موسوعة الأخلاق والسلوك

حادِيَ عَشَرَ: مَسائِلُ مُتَفرِّقةٌ


تَولُّدُ المَعاصي مِن الغَضَبِ والشَّهوةِ:
المَعاصي كُلُّها تَتَولَّدُ مِن الغَضَبِ والشَّهوةِ، ولمَّا كان نِهايةُ قوَّةِ الغَضَبِ القَتلَ، ونِهايةُ قوَّةِ الشَّهوةِ الزِّنا، جَمَعَ اللهُ تعالى بَينَ القَتلِ والزِّنا، وجَعلهما قَرينينِ في سورةِ الأنعامِ، وسورةِ الإسراءِ، وسورةِ الفُرقانِ، وسورةِ المُمتَحنةِ [5382] ((زاد المعاد)) (2/463). .
غالبُ مِن يتَّصِفُ بسُرعةِ الغَضَبِ:
 ذَكرَ بَعضُ العُلماءِ أنَّ أغلبَ مِن يتَّصِفُ بسُرعةِ الغَضَبِ هم: النِّساءُ، والصِّبيانُ، والشَّرِهُ، والبَخيلُ، وضَعيفُ النَّفسِ مِن الرِّجالِ...
قال الرَّاغِبُ: (أسرَعُ النَّاسِ غَضَبًا الصِّبيانُ، والنِّساءُ، وأكثَرُهم ضَجَرًا الشُّيوخُ...) [5383] ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) (ص: 345). .
وقال ابنُ مِسكَوَيهِ: (ونحن ... نَجِدُ الصِّبيانَ أسرَعَ غَضَبًا وضَجَرًا مِن الرِّجالِ، والشُّيوخَ أكثَرَ مِن الشُّبَّانِ.
 ونَجِدُه في رَذيلةَ الشَّرَهِ؛ فإنَّ الشَّرِهَ إذا تَعَذَّرَ عليه ما يشتَهيه غَضِبَ، وشاجَرٌ على مِن يُهَيِّئُ طَعامَه وشَرابَه مِن نِسائِه وأولادِه وخَدَمِه وسائِرِ من يُلابسُ أمرَه. والبَخيلُ إذا فقدَ شَيئًا مِن مالِه تَسرَّعَ بالغَضَبِ على أصدِقائِه ومُخالِطيه، وتَوجَّهَت تُهمَتُه إلى أهلِ الثِّقةِ مِن خَدَمِه ومَواليه. وهؤلاء الطَّبَقةُ لا يحصُلونَ مِن أخلاقِهم إلَّا على فقدِ الصَّديقِ، وعَدَمِ النَّصيحِ، وعلى الذَّمِّ السَّريعِ، واللَّومِ الوجيعِ) [5384] ((تهذيب الأخلاق)) (ص: 169). .
وقال الغَزاليُّ: (المَريضُ أسرَعُ غَضَبًا مِن الصَّحيحِ، والمَرأةُ أسرَعُ غَضَبًا مِن الرَّجُلِ، والصَّبيُّ أسرَعُ غَضَبًا مِن الرَّجُلِ الكبيرِ، والشَّيخُ الضَّعيفُ أسرَعُ غَضَبًا مِن الكهلِ، وذو الخُلُقِ السَّيِّئِ والرَّذائِل القَبيحةِ أسرَعُ غَضَبًا مِن صاحِبِ الفضائِلِ؛ فالرَّذلُ يغضَبُ لشَهوتِه إذا فاتَته اللُّقمةُ، ولبُخلِه إذا فاتَته الحَبَّةُ، حتَّى أنَّه يغضَبُ على أهلِه وولَدِه وأصحابِه!) [5385] ((إحياء علوم الدين)) (3/172). .
الألفاظُ المُتَرادِفةُ للفظةِ غَضِبَ:
 مِن الألفاظِ المُتَرادِفةِ للفظةِ غَضِبَ: (حَرِدَ، وتَلظَّى، واغتاظَ، وترغَّمُ، واستَشاطَ، وتَضرَّمُ، وحَنِقَ، وأسِفَ، ونَقَم، وسَخِطَ، ووجَدَ، وأحفَظَ، وأضمَرَ) [5386] ((الألفاظ المترادفة المتقاربة المعنى)) لأبي الحسن الرماني (ص: 77). .
الحَليمُ يُعرَفُ عِندَ الغَضَبِ:
 - يُروى أنَّ لُقمانَ رَضيَ اللهُ عنه قال لابنِه: (ثَلاثةٌ لا يُعرَفونَ إلَّا في ثَلاثةِ مَواطِنَ: لا يُعرَفُ الحَليمُ إلَّا عِندَ الغَضَبِ، ولا الشُّجاعُ إلَّا في الحَربِ، ولا تَعرِفُ أخاك إلَّا عِندَ الحاجةِ إليه) [5387] ((البيان والتبيين)) للجاحظ (2/50). .
- وقال عَبدُ المَلكِ بنُ مَروانَ: (إذا لم يغضَبِ الرَّجُلُ لم يحلُمْ؛ لأنَّ الحَليمَ لا يُعرَفُ إلَّا عِندَ الغَضَبِ) [5388] رواه ابنُ حبان في ((روضة العقلاء)) (ص: 141). .
- وعن يحيى بنِ أبي كثيرٍ، قال: (لا يُعجِبْك حِلمُ امرِئٍ حتَّى يغضَبَ، ولا أمانَتُه حتَّى يطمَعَ؛ فإنَّك لا تَدري على أيِّ شِقَّيه يقَعُ) [5389] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (3/69). .
- وذُكرَ أنَّ رَجُلًا مِن التَّابعينَ مَدحَه رَجُلٌ في وجهِه، فقال له: يا عَبدَ اللهِ لم تِمدَحُني؟ أجرَّبْتَني عِندَ الغَضَبِ فوجَدْتَني حَليمًا؟ قال: لا. قال: أجرَّبْتَني في السَّفرِ فوجَدْتَني حَسنَ الخُلُقِ؟ قال: لا. قال: أجرَّبْتَني عِندَ الأمانةِ فوجَدْتَني أمينًا؟ قال: لا. فقال: ويحَك! ما لأحَدٍ أن يمدَحَ أحَدًا ما لم يُجَرِّبْه في هذه الأشياءِ الثَّلاثةِ [5390] ((تنبيه الغافلين)) للسمرقندي (ص: 207). .
- وكان الشَّعبيُّ مِن أولَعِ النَّاسِ بهذا البَيتِ:
 ليست الأحلامُ في حينِ الرِّضا
 إنَّما الأحلامُ في وقتِ الغَضَبِ [5391] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (4/327).
- وقال الحُسَينُ بنُ عليٍّ المِصريُّ، المَعروفُ بابنِ المَغرِبيِّ:
 وليس حَليمًا مَن تُقبَّلُ كفُّه فيرضى
 ولكِنْ مَن تُعَضُّ فيَحلُمُ [5392] ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (9/296)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (17/396).
غَضَبُ النَّاسِ أهونُ مِن غَضَبِ اللهِ:
 - قال ابنُ حَزمٍ: (إن لم يكُنْ بُدٌّ مِن إغضابِ النَّاسِ أو إغضابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ولم يكُنْ لك مَندوحةٌ عن مُنافرةِ الحَقِّ ومُنافرةِ الخَلقِ، فأغضِبِ النَّاسَ ونافِرْهم، ولا تُغضِبْ رَبَّك ولا تُنافِرِ الحَقَّ) [5393] ((رسائل ابن حزم)) (1/383). .
صِفةُ مِن يتَّخِذُ صَديقًا:
 - قال جَعفرُ بنُ مُحَمَّدٍ لابنِه: (يا بُنَيَّ، مَن غَضِبَ مِن إخوانِك ثَلاثَ مَرَّاتٍ فلم يقُلْ فيك سوءًا، فاتَّخِذْه لنَفسِك خِلًّا) [5394] ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص: 174). .
- قال ابنُ الجوزيِّ: (قال الفُضَيلُ بنُ عياضٍ: "إذا أرَدتَ أن تُصادِقَ صَديقًا فأغضِبْه، فإن رَأيتَه كما ينبَغي فصادِقْه".
 وهذا اليومَ مُخاطَرةٌ؛ لأنَّك إذا أغضَبتَ أحَدًا صارَ عَدوًّا في الحالِ! والسَّبَبُ في نَسخِ حُكمِ الصَّفا: أنَّ السَّلفَ كانت همَّتُهم الآخِرةَ وحدَها، فصفَت نيَّاتُهم في الأُخوَّةِ والمُخالطةِ، فكانت دينًا لا دُنيا، والآنَ فقد استَولى حُبُّ الدُّنيا على القُلوبِ، فإن رَأيتَ مُتَمَلِّقًا في بابِ الدِّينِ، فاخبُرْه تَقْلُه) [5395] ((صيد الخاطر)) (ص: 392). .
مِن صِفاتِ اللهِ الغَضَبُ:
الغَضَبُ صِفةٌ فِعليَّةٌ خَبَريَّةٌ ثابتةٌ للهِ عَزَّ وجَلَّ بالكِتابِ والسُّنَّةِ. وأهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ يُثبتونَ صِفةَ الغَضَبِ للهِ عَزَّ وجَلَّ بوَجهٍ يليقُ بجَلالِه وعَظَمَتِه، لا يُكيِّفونَ ولا يُشَبِّهونَ، ولا يُؤَوِّلونَ -كمَن يقولُ: الغَضَبُ إرادةُ العِقابِ-، ولا يُعَطِّلونَ [5396] ((صفات الله عزَّ وجَلَّ الواردة في الكتاب والسنة)) للسقاف (ص: 262، 263). ، واللهُ تعالى يغضَبُ على مِن يستَحِقُّ الغَضَبَ مِن الكافِرينَ وغَيرِهم؛ قال اللهُ تعالى: وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل: 106] [5397] يُنظَر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (3/234). .
وفي الحَديثِ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لمَّا خَلقَ اللهُ الخَلقَ كتَبَ في كِتابِه فهو عِندَه فوقَ العَرشِ: إنَّ رَحمَتي تَغلِبُ غَضَبي)) [5398] أخرجه البخاري (7404)، ومسلم (2751) واللفظ له من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. وفي روايةٍ: ((سبَقَت غضبي)) [5399] أخرجه البخاري (7554) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
لماذا يوصَفُ اللهُ بالغَضَبِ دونَ الحُزنِ؟
(الإنسانُ الغاضِبُ هو الذي يتَصَوَّرُ نَفسَه أنَّه قادِرٌ على أن يُنَفِّذَ؛ لأنَّ من لا يستَطيعُ لا يغضَبُ، ولكِنَّه يحزَنُ؛ ولهذا يوصَفُ اللهُ بالغَضَبِ ولا يوصَفُ بالحُزنِ؛ لأنَّ الحُزنَ نَقصٌ، والغَضَبُ في مَحَلِّه كمالٌ) [5400] ((شرح رياض الصالحين)) (1/274). .
لا يقضي الغَضبانُ بَينَ اثنَينِ:
كَتبَ أبو بَكرةَ إلى ابنِه وكان بسِجِستانَ بألَّا تَقضيَ بَينَ اثنَينِ وأنتَ غَضبانُ؛ فإنِّي سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((لا يقضينَّ حَكمٌ بَينَ اثنَينِ وهو غَضبانُ)) [5401] أخرجه البخاري (7158) واللفظ له، ومسلم (1717). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (إنَّما كان ذلك لأنَّ الغَضَبَ يُشَوِّشُ عليه قَلبَه وذِهنَه، ويمنَعُه مِن كمالِ الفهمِ، ويحولُ بَينَه وبَينَ استيفاءِ النَّظَرِ، ويُعفي عليه طَريقَ العِلمِ والقَصدِ) [5402] ((إعلام الموقعين)) (2/383). .
كلمةُ الحَقِّ في الغَضَبِ:
 كان مِن دُعائِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ((أسألُك كلمةَ الحَقِّ في الغَضَبِ والرِّضا)) [5403] أخرجه النسائي (1305)، وأحمد (18325 ( واللفظ له، من حديثِ عمَّارِ بنِ ياسرٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الألباني في صحيح سنن النسائي (1305) وشعيب في تخريج المسند (18325). ، وهذا عَزيزٌ جِدًّا، وهو أنَّ الإنسانَ لا يقولُ سِوى الحَقِّ سَواءٌ غَضِبَ أو رَضيَ؛ فإنَّ أكثَرَ النَّاسِ إذا غَضِبَ لا يتَوقَّفُ فيما يقولُ) [5404] ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/372). .

انظر أيضا: