موسوعة الأخلاق والسلوك

رابعًا: أقسامُ التَّعاوُنِ


قال ابنُ تيميَّةَ: (التَّعاوُنُ نوعانِ:
الأوَّلُ: تعاوُنٌ على البِرِّ والتَّقوى؛ من الجهادِ، وإقامةِ الحدودِ، واستيفاءِ الحقوقِ، وإعطاءِ المُستَحقِّين؛ فهذا ممَّا أمر اللهُ به ورسولُه. ومن أمسك عنه خشيةَ أن يكونَ من أعوانِ الظَّلَمةِ فقد ترك فرضًا على الأعيانِ، أو على الكفايةِ، متوهِّمًا أنَّه متورِّعٌ. وما أكثَرَ ما يَشتبِهُ الجُبنُ والفَشَلُ بالوَرِعِ! إذ كلٌّ منهما كَفٌّ وإمساكٌ.
والثَّاني: تعاوُنٌ على الإثمِ والعُدوانِ؛ كالإعانةِ على دَمٍ معصومٍ، أو أخذِ مالٍ معصومٍ، أو ضَربِ من لا يستحِقُّ الضَّربَ، ونحوِ ذلك؛ فهذا الذي حرَّمه اللهُ ورسولُه. نعم، إذا كانت الأموالُ قد أُخِذت بغيرِ حَقٍّ، وقد تعذَّر ردُّها إلى أصحابِها، ككثيرٍ من الأموالِ السُّلطانيَّةِ؛ فالإعانةُ على صرفِ هذه الأموالِ في مصالحِ المسلِمين؛ كسدادِ الثُّغورِ، ونَفَقةِ المُقاتِلةِ، ونحوِ ذلك: من الإعانةِ على البِرِّ والتَّقوى) [1780] ((السياسة الشرعية)) (ص: 40). .
أصنافُ النَّاسِ في التَّعاوُنِ:
قال الماوَرْديُّ: (تنقَسِمُ أحوالُ مَن دخل في عِدادِ الإخوانِ أربعةَ أقسامٍ: منهم مَن يُعينُ ويَستعينُ، ومنهم مَن لا يُعينُ ولا يَستعينُ، ومنهم مَن يَستعينُ ولا يُعينُ، ومنهم مَن يُعينُ ولا يَستعينُ.
فأمَّا المُعينُ والمُستعينُ فهو معاوِضٌ مُنصِفٌ؛ يؤدِّي ما عليه ويستوفي ما له، فهو كالمُقرِضِ يُسعِفُ عندَ الحاجةِ ويستَرِدُّ عندَ الاستغناءِ، وهو مشكورٌ في معونتِه، ومعذورٌ في استعانتِه، فهذا أعدَلُ الإخوانِ.
وأمَّا من لا يُعينُ ولا يَستعينُ فهو متروكٌ قد منع خَيرَه وقمَعَ شَرَّه، فهو لا صديقٌ يُرجى، ولا عدوٌّ يُخشى، وإذا كان الأمرُ كذلك فهو كالصُّورةِ المُمثَّلةِ، يروقُك حُسنُها، ويخونُك نفعُها، فلا هو مذمومٌ لقمعِ شَرِّه، ولا هو مشكورٌ لمنعِ خَيرِه، وإن كان باللَّومِ أجدَرَ.
وأمَّا مَن يستعينُ ولا يُعينُ فهو لئيمٌ كَلٌّ، ومَهينٌ مُستَذَلٌّ، قد قطع عنه الرَّغبةَ، وبَسَط فيه الرَّهبةَ، فلا خيرُه يُرجى، ولا شَرُّه يُؤمَنُ، وحَسْبُك مهانةً من رجُلٍ مستثقَلٍ عندَ إقلالِه، ويُستَقَلُّ عندَ استقلالِه؛ فليس لمِثلِه في الإخاءِ حَظٌّ، ولا في الوِدادِ نصيبٌ.
وأمَّا مَن يُعينُ ولا يَستعينُ فهو كريمُ الطَّبعِ، مشكورُ الصُّنعِ، وقد حاز فضيلَتَيِ الابتداءِ والاكتِفاءِ، فلا يُرى ثقيلًا في نائبةٍ، ولا يقعُدُ عن نهضةٍ في مَعونةٍ.
فهذا أشرَفُ الإخوانِ نفسًا وأكرَمُهم طبعًا؛ فينبغي لمن أوجَد له الزَّمانُ مِثلَه -وقَلَّ أن يكونَ له مِثلٌ؛ لأنَّه البَرُّ الكريمُ والدُّرُّ اليتيمُ- أن يَثني عليه خِنصَرَه، ويَعَضَّ عليه بناجِذِه، ويكونَ به أشَدَّ ضَنًّا منه بنفائِسِ أموالِه، وسَنيِّ [1781] السَّنيُّ: الرَّفيعُ. يُنظَر: ((الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية)) للجوهري (6/ 2384). ذخائِره؛ لأنَّ نَفْعَ الإخوانِ عامٌّ، ونَفعَ المالِ خاصٌّ، ومن كان أعَمَّ نفعًا فهو بالادِّخارِ أحَقُّ، ثمَّ لا ينبغي أن يَزهَدَ فيه لخُلُقٍ أو خُلُقَينِ يُنكِرُهما منه إذا رَضِيَ سائِرَ أخلاقِه، وحَمِد أكثَرَ شِيَمِه؛ لأنَّ اليسيرَ مغفورٌ، والكمالَ مُعْوِزٌ) [1782] ((أدب الدنيا والدين)) (171-173) بتصرُّفٍ واختصارٍ. .
فـــ (هذا تقسيمٌ من الماوَرْديِّ رحمه اللهُ أشبَهُ بالحَصرِ العقليِّ، وهو تقسيمٌ جميلٌ لتصويرِ النُّفوسِ وأحوالِ النَّاسِ والشُّخوصِ، ولكِنَّ واقِعَ النَّاسِ وما قضت به سُنَّةُ اللهِ في هذه الحياةِ من بناءِ الدُّنيا، واستقامةِ المعاشِ على المُشاركةِ والمعاونةِ، واتخاذِ النَّاسِ بعضِهم بعضًا سُخريًّا...يُشَوِّشُ على ما قرَّره الماوَرْديُّ؛ فلا يُتصَوَّرُ في الواقِعِ من أحدٍ -فيما نحن بصَدَدِه- أن يحقِّقَ مُبتغاه إلَّا بتعاضُدِ أطرافٍ من النَّاسِ، هذا جانبٌ. ومِن جانبٍ آخَرَ؛ فإنَّ البذلَ من طرَفٍ واحدٍ -على نحوِ ما ذكَر الماوَرْديُّ- لا يُسَمَّى إلَّا إحسانًا ومِنَّةً ونِعمةً، وهذا ليس من بابِ التَّعاوُنِ في شيءٍ إلَّا من حيثُ الأثَرُ والفائدةُ للمُحسَنِ إليه والمُنعَمِ عليه.
كما أنَّ مَن يستعينُ ولا يُعينُ قد رَضِيَ لنفسِه أن يكونَ عالةً على غيرِه، وجعل حياتَه مَبنيَّةً على السُّؤالِ والطَّلَبِ والتَّطلُّعِ إلى ما في أيدي النَّاسِ.
وأمَّا من لا يُعينُ ولا يَستعينُ فتصَوُّرُ وُجودِه في بني الإنسانِ بعيدٌ... فالإنسانُ لا يستغني عن أخيه الإنسانِ، كما قضى اللهُ عزَّ وجَلَّ في سُنَنِه) [1783] ((مجلة البحوث الإسلامية)) العدد (51)، ربيع الأول - جمادى الثانية، 1418هـ، (209-210). .

انظر أيضا: