موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- مِنَ السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ


1- عن شَدَّادِ بنِ أوسٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((ثِنْتانِ حَفِظْتُهما عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ قال: إنَّ اللهَ كَتَب الإحسانَ على كُلِّ شيءٍ، فإذا قتَلْتُم فأحسِنوا القِتْلةَ، وإذا ذبَحتُم فأحسِنوا الذَّبحَ، ولْيُحِدَّ أحَدُكم شَفْرَتَه، فلْيُرِحْ ذَبيحتَه)) [155] أخرجه مسلم (1955). . والإحسانُ هنا هو الإحكامُ والإكمالُ، والتَّحسينُ في الأعمالِ المشروعةِ؛ فحَقُّ من شَرَع في شيءٍ منها أن يأتيَ به على غايةِ كمالِه، ويحافِظَ على آدابِه المصحِّحةِ، والمُكَمِّلةِ، وإذا فعَل ذلك قُبِل عَمَلُه، وكَثُر ثوابُه [156] يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (13/107)، ((البحر المحيط الثجاج)) للإتيوبي (33/289، 290). . (والحديثُ يدُلُّ على وجوبِ الإحسانِ في كُلِّ شيءٍ من الأعمالِ، لكِنْ إحسانُ كُلِّ شيءٍ بحَسَبِه، والإحسانُ الواجِبُ في معاملةِ الخَلقِ ومعاشرتِهم: القيامُ بما أوجَب اللهُ من حقوقِ ذلك كُلِّه) [157] ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/382 - 383). .
وقال المبارَكفوريُّ: (قولُه: ((إنَّ اللهَ كتَب الإحسانَ على كُلِّ شيءٍ)) أي: إلى كُلِّ شيءٍ، أو ((على)) بمعنى: في، أي: أمَركم بالإحسانِ في كُلِّ شيءٍ، والمرادُ منه العمومُ الشَّاملُ للإنسانِ حَيًّا وميِّتًا، وضَمَّن الإحسانَ معنى التَّفضُّلِ وعدَّاه بعلى) [158] ((تحفة الأحوذي)) (4/664-665). .
وفي قولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ كتَب الإحسانَ على كُلِّ شيءٍ ...)) قاعدةٌ أخلاقيَّةٌ تربويَّةٌ قويمةٌ، وقاعدةٌ أساسيَّةٌ لا يُغني عنها سِواها، ومِن ثَمَّ جاءت هكذا عامَّةً لتدخُلَ في كُلِّ عَمَلٍ أو تصرُّفٍ أخلاقيٍّ يقومُ به الإنسانُ، ومطَّرِدةً بحيثُ لا يُستثنى منها حالةٌ من الحالاتِ؛ فاللهُ كتب الإحسانَ في كُلِّ شيءٍ، وإذا كان الإنسانُ لا ينفَكُّ عن العَمَلِ ما دام حيًّا، فإنَّ عَمَلَه يجبُ أن لا ينفَكَّ عن الإحسانِ، وإذا كان الإنسانُ كذلك فقد أصبح على الخُلُقِ الفاضلِ القويمِ [159] يُنظَر: ((الأخلاق الفاضلة قواعد ومنطلقات لاكتسابها)) لعبد اللهِ بن ضيف الله الرحيلي (ص: 57- 58). .
2- وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((أقبَل رجلٌ إلى نبيِّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: أبايعُك على الهِجرةِ والجِهادِ، أبتغي الأجرَ من اللهِ، قال: فهل من والِدَيك أحدٌ حَيٌّ؟ قال: نعَمْ، بل كِلاهما. قال: فتبتغي الأجرَ من اللهِ؟ قال: نعَمْ، قال: فارجِعْ إلى والِدَيك فأحسِنْ صُحبَتَهما)) [160] أخرجه مسلم (2549). ، أي: أحسِنْ إليهما وبَرَّهما، قال النَّوويُّ: (هذا دليلٌ لعِظَمِ فضيلةِ بِرِّهما) [161] ((شرح النووي على مسلم)) (16/104). .
3- وعن سُلَيمانَ بنِ عَمرِو بنِ الأحوَصِ، قال: ((حدَّثني أبي أنَّه شَهِد حَجَّةَ الوداعِ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فحَمِد اللهَ، وأثنى عليه، وذَكَّر، ووَعَظ، فذكَر في الحديثِ قِصَّةً، فقال: ألا واستوصوا بالنِّساءِ خَيرًا؛ فإنَّما هنَّ عوانٌ عندَكم، ليس تملِكون منهنَّ شيئًا غيرَ ذلك، إلَّا أن يأتينَ بفاحشةٍ مُبَيِّنةٍ، فإن فعَلْنَ فاهجُروهنَّ في المضاجِعِ، واضرِبوهنَّ ضَربًا غيرَ مُبَرِّحٍ، فإن أطَعْنَكم فلا تبغوا عليهنَّ سبيلًا، ألا إنَّ لكم على نسائِكم حَقًّا، ولنسائِكم عليكم حقًّا؛ فأمَّا حقُّكم على نسائِكم فلا يُوطِئْنَ فُرُشَكم من تكرهون، ولا يأذَنَّ في بيوتِكم لمن تكرَهون، ألا وحَقُّهنَّ عليكم أن تحسِنوا إليهنَّ في كِسْوتِهنَّ وطعامِهنَّ)) [162] أخرجه الترمذي (1163) واللفظ له، وابن ماجه (1851). صحَّحه الترمذي، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (6/179)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1163)، وحسَّن إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (4865). .
فقد أوصى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهنَّ خيرًا بالإحسانِ إليهنَّ، وأوضح أنَّ الزَّوجاتِ لهنَّ النَّفَقةُ على قَدْرِ كفايتِهنَّ، من غيرِ إفراطٍ أو تفريطٍ، وكذلك أوصى النِّساءَ بالإحسانِ إلى أزواجِهنَّ؛ فالإحسانُ شامِلٌ في حَقِّ بعضِهم البعضِ [163] يُنظَر: ((التحبير لإيضاح معاني التيسير)) للصنعاني (1/218)، ((تحفة الأحوذي)) للمباركفورى (8/483). .
4- وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ رجلًا سأل رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ الاسلامِ خيرٌ؟ قال: تُطعِمُ الطَّعامَ، وتقرَأُ السَّلامَ على من عرَفْتَ ومَن لم تعرِفْ)) [164] أخرجه البخاري (28)، ومسلم (39). . (وجمَع في الحديثِ بَيْنَ إطعامِ الطَّعامِ، وإفشاءِ السَّلامِ؛ لأنَّه به يجتَمِعُ الإحسانُ بالقولِ والفعلِ، وهو أكمَلُ الإحسانِ) [165] ((البحر المحيط الثجاج)) للإثيوبي (2/88). .
5- وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن هَمَّ بحَسَنةٍ فلم يَعمَلْها كُتِبَت له حَسَنةً، ومن هَمَّ بحَسَنةٍ فعَمِلَها كُتِبَت له عَشرًا إلى سبعِمئةِ ضِعفٍ، ومن هَمَّ بسَيِّئةٍ فلم يعمَلْها لم تُكتَبْ، وإنْ عَمِلها كُتِبَت)) [166] أخرجه مسلم (130). والحَسَنةُ تَشمَلُ كُلَّ قَولٍ أو عَمَلٍ حَسَنٍ، ومن ذلك إحسانُ المُسلِمِ إلى غيرِه بالقَولِ أو الفِعلِ، وهذا الحديثُ وأمثالُه يدُلُّ دَلالةً شاملةً على مضاعفةِ اللهِ سُبحانَه أجرَ مَن عَمِلَ عمَلًا وأحسَنَ فيه بصفةٍ عامَّةٍ، سواءٌ أحسَن في عمَلِه أو أحسَن إلى غيرِه، ومثلُ ذلك في قولِ اللهِ تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261] ؛ فإنفاقُ الأموالِ في سبيلِ اللهِ إحسانٌ من العبدِ لنفسِه وإحسانٌ صادِرٌ منه إلى غيرِه، وتكونُ مضاعَفةُ الأجرِ للمُحسِنين بحسَبِ الإخلاصِ، وصِدقِ العَزمِ، وحضورِ القَلبِ، وتعدِّي النَّفعِ، والحَسَنةُ والسَّيِّئةُ هاهنا: يُقصَدُ بها كُلُّ حَسَنةٍ وكُلُّ سَيِّئةٍ، وقد قَيَّد الحسَنةَ والسَّيِّئةَ بالعَمَلِ بقَولِه: (يَعمَلُها) في بعضِ الأحاديثِ، وأطلقها في البعضِ، فيُحمَلُ المُطلَقُ على المقيَّدِ؛ لأنَّ الحسَنةَ المنويَّةَ لا تُكتَبُ بالعَشرِ؛ إذ لا بُدَّ من العمَلِ حتى تُكتَبَ بها، وأمَّا السَّيِّئةُ فلا اعتدادَ بها دونَ العمَلِ أصلًا [167] يُنظَر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (1/99)، ((شرح النووي على مسلم)) (2/148)، ((عمدة القاري)) للعيني (1/254)، ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (1/129). .

انظر أيضا: