موسوعة الأخلاق والسلوك

رابِعَ عشَرَ: مسائِلُ مُتفَرِّقةٌ


ضرورةُ التَّعاوُنِ لقيامِ الحياةِ:
لا حياةَ للإنسانِ من غيرِ تعاوُنٍ، ولو ارتفع بَينَ قومٍ التَّعاوُنُ هلكوا؛ يقولُ ابنُ خَلدونَ: (قُدرةُ الواحِدِ من البَشَرِ قاصرةٌ عن تحصيلِ حاجتِه من الغِذاءِ، ولو فرَضْنا منه أقَلَّ ما يمكِنُ فَرضُه، وهو: قوتُ يومٍ من الحِنطةِ مَثَلًا، فلا يحصُلُ إلَّا بعلاجٍ كثيرٍ من الطَّحنِ والعَجنِ والطَّبخِ، وكُلُّ واحدٍ من هذه الأعمالِ الثَّلاثةِ يحتاجُ إلى مواعينَ وآلاتٍ لا تتِمُّ إلَّا بصناعاتٍ متعَدِّدةٍ من حدَّادٍ ونجَّارٍ وفاخوريٍّ، وهَبْ أنَّه يأكُلُه حبًّا من غيرِ علاجٍ، فهو أيضًا يحتاجُ في تحصيلِه إلى الزِّراعةِ والحَصادِ والدَّرسِ -إخراجِ الحبِّ من غِلافِ السُّنبُلِ- ويحتاجُ كُلُّ واحدٍ من هذه إلى آلاتٍ متعَدِّدةٍ وصنائِعَ كثيرةٍ، ويستحيلُ أن تفيَ بذلك كُلِّه أو ببعضِه قُدرةُ الواحِدِ، فلا بدَّ من التَّعاوُنِ؛ ليَحصُلَ به قَدرُ الكفايةِ من الحاجةِ، وما لم يكُنْ هذا التَّعاوُنُ فلا يحصُلُ له قوتٌ ولا غِذاءٌ ولا دِفاعٌ عن نفسِه، ولا تَتِمُّ حياتُه) [1849] ((التاريخ)) (1/ 54، 55). .
وإذا تقرَّر ذلك تبَيَّنَ أنَّ التَّعاوُنَ ضرورةٌ لبقاءِ الإنسانِ، وقد جعل اللهُ سُبحانَه وتعالى التَّعاوُنَ فِطرةً جِبِلِّيةً، جبَلَها في جميعِ مخلوقاتِه: صغيرِها وكبيرِها، ذَكَرِها وأنثاها، إنسِها وجِنِّها، فلا يمكِنُ لأيِّ مخلوقٍ أن يواجِهَ كُلَّ أعباءِ الحياةِ ومتاعِبِها منفَرِدًا، بل لا بُدَّ أن يحتاجَ إلى من يعاوِنُه ويساعِدُه؛ لذلك فالتَّعاوُنُ ضرورةٌ من ضروريَّاتِ الحياةِ التي لا يمكِنُ الاستغناءُ عنها.
الخِطابُ الجماعيُّ في القُرآنِ:
الملاحَظُ أنَّ نصوصَ الشَّريعةِ جاءت بالخِطابِ الجماعيِّ؛ فقَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وردت (89) مرَّةً، وقولُه: أَيُّهَا النَّاسُ ورد عِشرين مرَّةً، وقَولُه: بِنِي آدَمَ خمسَ مرَّاتٍ؛ دلالةً على أهميَّةِ الاجتماعِ والتَّعاوُنِ والتَّكامُلِ.
التَّعاوُنُ في عالمِ الحيواناتِ والطُّيورِ:
يوجَدُ العديدُ من الأمثلةِ التي تدُلُّ على التَّعاوُنِ والتَّآزُرِ والتَّكافُلِ بَينَ الكائناتِ الحيَّةِ، وكثيرٌ من هذه الكائناتِ يعيشُ على شكلِ مجاميعَ وقُطعانٍ؛ لتكونَ قُوَّةً واحدةً لحمايةِ بعضِها بعضًا، وللتَّصَدِّي لأيِّ خَطَرٍ قد يُحدِقُ بأحَدِ أفرادِها.
فهناك (مخلوقاتٌ جَعَل اللهُ في فِطرتِها نوعَ تعاوُنٍ؛ إمَّا لتأمينِ غِذائِها، أو الدِّفاعِ عن نفسِها وجماعتِها، ويظهَرُ ذلك في جِنسَيِ النَّملِ والنَّحلِ.
فقد شُوهِدَ أنَّ النَّملَ إذا عَثَر على عَسَلٍ في وِعاءٍ، ولم يتمكَّنْ من الوصولِ إليه مباشَرةً؛ لوجودِ ماءٍ أو سائلٍ يحولُ بينه وبَينَ هذا العَسَلِ، فإنَّه يتعاوَنُ بطريقةٍ فِدائيَّةٍ انتحاريَّةٍ؛ فتتَقَدَّمُ فِرَقٌ بعد أخرى فتلتَصِقُ بالسَّائِلِ وتموتُ، وتتقَدَّمُ غيرُها مِثلَها حتى تتكوَّنَ قنطرةٌ من جُثَثِ النَّملِ الميِّتِ يَعبُرُ عليها الأحياءُ الباقون، فيدخُلون الوِعاءَ، ويَصِلون إلى العَسَلِ، ويَبلُغون مأرَبَهم. هذا في حالِ اليُسرِ والغِذاءِ!
أمَّا في حالِ العُسرِ والتَّعرُّضِ للمخاطِرِ: فإنَّ مجاميعَ النَّملِ إذا تعرَّضت لتيارٍ مائيٍّ داهِمٍ -مثلًا- فإنَّ بعضَها يُمسِكُ ببَعضٍ، ثمَّ تكونُ كتلةٌ كُرَويَّةٌ متماسِكةٌ تتحَمَّلُ اندفاعَ التَّيَّارِ، ثمَّ تعمَلُ حركتَينِ في آنٍ واحدٍ، إحداهما: تتحَرَّكُ فيها الأرجُلُ كالمجاديفِ في اتِّجاهٍ واحدٍ نحوَ أقرَبِ شاطئٍ، والثَّانيةُ: حركةٌ دائريَّةٌ من أعلى إلى أسفَلَ؛ ليَتِمَّ تقاسُمُ التَّنفُّسِ بَينَ الجميعِ، فإذا ما تنَفَّس مَن في الأعلى حصَل انقلابٌ؛ ليرتَفِعَ مَن في جهةِ القاعِ، فيأخُذَ حَظَّه من النَّفَسِ، وهكذا في حركةٍ دائريَّةٍ حتى يبلُغوا شاطئَ الأمانِ!
فسُبحانَ الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَه ثمَّ هدى، وسُبحانَ مَن وهَب الإنسانَ العقلَ المُفَكِّرَ ليتأسَّى ويعتبِرَ ويكتَشِفَ ويَرقى بفِكرِه -بعدَ هِدايةِ اللهِ وتوفيقِه- ليكونَ خيرًا من الأنعامِ.
أمَّا النَّحلُ فنظامُه في تكوينِ مملكتِه، وإنتاجِ عَسَلِه، وترتيبِ الأعمالِ بَينَ أفرادِ خليَّتِه؛ فعَجَبٌ عُجابٌ في التَّعاوُنِ والتَّناوُبِ، وللهِ في خَلقِه شُؤونٌ) [1850] ((مجلة البحوث الإسلامية)) العدد (51)، ربيع الأول - جمادى الثانية، 1418هـ، (198-199). .
فهذه الأمثلةُ وغيرُها تُبَيِّنُ عظيمَ قدرتِه سُبحانَه وتعالى في الكونِ، الذي فَطَر جميعَ المخلوقاتِ على التَّعاوُنِ والتَّكافُلِ والتَّآزُرِ.

انظر أيضا: