موسوعة الأخلاق والسلوك

سابعًا: أسبابُ الوُقوعِ في اليأسِ والقُنوطِ والإحباطِ


1- الجَهلُ باللهِ سُبحانَه وتعالى:
قال الرَّازيُّ: (القُنوطُ مِن رَحمةِ اللهِ تعالى لا يحصُلُ إلَّا عِندَ الجَهلِ بأُمورٍ:
أحَدُها: أن يجهَلَ كونَه تعالى قادِرًا عليه.
وثانيها: أن يجهَلَ كونَه تعالى عالِمًا باحتياجِ ذلك العَبدِ إليه.
وثالثُها: أن يجهَلَ كونَه تعالى مُنَزَّهًا عنِ البُخلِ والحاجةِ.
والجَهلُ بكُلِّ هذه الأُمورِ سَبَبٌ للضَّلالِ؛ فلهذا المَعنى قال: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر: 56] ) [7440]يُنظَر: ((مفاتيح الغيب)) (19/ 151)، ((اللباب في علوم الكتاب)) لابن عادل (11/471). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (الكبائِرُ:... القُنوطُ مِن رَحمةِ اللهِ، واليأسُ مِن رَوحِ اللهِ ... وتَوابعُ هذه الأُمورِ إنَّما تَنشَأُ مِنَ الجَهلِ بعُبوديَّةِ القَلبِ، وتَركِ القيامِ بها) [7441] ((مدارج السالكين)) (1/133). .
2- الغُلوُّ في الخَوفِ مِنَ اللهِ سُبحانَه وتعالى:
قال ابنُ القَيِّمِ: (لا يَدَعُ الخَوفَ يُفضي به إلى حَدٍّ يوقِعُه في القُنوطِ واليأسِ مِن رَحمةِ اللهِ؛ فإنَّ هذا الخَوفَ مَذمومٌ، وسَمِعتُ شَيخَ الإسلامِ ابنَ تيميَّةَ رَحِمَه اللهُ يقولُ: حَدُّ الخَوفِ ما حَجَزك عن مَعاصي اللهِ، فما زادَ على ذلك فهو غَيرُ مُحتاجٍ إليه، وهذا الخَوفُ الموقِعُ في الإياسِ إساءةُ أدَبٍ على رَحمةِ اللهِ تعالى التي سَبقَت غَضَبَه، وجَهلٌبها) [7442] ((مدارج السالكين)) (2/371). .
ولغَلَبةِ هذا الخَوفِ على قَلبِ اليائِسِ أسبابٌ؛ منها: (إدراكُ قَلبِه مِن مَعاني الأسماءِ والصِّفاتِ ما يدُلُّ على عَظَمةِ اللهِ وجَبَروتِه، وسُرعةِ عِقابِه، وشِدَّةِ انتِقامِه، وحَجبِ قَلبِه عنِ الأسماءِ الدَّالَّةِ على الرَّحمةِ، واللُّطفِ، والتَّوبةِ، والمَغفِرةِ... إلخ، فيُسَيطِرُ على القَلبِ الخَوفُ، فيُسلِمُه ذلك إلى اليأسِ مِن رَوحِ اللهِ، والقُنوطِ مَن رَحِمَته) [7443] ((أثر الإيمان في تحصين الأمة الإسلامية ضد الأفكار الهدامة)) لعبد اللهالجربوع (2/480). .
3- أن يظُنَّ برَبِّه تعالى غَيرَ الحَقِّ، ويتَّهِمَ قَدَرَه، ويَذهَلَ عن كونِ اللهِ تعالى أنظَرَ له مِن نَفسِه، فيجزَعُ إذا تَعَذَّرَت عليه أُمورُ دُنياه، مَعَ ما قد يكونُ له في الشِّدَّةِ مِن مَنافِعَ؛منها: أن تَكونَ سَبَبًا في امتِناعِه مِن سَيِّئاتٍ كان يعمَلُها لو كان في نِعمةٍ أو بَلاءٍ يندَفِعُ عنه في نَفسِه ومالِه [7444] يُنظَر: ((شرح البخاري)) لابن بطال (10/ 111). .
4- الذُّهولُ عن كونِ رَحمةِ اللهِ تعالى سَبَقَت غَضَبَه وأنَّها وسِعَت كُلَّ شَيءٍ؛ فعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّ اللهَ خَلقَ الرَّحمةَ يومَ خَلقَها مِائةَ رَحمةٍ، فأمسَك عِندَه تِسعًا وتِسعينَ رَحمةً، وأرسَل في خَلقِه كُلِّهم رَحمةً واحِدةً، فلو يَعلَمُ الكافِرُ بكُلِّ الذي عِندَ اللهِ مِنَ الرَّحمةِ لم يَيأسْ مِنَ الجَنَّةِ)) [7445] رواه البخاري (6469). .
5- سوءُ التَّربيةِ وعَدَمُ تَعويدِ النَّشءِ على عُبوديَّةِ القَلبِ، كالإخلاصِ والتَّوكُّلِ والرِّضا والرَّجاءِ وغَيرِها، فإذا ذَهَبتِ النِّعمةُ وكانتِ الشِّدَّةُ وقع التَّبَرُّمُ والإحباطُ.
6- مُصاحَبةُ اليائِسينَ والقانِطينَ والمُقنِّطينَ والمُثَبِّطينَ المُخَذِّلينَ أهلَ الإرجافِ:
فإنَّ مُصاحبةَ هؤلاء تُورِثُ اليأسَ والقُنوطَ مِن رَحمةِ اللهِ، إمَّا مُشابَهةً أوعُقوبةً للاختِلاطِ بهم.
7- التَّعَلُّقُ بالأسبابِ:
قال فخرُ الدِّينِ الرَّازيُّ: (الكافِرُ يعتَقِدُ أنَّ السَّبَبَ في حُصولِ تلك النِّعمةِ سَبَبٌ اتِّفاقيٌّ، ثُمَّ إنَّه يستَبعِدُ حُدوثَ ذلك الاتِّفاقِ مَرَّةً أُخرى، فلا جَرَمَ يستَبعِدُ عودَ تلك النِّعمةِ، فيقَعُ في اليأسِ. وأمَّا المُسلمُ الذي يعتَقِدُ أنَّ تلك النِّعمةَ إنَّما حَصَلت مِنَ اللهِ تعالى وفضلِه وإحسانِه وطَولِه؛ فإنَّه لا يحصُلُ له اليأسُ، بل يقولُ: لعَلَّه تعالى يرُدُّها إليَّ بَعدَ ذلك أكمَلَ وأحسَنَ وأفضَلَ ممَّا كانت، وأمَّا حالَ كونِ تلك النِّعمةِ حاصِلةً فإنَّه يكونُ كَفورًا؛ لأنَّه لمَّا اعتَقدَ أنَّ حُصولَها إنَّما كان على سَبيلِالاتِّفاقِ أو بسَبَبِ أنَّ الإنسانَ حَصَّلها بسَبَبِ جِدِّه وجُهدِه، فحينَئِذٍ لا يشتَغِلُ بشُكرِ اللهِ تعالى على تلك النِّعمةِ) [7446] يُنظَر: ((مفاتيح الغيب)) (17 / 322). .
8- التَّشَدُّدُ في الدِّينِ وتَركُ الأخذِ بالرُّخَصِ المَشروعةِ:
قال الغَزاليُّ: (أخبَرَ أي: النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ أن تُؤتى رُخَصُه كما يُحِبُّ أن تُؤتى عَزائِمُه؛تَطييبًا لقُلوبِ الضُّعَفاءِ حتَّى لا ينتَهيَ بهمُ الضَّعفُ إلى اليأسِ والقُنوطِ، فيترُكونَ المَيسورَ مِنَ الخَيرِ عليهم بعَجزِهم عن مُنتَهى الدَّرَجاتِ، فما أُرسِل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا رَحمةً للعالَمينَ كُلِّهم على اختِلافِ أصنافِهم ودَرَجاتِهم) [7447] ((إحياء علوم الدين)) (4/ 278). .
9- قِلَّةُ الصَّبر واستِعجالُ النَّتائِجِ:
 إنَّ ضَعفَ النُّفوسِ عن تَحَمُّلِ البَلاءِ والصَّبرِ عليه، واستِعجالَ حُصولِ الخَيرِ يُؤَدِّي إلى الإصابةِ باليأسِ والقُنوطِ، لاسيَّما مَعَ طولِ الزَّمَنِ واشتِدادِ البَلاءِ على الإنسانِ؛ فعن أبي هُرَيرةَ، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((لا يزالُ يُستَجابُ للعَبدِ ما لم يدعُ بإثمٍ أو قَطيعةِ رَحِمٍ، ما لم يستَعجِلْ، قيل: يا رَسولَ اللهِ، ما الاستِعجالُ؟ قال: يقولُ: قد دَعَوتُ وقد دَعَوتُ، فلم أرَ يَستَجيبُ لي؛ فيستَحسِرُ عِندَ ذلك ويدَعُ الدُّعاءَ)) [7448] رواه البخاري (6340) مختصرًا باختلاف يسير، ومسلم (2735) واللفظ له. .
قال أبو العَبَّاس القُرطُبيُّ: (والقائِلُ: قد دَعَوتُ فلم أرَ يُستَجابُ لي، ويترُكُ قانِطًا مِن رَحمةِ اللهِ، وفي صورةِ المُمتَنِّ على رَبِّه، ثُمَّ إنَّه جاهلٌ بالإجابةِ؛ فإنَّه يظُنُّها إسعافَه في عَينِ ما طَلبَ، فقد يعلمُ اللهُ تعالى أنَّ في عَينِ ما طَلبَ مَفسَدةً) [7449] ((المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم)) (7/63). .
عن خَبَّابِ بنِ الأرَتِّ، قال: ((شَكَونا إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وهُو مُتوسِّدٌ بُردَةً له في ظِلِّ الكَعْبةِ، قُلنا له: ألَا تَسْتَنْصِرُ لنا؟ ألَا تَدْعو اللهَ لنا؟ قال: كان الرَّجلُ فيمَنْ قبلَكم يُحفَرُ له في الأرْضِ، فيُجعَلُ فيهِ، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ على رأسِهِ فيُشَقُّ باثْنتَينِ، وما يصُدُّه ذلك عن دِينِه، ويُمشَطُ بأمْشاطِ الحَديدِ ما دُونَ لَحمِه مِن عظْمٍ أو عَصَبٍ، وما يصُدُّهُ ذلك عن دِينِه، واللهِ لَيُتِمَّنَّ هذا الأمرَ، حتَّى يَسيرَ الرَّاكبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوتَ، لا يَخافُ إلَّا اللهَ أو الذِّئْبَ على غَنَمِه، ولكنَّكم تَستعجِلونَ)) [7450] رواه البخاري (6943). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (مَنِ استَطال الطَّريقَ ضَعُف مَشيُه.
وما أنت بالمُشتاقِ إن قُلتَ بَينَنا
طُوالُ اللَّيالي أو بَعيدُ المَفاوِزِ) [7451] ((الفوائد)) (ص: 78). .
وقال أبو الفرَجِ بنُهندوا:
لا يُؤيسَنْك مِن مَجدٍ تَباعُدُه
فإنَّ للمَجدِ تَدريجًا وتَرتيبَا
إنَّ القَناةَ التي شاهَدتَ رِفعَتَها
تَسمو فتُنبِتُ أُنبوبًا فأُنبوبَا [7452] ((الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)) للخطيب البغدادي (2/ 179).
7- تَعَلُّقُ القَلبِ بالدُّنيا:
فمِن أسبابِ اليأسِ والقُنوطِ الأساسيَّةِ تَعَلُّقُ القَلبِ بالدُّنيا، والفرَحُ بأخذِها، والحُزنُ والتَّأسُّفُ على فواتِها بكُلِّ ما فيها مِن جاهٍ وسُلطانٍ، وزَوجةٍ وأولادٍ، ومالٍ وعافيةٍ، قال تعالى: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم: 36].
8- دُنوُّ الهمَّةِ والاستِسلامُ للواقِعِ وضَعفُ الرَّغبةِ في التَّغييرِ:
 فإنَّ (اليأسَ مِنَ الإصلاحِ يقَعُ فيه كثيرٌ مِنَ النَّاسِ، فإذا عاينَ الشُّرورَ المُتَراكِمةَ والمَصائِبَ، والمِحَنِ والفِتَنَ، ومِنَ الفُرقةِ والتَّناحُرِ والاختِلافِ الذي يسري في صُفوفِ المُسلمينَ، يَئِسَ مِنَ الإصلاحِ،... ومِثلُ ذلك في شَأنِ كثيرٍ مِنَ النَّاسِ مِمَّن يُسرِفُ على نَفسِه بالمَعاصي، ويَتيهُ في أوديةِ الرَّذيلةِ، فتَجِدُه يَيأسُ مِن إصلاحِ حالِه، والرُّقيِّ بها إلى الأمثَلِ، بل رُبَّما ظَنَّ أنَّ التَّغييرَ مُستَحيلٌ... وهذا كُلُّه مَظهَرٌ مِن مَظاهرِ دُنوِّ الهمَّةِ، وصِغَرِ النَّفسِ، والعَجزِ عن مواجَهةِ المَتاعِبِ والمَصاعِبِ) [7453]يُنظَر: ((الهمة العالية)) لمحمد بن إبراهيم الحمد (1/50). .
9- تَمَنِّي المَوتِ:
قال السَّعديُّ: (ورَد النَّهيُ عن تَمَنِّي المَوتِ للضُّرِّ الذي يَنزِلُ بالعَبدِ مِن مَرَضٍ أو فقرٍ أو خَوفٍ، أو وُقوعٍ في شِدَّةٍ ومَهلَكةٍ، أو نَحوِها مِنَ الأشياءِ؛ فإنَّ في تَمَنِّي المَوتِ لذلك مَفاسِدَ...منها: أنَّه يُضعِفُ النَّفسَ، ويُحدِثُ الخَورَ والكسَلَ، ويوقِعُ في اليأسِ، والمَطلوبُ مِنَ العَبدِ مُقاومةُ هذه الأُمورِ، والسَّعيُ في إضعافِها وتَخفيفِها بحسَبِ اقتِدارِه، وأن يكونَ مَعَه مِن قوَّةِ القَلبِ وقوَّةِ الطَّمَعِ في زَوالِ ما نَزَل به. وذلك موجِبٌ لأمرَينِ: اللُّطفُ الإلهيُّ لمَن أتى بالأسبابِ المَأمورِ بها، والسَّعيُ النَّافِعُ الذي يوجِبُه قوَّةُ القَلبِ ورَجاؤُه... فيَجعَلُ العَبدُ الأمرَ مُفوَّضًا إلى رَبِّه الذي يعلمُ ما فيه الخَيرُ والصَّلاحُ له، الذي يَعلمُ مِن مَصالحِ عَبدِه ما لا يعلمُ العَبدُ، ويُريدُ له مِنَ الخَيرِ ما لا يُريدُه، ويَلطُفُ به في بَلائِه كما يَلطُفُ به في نَعمائِه) [7454]يُنظَر: ((بهجة قلوب الأبرار)) (1/175، 176). .

انظر أيضا: