موسوعة الأخلاق والسلوك

خامسًا: مظاهِرُ وصُوَرُ الجِدِّيَّةِ والحَزمِ


1- الجِدِّيَّةُ والحَزمُ في العباداتِ؛ فالجادُّ في عبادتِه لرَبِّه لا يُلهيه شيءٌ عن عبادةِ رَبِّه سُبحانَه؛ قال تعالى: رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور: 37] .
قال ابنُ كثيرٍ: (قولُه: رِجَالٌ فيه إشعارٌ بهِمَمِهم السَّاميةِ، ونيَّاتِهم وعزائِمِهم العاليةِ التي بها صاروا عُمَّارًا للمَساجِدِ التي هي بيوتُ اللهِ في أرضِه، ومواطنُ عبادتِه وشُكرِه، وتوحيدِه وتنزيهِه) [2607] ((تفسير القرآن العظيم)) (1/67). .
2- الجِدِّيَّةُ عِندَ رُؤيةِ المُنكَراتِ بالمُسارَعةِ إلى تغييرِها، والمُشاركةِ في إزالتِها؛ عن النُّعمانِ بنِ بشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَثَلُ القائِمِ على حُدودِ اللهِ والواقِعِ فيها كمَثلِ قَومٍ استَهَموا على سفينةٍ، فأصاب بعضُهم أعلاها، وبعضُهم أسفَلَها، فكان الذين في أسفَلِها إذا استقَوا مِن الماءِ مرُّوا على مَن فَوقَهم، فقالوا: لو أنَّا خرَقْنا في نَصيبِنا خَرقًا ولم نُؤذِ مَن فَوقَنا، فإن يترُكوهم وما أرادوا هلَكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجَوا، ونجَوا جميعًا)) [2608] أخرجه البخاري (2493). .
وهكذا إذا أقيمَت الحدودُ وأُمِرَ بالمعروفِ ونُهِيَ عن المُنكَرِ، تحصُلُ النَّجاةُ للكُلِّ، وإلَّا هلك العاصي بالمعصيةِ وغَيرُهم بتَركِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكَرِ [2609] ((عمدة القاري)) للعيني (13/57). .
3- الجِدِّيَّةُ والحَزمُ في شأنِ كِتابةِ الوَصِيَّةِ إذا كان عِندَه ما يريدُ أن يوصِيَ به؛ فإنَّ الإنسانَ لا يدري متى تأتيه منِيَّتُه؛ عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما حَقُّ امرئٍ مُسلِمٍ له شيءٌ يُوصي فيه، يَبيتُ ليلتَينِ إلَّا ووصِيَّتُه مكتوبةٌ عِندَه)) [2610] أخرجه البخاري (2738) واللَّفظُ له، ومسلم (1627). .
فالدِّينُ الإسلاميُّ يأمرُ بالحَزمِ وألَّا يؤخِّرَ الإنسانُ أمورَه؛ لأنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جعَل لمن أراد أن يوصِيَ ليلتينِ؛ فالجِدُّ كُلُّ الجِدِّ والحَزمُ لِمن أراد أن يوصِيَ ألَّا يبيتَ ليلتينِ إلَّا ووصِيَّتُه مكتوبةٌ؛ لأنَّ الإنسانَ قد يفاجِئُه الموتُ، وكم من إنسانٍ قد مدَّ خُيوطَ الأمَلِ فانبتَرَت ولم تتجاوَزْ قَدَمَه؛ فلْيُبادِرِ الإنسانُ ما دام يريدُ أن يُوصِيَ [2611] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عثيمين (4/392). .
4- الجِدِّيَّةُ والحَزمُ في التَّعامُلِ مع الأعداءِ، وفي مواجَهتِهم عند التِحامِ الصُّفوفِ واشتِدادِ المعاركِ؛ فهذا الموضِعُ مَوضِعُ الجِدِّ والحَزمِ والثَّباتِ؛ قال تعالى: وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء: 104] .
قال السَّمَرْقَنديُّ: (يقولُ: لا تَضْعُفوا في ابتغاءِ القَومِ، أي: في طَلَبِ المُشرِكين؛ أبي سفيانَ وأصحابِه، بَعدَ يومِ أحُدٍ؛ وذلك أنَّ المُسلِمين لَمَّا أصابَتْهم الجِراحاتُ يومَ أحُدٍ، وكانوا يَضعُفون عن الخُروجِ إلى الجهادِ، فأمَرَهم اللهُ تعالى بأن يُظهِروا من أنفُسِهم الجِدَّ والقُوَّةَ، وهذا الخِطابُ لهم ولجميعِ المُسلِمين الغُزاةِ إلى يومِ القيامةِ) [2612] ((بحر العلوم)) للسمرقندي (1/335). .
وقال ابنُ المُقَفَّعِ: (الحازِمُ لا يأمَنُ عَدُوَّه على كُلِّ حالٍ؛ إن كان بعيدًا لم يأمَنْ مُعاوَدتَه، وإن كان قريبًا لم يأمَنْ مُواثَبتَه، وإن كان مُنكَشِفًا لم يأمَنِ استِطرادَه وكَمينَه، وإن رآه وحيدًا لم يأمَنْ مَكرَه) [2613] ((الأدب الصغير)) (ص: 66). .
وقال المُهَلَّبُ بنُ أبي صُفرةَ لوَلَدِه وأهلِه لَمَّا حضرَتْه الوفاةُ: (... يا بَنِيَّ، سَوِّدوا أكابِرَكم، واعرِفوا فَضلَ ذوي أسنانِكم، وارحَموا صَغيرَكم وقَرِّبوه وألْطِفوه، واجبُروا يتيمَكم وعُودوا عليه بما قدَرْتُم، ثمَّ خُذوا على أيدي سُفَهائِكم، وتعاهَدوا فقُرَاءَكم وجيرانَكم بما قدَرْتُم عليه، واصبِروا للحُقوقِ ونوائبِ الدُّهورِ، واحذَروا عارَ غدٍ، وعليكم في الحَربِ بالأناةِ والتُّؤَدةِ في اللِّقاءِ، وعليكم بالتِماسِ الخديعةِ في الحَربِ لعَدُوِّكم، وإيَّاكم والنَّزَقَ [2614] النَّزَقُ: الخِفَّةُ والطَّيشُ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) لزين الدين الرازي (ص: 308). والعَجَلةَ؛ فإنَّ المَكيدةَ والأناةَ والخَديعةَ أنفَعُ من الشَّجاعةِ والشِّدَّةِ.
واعلَموا أنَّ القِتالَ والمَكيدةَ مع الصَّبرِ، فإذا كان اللِّقاءُ نَزَل القَضاءُ المُبرَمُ.
فإنْ ظَفِر المرءُ وقد أخَذ بالحَزمِ قال القائِلُ: قد أتى الأمرَ من وَجهِه، وإن لم يظفَرْ قال: ما ضَيَّع ولا فَرَّط، ولكِنَّ القضاءَ غالِبٌ.
يا بَنِيَّ، الزَموا الحَزمَ على أيِّ الحالَينِ وقَع الأمرُ، والزَموا الطَّاعةَ والجماعةَ، وتواصَلوا وتوازَروا وتعاطَفوا؛ فإنَّ ذلك يُثبِّتُ المودَّةَ، وتحابُّوا، وخُذوا بما أُوصيكم به بالجِدِّ والقُوَّةِ، والقيامِ به والتعَهُّدِ له، وتَركِ الغفلةِ عنه، تَظْفَروا بدُنياكم ما كُنتُم فيها، وآخِرتِكم إذا صِرتُم إليها، ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ) [2615] ((لباب الآداب)) لأسامة بن منقذ (1/ 30). .
5- الجِدِّيَّةُ والحَزمُ في طَلَبِ العِلمِ:
قال يحيى بنُ يحيى: (أوَّلُ ما حدَّثني مالِكُ بنُ أنَسٍ حينَ أتيتُه طالِبًا لِمَا ألهَمَني اللهُ إليه في أوَّلِ يومٍ جَلَستُ إليه، قال لي: اسمُك؟ قُلتُ له: أكرَمَك اللهُ، يحيى، وكنتُ أحدَثَ أصحابي سِنًّا، فقال لي: يا يحيى، اللهَ اللهَ، عليك بالجِدِّ في هذا الأمرِ) [2616] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري لابن بطال)) (1/135). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ يحيى بنِ أبي كثيرٍ، قال: سَمِعتُ أبي يقولُ: (لا يُستطاعُ العِلمُ براحةِ الجِسمِ) [2617] أخرجه مسلم في ((صحيحه)) (612). .
وقال محمَّدُ الخِضر حسين: (فكُلُّ ساعةٍ قابلةٌ لأن تضَعَ فيها حَجَرًا يزدادُ به صَرْحُ مَجْدِك ارتفاعًا، ويَقطَعُ به قومُك في السَّعادةِ باعًا أو ذِراعًا، فإنْ كُنتَ حريصًا على أن يكونَ لك المجدُ الأسمى، ولقَومِك السَّعادةُ العُظمى، فدَعِ الرَّاحةَ جانِبًا، واجعَلْ بَينَك وبَينَ اللَّهوِ حاجِبًا) [2618] ((موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين)) (5/ 1/ 161). .
6- الجِدِّيَّةُ والحَزمُ في الدَّعوةِ إلى اللهِ سُبحانَه؛ قال تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55]، يقولُ ابنُ باز: (ممَّا لا شَكَّ فيه لكُلِّ ذي عقلٍ سليمٍ أنَّ الأُمَمَ لا بُدَّ لها من مُوَجِّهٍ يُوَجِّهُها، ويَدُلُّها على طريقِ السَّدادِ، وأمَّةُ محمَّدٍ هي أفضَلُ الأمَمِ وأخَصُّها بالقيامِ بالأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ والدَّعوةِ إلى الخيرِ، مُقتَديةً بإمامِها ورسولِها محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وذلك من أسبابِ سعادتِها ونجاتِها في الدُّنيا والآخرةِ؛ فالواجِبُ على كُلِّ مُسلمٍ بقَدرِ استطاعتِه وعلى حسَبِ عِلمِه ومَقدِرتهِ أن يُشَمِّرَ عن ساعِدِ الجِدِّ في النُّصحِ والتَّوجيهِ والأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكَرِ؛ حتَّى تبرَأَ ذِمَّتُه، ويهتدِيَ به غَيرُه) [2619] ((مجموع فتاوى ابن باز)) (5/94). .

انظر أيضا: