موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- من السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ


- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لكُلِّ غادرٍ لواءٌ يومَ القيامةِ يُعرَفُ به)) [4970] رواه البخاري (3187)، ومسلم (1737) واللفظ له. .
- وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لكُلِّ غادرٍ لواءٌ يومَ القيامةِ، يقالُ: هذه غَدْرةُ فُلانٍ!)) [4971] رواه البخاري (3186)، ومسلم (1736) واللفظ له. .
- وعن أبي سعيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لكُلِّ غادرٍ لواءٌ عندَ استِه يومَ القيامةِ)) [4972] رواه مسلم (1738). . وفي روايةٍ: ((لكُلِّ غادرٍ لواءٌ يومَ القيامةِ يُرفَعُ له بقَدْرِ غَدْرِه، ألَا ولا غادِرَ أعظَمُ غَدرًا من أميرِ عامَّةٍ)) [4973] رواه مسلم (1738). .
وقال النَّوويُّ: ("لكُلِّ غادرٍ لواءٌ"، أي: علامةٌ يشتَهِرُ بها في النَّاسِ؛ لأنَّ موضوعَ اللِّواءِ الشُّهرةُ، ومكانَ الرَّئيسِ علامةٌ له، وكانت العَرَبُ تنصِبُ الألويةَ في الأسواقِ الحَفِلةِ لغَدرةِ الغادِرِ؛ لتشهيرِه بذلك) [4974] ((المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)) (12/43). .
وفي ذلك مبالغةٌ في العقوبةِ وشِدَّةِ الشُّهرةِ والفضيحةِ [4975] ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (5/ 357). .
ودَلَّت هذه الأحاديثُ على أنَّ الغَدرَ حَرامٌ لجَميعِ النَّاسِ برِّهم وفاجِرِهم؛ لأنَّ الغَدرَ ظُلمٌ، وظُلمُ الفاجِرِ حَرامٌ كَظُلم البِرِّ التَّقيِّ [4976] ((شرح صحيح البخاري)) (5/351). . وفيها دَليلٌ على أنَّ الغَدرَ من كَبائِرِ الذُّنوبِ؛ لأنَّ فيه هذا الوعيدَ الشَّديدَ [4977] ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/273). .
قال النَّوويُّ: (وفي هذه الأحاديثِ بيانُ غِلَظِ تَحريمِ الغَدرِ، لا سيَّما من صاحِبِ الوِلايةِ العامَّةِ؛ لأنَّ غَدرَه يَتَعَدَّى ضَرَرُه إلى خَلقٍ كَثيرينَ) [4978] ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (12/44). ، (ولأنَّه غَيرُ مُضطَرٍّ إلى الغَدرِ؛ لقُدرَتِه على الوفاءِ) [4979] ((فتح الباري)) لابن حجر (6/ 284). .
- وعن عَبدِ الله بنِ عَمرٍو أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أربَعٌ مَن كُنَّ فيه كان مُنافِقًا خالصًا، ومَن كانت فيه خَصلةٌ منهُنَّ كانت فيه خَصلةٌ من النِّفاقِ حَتَّى يَدَعَها: إذا اؤتُمنَ خانَ، وإذا حَدَّثَ كَذَب، وإذا عاهَدَ غَدَرَ، وإذا خاصَمَ فجَرَ)) [4980] رواه البخاري (34) واللفظ له، ومسلم (58). .
قال المُناويُّ: ("وإذا عاهَد غَدَر"، أي: نَقَض العَهدَ) [4981] ((فيض القدير)) (1/463). .
وقال العظيم آبادي: ("وإذا عاهَد غَدَر"، أي: نقَض العهدَ وتَرَك الوفاءَ بما عاهَد عليه) [4982] ((عون المعبود)) (12/289). .
وقال ابنُ عُثَيمين: (... "وإذا عاهَدَ غَدَر"، يعني: إذا أعطى عَهدًا على أيِّ شَيءٍ من الأشياءِ غَدَرَ به ونَقضَ العَهدَ، وهذا يَشمَلُ المعاهَدةَ مع الكُفَّارِ والمعاهَدةَ مع المسلِمِ في بعضِ الأشياءِ، ثُمَّ يَغدِرُ بذلك) [4983] ((شرح رياض الصالحين)) (6/166). .
- وفي حديثِ هِرَقلَ الطَّويلِ مع أبي سفيانَ عندما سأله عن النَّبيِّ: ((وسألتُك هل يَغدِرُ؟ فزعمتَ أنْ لا، وكذلك الرُّسُلُ لا يَغدِرون)) [4984] رواه مطوَّلًا البخاري (2941) واللفظ له، ومسلم (1773) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
قال ابنُ بطَّالٍ: (قد جاء فَضلُ الوفاءِ بالعَهدِ، وذمُّ الخَترِ [4985] الخَترُ: الغَدرُ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (4/229). في غَيرِ مَوضِعٍ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، وإنَّما أشارَ البُخاريُّ في هذا الحَديثِ إلى سُؤالِ هِرَقلَ لأبي سُفيانَ هل يَغدِرُ؟ إذ كان الغَدرُ عِندَ كُلِّ أُمَّةٍ مَذمومًا قَبيحًا، وليس هو من صِفاتِ رُسُلِ اللهِ، فأراد أن يَمتحِنَ بذلك صِدقَ النَّبيِّ؛ لأنَّ مَن غَدَر ولم يَفِ بعَهدٍ لا يَجوزُ أن يكونَ نبيًّا؛ لأنَّ الأنبياءَ والرُّسُلَ عليهم السَّلامُ أخبَرَت عن اللهِ بفَضلِ مَن وفى بعَهدٍ وذَمِّ مَن غَدَر وختَرَ) [4986] ((شرح صحيح البخاري)) (5/356). .
- وعن أبي هُرَيرةَ رَضيَ الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((قال اللهُ: ثَلاثةٌ أنا خَصمُهم يَومَ القيامةِ: رَجُلٌ أعطى بي ثُمَّ غَدَرَ، ورَجُلٌ باعَ حُرًّا فأكَلَ ثَمَنَه، ورَجُلٌ استَأجَرَ أجيرًا فاستَوفى منه ولم يُعطِ أجرَه)) [4987] رواه البخاري (2227). .
قال المهلَّبُ: قولُه: ("أعطى بي ثمَّ غدَر" يريدُ: نَقَض عهدًا عاهَده عليه) [4988] ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (6/345). .
وقال المُناويُّ: (... "ثُمَّ غَدَرَ"، أي: نَقضَ العَهدَ الذي عاهَدَ عليه؛ لأنَّه جَعَل اللهَ كَفيلًا له فيما لزِمَه من وفاءِ ما أعطى، والكَفيلُ خَصمُ المكفولِ به للمكفولِ له) [4989] ((فيض القدير)) (3/315). .
وقال الصَّنعانيُّ: (دَلالةٌ على شِدَّةِ جُرمِ مَن ذُكرَ، وأنَّه تعالى يَخصُمُهم يَومَ القيامةِ نيابةً عَمَّن ظَلموه، وقَولُه: "أعطى بي" أي: حَلَفَ باسمي، وعاهَد أو أعطى الأمانَ باسمي وبِما شَرعتُه من ديني، وتَحريمُ الغَدرِ والنَّكثِ مُجمَعٌ عليه) [4990] ((سبل السلام)) (2/116). .
- حديثُ: ((الإيمانُ قَيدُ الفَتكِ، لا يَفتِكُ مؤمِنٌ)) [4991] أخرجه أبو داود (2769) وابن أبي عاصم في ((الديات)) (ص22)، والبزار (9714). قال الحاكم في المستدرك (8248): (صحيحٌ على شرطِ مُسلمٍ)، وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2769) وصحَّحه لغيره شعيب في تخريج ((سنن أبي داود)) (2769). .
قال المُناويُّ: (أي: يَمنَعُ من الفَتكِ الذي هو القَتلُ بعدَ الأمانِ غَدرًا، كما يَمنَعُ القَيدُ من التَّصَرُّفِ) [4992] ((فيض القدير)) (3/ 186). .
- وعن عَليٍّ رَضيَ الله عنه قال: ما عِندَنا شَيءٌ إلَّا كِتابُ اللهِ وهذه الصَّحيفةُ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ... ((ذِمَّةُ المُسلِمينَ واحِدةٌ، فمَن أخفَرَ مُسلِمًا فعليه لعنةُ الله والملائِكةِ والنَّاسِ أجمَعينَ، لا يُقبَلُ منه صَرفٌ ولا عَدلٌ [4993] صرفٌ ولا عدلٌ: أي: شفاعةٌ ولا فديةٌ؛ لأنَّها تعادِلُ المفديَّ. وقيل: توبةٌ ولا فديةٌ، وقيل: فريضةٌ ولا نافلةٌ، وقيل غيرُ ذلك. يُنظَر: ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطيبي (6/ 2051)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 144). ) [4994] رواه مطولًا البخاري (1870) واللفظ له، ومسلم (1370). .
وفي روايةِ مُسلمٍ: ((ذمَّةُ المُسلِمين واحدةٌ يسعى بها أدناهم)) [4995] رواه مسلم (1370). ورواه البخاري (3179). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (قَوُله: "ذِمَّةُ المسلمينَ واحِدةٌ"، أي: أمانُهم صَحيحٌ، فإذا أمَّنَ الكافِرَ واحِدٌ منهم حَرُم على غَيرِه التَّعَرُّضُ له. وقَولُه: "يَسعى بها"، أي: يَتَولَّاها ويَذهَبُ ويَجيءُ، والمعنى: أنَّ ذِمَّةَ المسلِمينَ سَواءٌ صَدَرَت من واحِدٍ أو أكثَرَ شَريفٍ أو وضيعٍ، فإذا أمَّنَ أحَدٌ من المسلمينَ كافِرًا وأعطاه ذِمَّةً، لم يكنْ لأحَدٍ نَقضُه، فيَستوي في ذلك الرَّجُلُ والمرأةُ والحُرُّ والعَبدُ؛ لأنَّ المسلِمينَ كنَفسٍ واحِدةٍ. وقَولُه: "فمَن أخفَرَ" بالخاءِ المعجَمةِ والفاءِ، أي: نَقضَ العَهدَ، يُقالُ: خَفَرتُه بغَيرِ ألفٍ: أمَّنْتُه، وأخفَرْتُه: نَقَضتُ عَهدَه) [4996] ((فتح الباري)) (4/86). .
- وعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضيَ الله عنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من صَلَّى صَلاتَنا، واستَقبَلَ قِبلَتَنا، وأكلَ ذَبيحَتَنا، فذلك المسلِمُ الذي له ذِمَّةُ اللهِ وذِمَّةُ رَسولِه؛ فلا تُخفِروا اللهَ في ذِمَّتِه)) [4997] رواه البخاري (391). .
قال ابنُ رَجَبٍ: (... "فلا تُخفِروا اللهَ في ذِمَّتِه"، أي: لا تَغدِروا بمَن له عَهدٌ من اللهِ ورَسولِه، فلا تَفوا له بالضَّمانِ، بل أوفوا له بالعَهدِ) [4998] ((فتح الباري)) (3/58). .
وقال القاريُّ: (أي: لا تَخونوا اللهَ في عَهدِه ولا تَتَعَرَّضوا في حَقِّه من مالِه ودَمِه وعِرضِه، أو الضَّميرُ للمُسلِمِ، أي: فلا تَنقُضوا عَهدَ اللهِ) [4999] ((مرقاة المفاتيح)) (1/28). ، (ولا تَخونوه بانتِهاكِ حُقوقِه؛ فإنَّ أيَّ اعتِداءٍ عليه هو خيانةٌ للهِ ورَسولِه، ونَقضٌ لعَهدِهما وإهدارٌ لكَرامةِ الإسلامِ) [5000] ((منار القاري)) لحمزة محمد قاسم (2/3). .
- وعن الحَسَنِ بنِ عَليِّ بنِ أبي رافِعٍ أنَّ أبا رافِعٍ أخبَرَه قال: (بعَثتْني قُرَيشٌ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا رَأيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُلقيَ في قَلبي الإسلامُ، فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي واللهِ لا أرجِعُ إليهم أبَدًا! فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنِّي لا أَخيسُ بالعَهدِ ولا أحبِسُ البُرُدَ [5001] البُرُدُ: جَمعُ بريدٍ، وهو الرَّسولُ. يُنظَر: ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للقاري (6/ 2564). ، ولكن ارجِعْ، فإن كان في نَفسِك الذي في نَفسِك الآنَ فارجِعْ))، قال: فذَهَبتُ ثُمَّ أتَيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأسلَمتُ) [5002] أخرجه أبو داود (2758) واللفظ له، وأحمد (23857). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (4877)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2758)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1235)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (23857). .
قال الخطَّابيُّ: (قولُه: "لا أَخيسُ بالعهدِ" معناه: لا أنقُضُ العَهدَ ولا أُفسِدُه، من قَولِك: خاسَ الشَّيءُ في الوِعاءِ: إذا فسَدَ.
 وفيه مِن الفِقهِ أنَّ العَقدَ يُرعى مع الكافِرِ كما يُرعى مع المسلِمِ، وأنَّ الكافِرَ إذا عَقَد لك عَقدَ أمانٍ فقد وجَبَ عليك أن تُؤمِّنَه، وألَّا تَغتالَه في دَمٍ ولا مالٍ ولا مَنفَعةٍ) [5003] ((معالم السنن)) (2/ 317). .

انظر أيضا: