موسوعة الأخلاق والسلوك

غَدرُ المُشرِكينَ بالمسلِمينَ في عَهدِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم


إنَّ مَواقِفَ المشرِكينَ من الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه رَضيَ الله عنهم، وغَدرَهم بهم، من الكَثرةِ ما لا يَدخُلُ تَحتَ حَصرٍ، وهي من الشُّهرةِ بما لا يَحتاجُ معها إلى تَدليلٍ وإثباتٍ، ولعلَّ أبرَزَ مَواقِفِهم نَقضُ قُرَيشٍ لصُلحِ الحُدَيبيةِ الذي وقَّعَته مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في العامِ السَّادِسِ للهِجرةِ، ورَضيَ فيه المسلمونَ بالشُّروطِ المجحِفةِ احتِرامًا للحَرَمِ وقُدسيَّتِه، مُعتَبِرينَ هَذا الصُّلحَ هو أوَّلَ اعتِرافٍ رَسميٍّ من قُرَيشٍ بوُجودِ كيانٍ للمسلمينَ ودَولةٍ لها مُقَوِّماتُها وقَراراتُها الخاصَّةُ، ثُمَّ لم تَلبَثْ قُرَيشٌ أن نَقَضَت هَذا العَهدَ وغَدَرَت بأحلافِ رَسولِ اللهِ الخُزاعيِّينَ؛ مِمَّا كان سَبَبًا لتَجهيزِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَيشًا من المسلِمينَ يَفتَحُ مَكَّةَ المكَرَّمةَ بعدَ ذلك.
- ما جاءَ عن أنَسٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أتاه رِعلٌ وذَكوانُ وعُصَيَّةُ وبَنو لحيانَ، فزَعَموا أنَّهم قد أسلَموا، واستَمدُّوه على قَومِهم، فأمَدَّهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بسَبعينَ من الأنصارِ، قال أنَسٌ: كُنَّا نُسَمِّيهم القُرَّاءَ، يَحطِبونَ [5049] أي: يجمَعون الحَطَبَ. يُنظَر: ((إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري)) للقسطلاني (5/ 177(. بالنَّهارِ ويُصَلُّونَ باللَّيلِ، فانطَلَقوا بهم حَتى بلَغوا بئرَ مَعونةَ غَدَروا بهم [5050] أخرجه البخاري (3064). !
- ومن ذلك ما جاءَ عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه قال: ((بعثَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَشرةً عَينًا [5051] أي: جاسوسًا. يُنظَر: ((إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري)) للقسطلاني (6/ 259(. ، وأمَّرَ عليهم عاصِمَ بنَ ثابِتٍ الأنصاريَّ جَدَّ عاصِمِ بنِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، حتَّى إذا كانوا بالهدَأَةِ بينَ عُسفانَ ومَكَّةَ ذُكِروا لحَيٍّ من هُذَيلٍ يُقالُ لهم بنو لَحيانَ، فنَفَروا لهم بقَريبٍ من مِائةِ رَجُلٍ رامٍ، فاقتَصُّوا آثارَهم حتَّى وجَدوا مَأكَلَهم التَّمرَ في مَنزِلٍ نَزلوه، فقالوا: تَمرُ يَثرِبَ! فاتَّبَعوا آثارَهم فلمَّا أحَسَّ بهم عاصِمٌ وأصحابُه لجَؤوا إلى مَوضِعٍ، فأحاطَ بهم القَومُ فقالوا لهم: انزِلوا فأعطوا بأيديكم ولكم العَهدُ والميثاقُ أنْ لا نَقتُلَ منكم أحَدًا، فقال عاصِمُ بنُ ثابِتٍ: أيُّها القَومُ، أمَّا أنا فلا أنزِلُ في ذِمَّةِ كافِرٍ! ثُمَّ قال: اللَّهُمَّ أخبرْ عنَّا نَبيَّك صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! فرَموهم بالنَّبلِ فقَتَلوا عاصِمًا، ونَزَلَ إليهم ثَلاثةُ نَفَرٍ على العَهدِ والميثاقِ، منهم خُبَيبٌ، وزَيدُ بنُ الدَّثِنةِ، ورَجُلٌ آخَرُ، فلمَّا استَمكَنوا منهم أطلَقوا أوتارَ قِسِيِهم فربطوهم بها، قال الرَّجُلُ الثَّالثُ: هَذا أوَّلُ الغَدرِ! واللهِ لا أصحَبُكم، إنَّ لي بهؤلاء أُسوةً، يُريدُ القَتلى فجَرَّروه وعالجوه، فأبى أن يَصحَبَهم، فانطَلَقوا بخُبَيبٍ وزَيدِ بنِ الدَّثِنةِ حتَّى باعوهما بعدَ وَقعةِ بَدرٍ، فابتاع بنو الحارِثِ بنِ عامِرِ بنِ نَوفَلٍ خُبَيبًا، وكانَ خُبَيبٌ هو قَتَلَ الحارِثَ يَومَ بَدرٍ، فمَكثَ عِندَهم أسيرًا، حَتى إذا أجمَعوا قَتْلَه، استَعارَ موسى مِن بَعضِ بَناتِ الحارِثِ ليَستَحِدَّ بها فأعارَتْه، قالت: فغَفَلْتُ عَن صَبيٍّ لي، فدَرَجَ إليه حتَّى أتاه فوَضعَه على فَخِذِه، فلمَّا رَأيتُه فزِعْتُ فَزعةً عَرف ذاك منِّي، فقال: أتَخشينَ أن أقتُلَه؟ ما كُنتُ لأفعَلَ ذاك إنْ شاءَ اللهُ! وكانت تَقولُ: ما رَأيتُ أسيرًا قَطُّ خيرًا من خُبَيبٍ، لقد رَأيتُه يَأكُلُ قِطْفًا من عِنَبٍ في يَدِه، وإنَّه لموثَقٌ بالحديدِ، وما بمكَّةَ من ثمَرةٍ! وكانت تقولُ: إنَّه لرِزقٌ رَزَقه اللهُ خُبيبًا، فلمَّا خرجوا به من الحَرَمِ ليَقتُلوه في الحِلِّ، قال لهم خُبَيبٌ: دعوني أصَلِّي ركعتينِ، فتركوه فركَع ركعتينِ، فقال: واللهِ لولا أن تحسَبوا أنَّ ما بي جزعٌ لزِدتُ، ثمَّ قال: اللَّهُمَّ أحصِهم عددًا، واقتُلْهم بَدَدًا [5052] بَدَدًا: أي: متفَرِّقين. يُنظَر: (فتح الباري)) لابن حجر (7/ 383). ، ولا تُبقِ منهم أحدًا، ثمَّ أنشأ يقولُ:
ولستُ أبالي حينَ أُقتَلُ مُسلِمًا
على أيِّ شِقٍّ كان للهِ مَصْرَعي
وذلك في ذاتِ الإلهِ وإنْ يَشَأْ
يبارِكْ على أوصالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ [5053] أي: أعضاءُ جَسَدٍ يُقطَعُ، والأوصالُ: جمعُ وَصلٍ، وهو العُضوُ، والشِّلْوُ: الجَسَدُ، وقد يُطلَقُ على العُضوِ. والممَزَّعُ: المقَطَّعُ. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (7/ 384).
ثمَّ قام إليه أبو سِروعةَ عُقبةُ بنُ الحارِثِ فقَتَله، وكان خُبَيبٌ هو سَنَّ لكُلِّ مُسلِمٍ قُتِل صبرًا [5054] أي: مصبورًا: محبوسًا للقتلِ. يُنظَر: ((إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري)) للقسطلاني (5/ 165). الصَّلاةَ، وأخبرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلَّم أصحابَه يومَ أُصيبوا خَبَرَهم، وبعث ناسٌ من قُرَيشٍ إلى عاصِمِ بنِ ثابتٍ -حينَ حُدِّثوا أنَّه قُتِل- أن يُؤتَوا بشيءٍ منه يُعرَفُ، وكان قَتَل رجلًا عظيمًا من عظمائِهم، فبعث اللهُ لعاصِمٍ مِثلَ الظُّلَّةِ مِن الدَّبرِ [5055] الظُّلَّةُ: السَّحابةُ. والدَّبْرُ: جماعةُ النَّحلِ. وقيل: جماعةُ الزَّنابيرِ. يُنظَر: ((مطالع الأنوار على صحاح الآثار)) لابن قرقول (3/ 8). ، فحمَتْه من رُسُلِهم، فلم يَقدِروا أن يَقطَعوا منه شيئًا!))
[5056] أخرجه البخاري (3989). .

انظر أيضا: