موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- من السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ


رغَّب الإسلامُ في التَّواضُعِ وحثَّ عليه ابتغاءَ مَرضاتِ اللَّهِ، وأنَّ من تواضَع جازاه اللَّهُ على تواضعِه بالرِّفعةِ، وقد ورَدَت نصوصٌ من السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ تدُلُّ على ذلك:
- منها قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما نقَصَت صَدَقةٌ من مالٍ، وما زاد اللَّهُ عبدًا بعفوٍ إلَّا عِزًّا، وما تواضَعَ أحَدٌ للهِ إلَّا رفعه اللَّهُ)) [2194] أخرجه مسلم (2588) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال القاضي عِياضٌ في قولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ((وما تواضَع أحدٌ للهِ إلَّا رفعه اللَّهُ)): (فيه وجهانِ: أحدُهما: أنَّ اللَّهَ تعالى يمنحُه ذلك في الدُّنيا جزاءً على تواضُعِه له، وأنَّ تواضُعَه يُثبِتُ له في القلوبِ محبَّةً ومكانةً وعِزَّةً.
والثَّاني: أن يكونَ ذلك ثوابَه في الآخِرةِ على تواضُعِه) [2195] ((إكمال المعلم شرح صحيح مسلم)) للقاضي عياض (8/59). .
- وعن عِياضِ بنِ حِمارٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللَّهَ أوحى إليَّ أن تواضَعوا حتَّى لا يَفخَرَ أحدٌ على أحدٍ، ولا يبغيَ أحدٌ على أحدٍ)) [2196] أخرجه مسلم (2865) مطوَّلًا. .
(يعني: أن يتواضَعَ كُلُّ واحدٍ للآخَرِ، ولا يترفَّعَ عليه، بل يجعَلُه مِثلَه أو يُكرِمُه أكثَرَ، وكان من عادةِ السَّلَفِ رحمهم اللَّهُ: أنَّ الإنسانَ منهم يجعَلُ من هو أصغرُ منه مثلَ ابنِه، ومن هو أكبرُ مثلَ أبيه، ومن هو مثلُه مثلَ أخيه، فينظُرُ إلى من هو أكبَرُ منه نظرةَ إكرامٍ وإجلالٍ، وإلى مَن هو دونَه نظرةَ إشفاقٍ ورحمةٍ، وإلى مَن هو مثلُه نظرةَ مساواةٍ، فلا يبغي أحدٌ على أحدٍ، وهذا من الأمورِ التي يجبُ على الإنسانِ أن يتَّصِفَ بها، أي بالتَّواضُعِ للهِ عزَّ وجَلَّ ولإخوانِه من المسلِمين) [2197] ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/524). .
- وعن حارثةَ بنِ وَهبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنَّه سمع النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((ألا أخبِرُكم بأهلِ الجنَّةِ؟ قالوا: بلى. قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كُلُّ ضعيفٍ متضَعَّفٍ، لو أقسَمَ على اللَّهِ لأبرَّه. ثمَّ قال: ألا أخبِرُكم بأهلِ النَّارِ؟ قالوا: بلى. قال: كُلُّ عُتُلٍ [2198] عُتُلٍ: هو الجافي الشَّديدُ الخصومةِ بالباطِلِ، وقيل: الجافي الفَظُّ الغليظُ. يُنظَر: ((شرح مسلم)) للنووي (17/188). جوَّاظٍ [2199] الجوَّاظُ: الجَموعُ المنوعُ، وقيل: كثيرُ اللَّحمِ المختالُ في مِشيتِه، وقيل: القصيرُ البَطينُ، وقيل: الفاجرُ. يُنظَر: ((شرح مسلم)) للنووي (17/188). مُستكبِرٍ)) [2200] أخرجه البخاري (4918)، ومسلم (2853) واللفظ له. .
قال القاضي عِياضٌ: (وقولُه في أهلِ الجنَّةِ: "كُلُّ ضعيفٍ متضَعَّفٍ"... هو صفةُ نفيِ الكبرياءِ والجَبَروتِ التي هي صفةُ أهلِ النَّارِ، ومَدحُ التَّواضُعِ والخُمولِ، والتَّذلُّلِ للهِ عزَّ وجَلَّ، وحَضٌّ عليه) [2201] ((إكمال المعلم شرح صحيح مسلم)) للقاضي عياض (8/383). .
- عن مُصعَبِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: رأى سعدٌ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنَّ له فضلًا على مَن دونَه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((هل تُنصَرون وتُرزَقون إلَّا بضُعَفائِكم؟)) [2202] أخرجه البخاري (2896). .
قال الطِّيبيُّ في معنى الحديثِ: (فيه نهيٌ عن مخالطةِ الأغنياءِ، وتحذيرٌ من التَّكبُّرِ على الفقراءِ، والمحافظةُ على جَبرِ خواطِرِهم؛ ولهذا قال لُقمانُ لابنِه: لا تَحقِرَنَّ أحدًا لخُلقانِ ثيابِه؛ فإنَّ ربَّك وربَّه واحدٌ.
وقال ابنُ معاذٍ: حُبُّك الفقراءَ من أخلاقِ المُرسَلين، وإيثارُك مجالَستَهم من علاماتِ الصَّالحين، وفِرارُك منهم من علاماتِ المُنافِقين) [2203] ((فيض القدير)) للمناوي (1/109). .
- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لو دُعِيتُ إلى ذِراعٍ أو كُراعٍ [2204] الكُراعُ من الدَّابَّةِ: ما دونَ الكعبِ. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 199). لأجَبْتُ، ولو أهدِيَ إليَّ ذِراعٌ أو كُراعٌ لقَبِلتُ)) [2205] أخرجه البخاري (2568). .
قال ابنُ بطَّالٍ: (قال المُهَلَّبُ: معناه التَّواضُعُ وتركُ التَّكبُّرِ، والاستئلافُ بقَبولِ اليسيرِ والإجابةِ إليه؛ لأنَّ الهَدِيَّةَ تؤكِّدُ المحبَّةَ، وكذلك الدَّعوةُ إلى الطَّعامِ لا تبعَثُ إلى ذلك إلَّا صحَّت محبَّةُ الدَّاعي وسُرورُه بأكلِ المدعوِّ إليه من طعامِه والتَّحبُّبِ إليه بالمؤاكلةِ، وتوكيدِ الذِّمامِ معه بها؛ فلذلك حضَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على قَبولِ التَّافِهِ من الهديَّةِ، وإجابةِ النَّذرِ من الطَّعامِ) [2206] ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (7/ 290). .
وقال المظهريُّ: (هذا إظهارُ التَّواضُعِ، وتحريضُ النَّاسِ على التَّواضُعِ، وإجابةُ من يدعوهم إلى ضيافةٍ) [2207] ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (2/ 509). .

انظر أيضا: