر على نفسِه، فيُعطي العطاءَ ويَمضي عليه الشَّهرُ والشَّهرانِ لا يُوقَدُ في بيتِه نارٌ [2825] أخرجه مسلم (2312) عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رجُلًا سأل النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غنَمًا بين جبلَينِ، فأعطاه إيَّاه، فأتى قومَه فقال: أيْ قومِ أسلِموا، فواللهِ إنَّ محمَّدًا ليُعطي عطاءً ما يخافُ الفَقْرَ! فقال أنَسٌ: إنْ كان الرَّجُلُ ليُسلِمُ ما يريدُ إلَّا الدُّنيا، فما يُسلِمُ حتَّى يكونَ الإسلامُ أحَبَّ إليه من الدُّنيا وما عليها)). وأخرجه البخاري (2567)، ومسلم (2972) من حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. ولفظُ البخاريِّ: عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّها قالت لعُروةَ: ((ابنَ أختي، إن كنَّا لننظُرُ إلى الهلالِ ثمَّ الهلالِ، ثلاثةَ أهِلَّةٍ في شهرَينِ، وما أُوقِدَت في أبياتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نارٌ! فقُلتُ: يا خالةُ، ما كان يُعيشُكم؟ قالت: الأسودانِ؛ التَّمرُ والماءُ، إلَّا أنَّه قد كان لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جيرانٌ من الأنصارِ كانت لهم منائِحُ، وكانوا يمنحون رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من ألبانِهم، فيَسْقينا)). ! وكان كرَمُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كرَمًا في محَلِّه، يُنفِقُ المالَ للهِ وباللهِ، إمَّا لفقيرٍ، أو محتاجٍ، أو في سبيلِ اللهِ، أو تأليفًا على الإسلامِ، أو تشريعًا للأمَّةِ، وغيرِ ذلك [2826] يُنظَر: ((مكارم الأخلاق)) لابن عثيمين (ص: 55). .
وهذه بعضُ النَّماذِجِ مِن كَرَمِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
1- عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أجودَ النَّاسِ، وكان أجوَدَ ما يكونُ في رمَضانَ حينَ يلقاه جِبريلُ، وكان يلقاه في كُلِّ ليلةٍ من رمَضانَ فيُدارِسُه القُرآنَ، فلَرَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أجوَدُ بالخيرِ من الرِّيحِ المُرسَلةِ [2827] المُرْسَلةُ، أي: المُطْلَقةُ، يعني: أنَّه في الإسراعِ بالجودِ أسرَعُ من الرِّيحِ، وعبَّر بالمُرسَلةِ إشارةً إلى دوامِ هُبوبِها بالرَّحمةِ وإلى عُمومِ النَّفعِ بجودِه، كما تعُمُّ الرِّيحُ المُرسَلةُ جميعَ ما تهبُّ عليه. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 31). ) [2828] أخرجه البخاري (6) واللفظ له، ومسلم (2308). .
فهذا الحديثُ يُوَضِّحُ خُلُقًا من أخلاقِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فـ (لمَّا كانت نفسُه أشرَفَ النُّفوسِ ومزاجُه أعدَلَ الأمزجةِ، لا بدَّ أن يكونَ فِعلُه أحسَنَ الأفعالِ، وخُلُقُه أحسَنَ الأخلاقِ، فلا شَكَّ يكونُ أجوَدَ، فكيف لا وهو مُستغنٍ عن الفانياتِ بالباقياتِ الصَّالحاتِ، وكان في رمضانَ أكثَرِ موسِمِ الخيراتِ، ولأنَّ اللهَ يتفَضَّلُ على عبادِه في رمضانَ ما لا يتفضَّلُ في غيرِه، فكان يؤثِرُ متابعةَ سُنَّةِ اللهِ في عبادِه، ولأنَّه كان يصادِفُ البُشرى من اللهِ بمُلاقاةِ أمينِ الوَحيِ، ويتابِعُ إمدادَ الكَرامةِ عليه، فيُنعِمُ على عبادِ اللهِ بما أنعم اللهُ عليه، ويحسِنُ إليهم كما أحسَنَ اللهُ إليه) [2829] يُنظَر: ((الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري)) لشمس الدين الكرماني (1/ 51). .
2- عن موسى بنِ أنَسٍ عن أبيه، قال: ((ما سُئِل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الإسلامِ شيئًا إلَّا أعطاه، قال: فجاءه رجلٌ فأعطاه غَنَمًا بَينَ جبلَينِ، فرجع إلى قومِه، فقال: يا قومِ أسلِموا؛ فإنَّ محمَّدًا يعطي عطاءً لا يخشى الفاقةَ [2830] الفاقةُ: الحاجةُ والفَقرُ. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) (3/ 480). ) [2831] أخرجه مسلم (2312). .
3-  وغزا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غزوةَ الفتحِ، فَتحِ مكَّةَ، ثمَّ خرج رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمن معه من المُسلِمين، فاقتَتَلوا بحُنَينٍ، فنصر اللهُ دينَه والمسلمين، وأعطى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَئذٍ صَفوانَ بنَ أُمَيَّةَ مائةً من النَّعَمِ [2832] أي: الإبِلِ. وتُطلَقُ النَّعَمُ أيضًا على الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ. يُنظَر: ((مشارق الأنوار على صحاح الآثار)) للقاضي عياض (2/ 19)، ((تاج العروس)) للزبيدي (33/ 510). ، ثمَّ مائةً، ثمَّ مائةً، قال ابنُ شِهابٍ: حدَّثَني سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ أنَّ صفوانَ قال: (واللهِ لقد أعطاني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما أعطاني، وإنَّه لأبغَضُ النَّاسِ إليَّ، فما بَرِح يعطيني حتَّى إنَّه لأحَبُّ النَّاسِ إليَّ!) [2833] أخرجه مسلم (2313). .
4- وأهدَت امرأةٌ إلى النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ شَملةً [2834] الشَّملةُ: كِساءٌ دونَ القطيفةِ، يُشتَمَلُ به. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (29/ 288). منسوجةً، فقالت: ((يا رسولَ اللهِ، أكسوك هذه، فأخذها النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ محتاجًا إليها، فلَبِسَها، فرآها عليه رجلٌ من الصَّحابةِ، فقال: يا رسولَ اللهِ، ما أحسَنَ هذه! فاكسُنيها، فقال: نعَمْ، فلمَّا قام النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لامه أصحابُه، فقالوا: ما أحسَنْتَ حينَ رأيتَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخذها محتاجًا إليها، ثمَّ سألْتَه إيَّاها، وقد عرَفْتَ أنَّه لا يُسأَلُ شيئًا فيمنَعُه، فقال: رجوتُ بركتَها حينَ لَبِسَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعَلِّي أكَفَّنُ فيها)) [2835] أخرجه البخاري (6036). .
5- وعن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((ما سُئِل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شيئًا قَطُّ فقال: لا)) [2836] أخرجه البخاري (6034) ومسلم (2311) واللفظ له. .
ومعناه: ما سُئِل شيئًا من متاعِ الدُّنيا [2837] ((شرح النووي على مسلم)) (15/ 71). ، وما طُلِب منه شيءٌ من أمرِ الدُّنيا، فمنعه، وليس المرادُ أنَّه يعطي ما يُطلَبُ منه جَزمًا، بل المرادُ أنَّه لا يَنطِقُ بالرَّدِّ، بل إن كان عنده أعطاه إن كان الإعطاءُ سائغًا، وإلَّا سكَتَ [2838] يُنظَر: ((فتح المنعم شرح صحيح مسلم)) لموسى شاهين لاشين (9/ 151). .

انظر أيضا: