موسوعة الأخلاق والسلوك

تاسعًا: نماذِجُ من الطَّمَعِ


1- أصحابُ السَّبتِ:
قال تعالى: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف: 163 - 166] ، ففي هذه الآيةِ يأمُرُ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يسأَلَ اليهودَ الذين بحَضرتِه عن القريةِ التي على شاطئِ البحرِ، وأن يستفسِرَهم عن اعتداءِ أهلِها يومَ السَّبتِ، ومخالفتِهم لأمرِ اللهِ؛ بتعظيمِ ذلك اليومِ، والانقطاعِ للعبادةِ، وتَركِ الاصطيادِ فيه، حينَ كانت تأتيهم الحيتانُ يومَ السَّبتِ كثيرةً ظاهرةً ومُقبِلةً، وفي بقيَّةِ الأيَّامِ غيرِ السَّبتِ لا تأتيهم، كذلك يختَبِرُهم اللهُ بما كانوا يَفسُقون.
ثمَّ يقولُ اللهُ تعالى: واذكُرْ -يا محمَّدُ- حينَ قالت جماعةٌ من أهلِ تلك القريةِ لِمن كان يَعِظُ المعتَدينَ منهم: لمَ تَنهَون المُستَحِلِّين للصَّيدِ يومَ السَّبتِ، واللهُ تعالى مُهلِكُهم أو مُعَذِّبُهم عذابًا شديدًا؟ فأجابوهم: نفعَلُ ذلك مَعذِرةً إلى رَبِّكم فيما أخذ علينا من الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ، ولعَلَّ هؤلاء المعتَدينَ يتَّقون اللهَ، ويجتَنِبون المعصيةَ، فلمَّا تَرَك المعتدون ما ذُكِّروا به، ولم يَقبَلوا نصيحةَ الواعِظين؛ أنجى اللهُ الذين يَنهَون عن المعصيةِ، وأخَذ الذين ظَلَموا أنفُسَهم بمعصيتِهم للهِ بعذابٍ شديدٍ نتيجةَ فِسقِهم.
فلمَّا تمرَّدوا وتجاوَزوا ما نُهُوا عنه، وتمادَوا في صَيدِ السَّمَكِ يومَ السَّبتِ، قال اللهُ لهم: صِيروا قِرَدةً حَقيرين، مطرودينَ مِنَ الخَيرِ [4461] يُنظَر: ((جامع البيان)) لابن جرير (10/509)، ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 306)، ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (9/148). .
2- طَمَعُ أصحابِ البُستانِ:
أخبَر اللهُ تعالى عن أصحابِ البُستانِ حينَ حَلَفوا أنَّهم سيَقطَعون ثمَرتَه عِندَ الصَّباحِ؛ حتَّى لا يعلَمَ بهم الفُقَراءُ، فيأخُذوا ما كانوا يأخُذونه؛ طمَعًا في اقتناءِ كامِلِ الغَلَّةِ والزَّرعِ، فكان من أمرِهم ما كان. قال تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [القلم: 17 - 33] .
3- وذكَرَ الجاحِظُ رَجُلًا يُعرَفُ بالكِنديِّ، وأخبَر عن شِدَّةِ طَمَعِه الذي جعلَه يحتالُ ليأخُذَ من أموالِ النَّاسِ، فقال: حدَّثني عمرُو بنُ نِهْيَويٍّ قال: (كان الكِنديُّ لا يزالُ يقولُ للسَّاكنِ، وربَّما قال للجارِ: إنَّ في الدَّارِ امرأةً بها حَملٌ، والوَحْمى ربَّما أسقَطَت من ريحِ القِدْرِ الطَّيِّبةِ، فإذا طبَخْتُم فرُدُّوا شهوتَها ولو بغَرفةٍ أو لَعقةٍ؛ فإنَّ النَّفسَ يَرُدُّها اليسيرُ، فإن لم تفعَلْ ذلك بعد إعلامي إياك، فكُفَّارتُك -إن أسقَطَت- غُرَّةٌ: عَبدٌ أو أَمَةٌ، ألزَمْتَ ذلك نفسَك أم أبَيتَ! قال: فكان ربَّما يوافي إلى منزلِه من قِصاعِ السُّكَّانِ والجيرانِ ما يكفيه الأيَّامَ، وكان أكثَرُهم يَفطِنُ ويَتغافَلُ) [4462] يُنظَر: ((البخلاء)) للجاحظ (ص: 112). !
ومن القِصَصِ التي تدُلُّ على بُخلِ الكِنديِّ وطَمَعِه فيما عِندَ النَّاسِ الذين يستأجِرون دارَه، قال مَعبدٌ: (نزَلْنا دارَ الكِنديِّ أكثَرَ من سنةٍ، نُرَوِّجُ له الكِراءَ، ونقضي له الحوائِجَ، ونَفِي له بالشَّرطِ. قُلتُ: قد فَهِمتُ ترويجَ الكِراءِ، وقضاءَ الحوائجِ. فما معنى الوفاءِ بالشَّرطِ؟! قال: في شَرطِه على السُّكانِ أن يكونَ له رَوثُ الدَّابَّةِ، وبَعرُ الشَّاةِ، ونِشوارُ العَلوفةِ، وألَّا يُلقوا عَظمًا، ولا يُخرِجوا كُسَاحةً، وأن يكونَ له نوى التَّمرِ، وقُشورُ الرُّمَّانِ، والغَرفةُ من كُلِّ قِدرٍ تُطبَخُ للحُبلى في بيتِه. وكان في ذلك يتنَزَّلُ عليهم؛ فكانوا لطِيبِه وإفراطِ بُخلِه، وحُسنِ حديثِه، يحتَمِلون ذلك.
قال مَعبدٌ: فبينا أنا كذلك إذ قَدِم ابنُ عَمٍّ لي ومعه ابنٌ له، وإذا رُقعةٌ منه قد جاءَتني: إن كان مُقامُ هذينِ القادمينِ ليلةً أو ليلتينِ احتمَلْنا ذلك، وإن كان إطماعُ السُّكَّانِ في اللَّيلةِ الواحِدةِ يجُرُّ علينا الطَّمَعَ في اللَّيالي الكثيرةِ! فكتَبْتُ إليه: ليس مُقامُهما عندنا إلَّا شهرًا أو نحوَه. فكتب إليَّ: إنَّ دارَك بثلاثين دِرهمًا، وأنتم سِتَّةٌ، لكُلِّ رأسٍ خمسةٌ، فإذ قد زِدتَ رَجُلين فلا بُدَّ من زيادةِ خَمستَينِ! فالدَّارُ عليك من يومِك هذا بأربعين. فكتبتُ إليه: وما يَضُرُّك من مُقامِهما، وثِقَلُ أبدانِهما على الأرضِ التي تحمِلُ الجِبالَ، وثِقَلُ مؤَونتِهما عليَّ دونَك؟! فاكتُبْ إليَّ بعُذرِك لأعرِفَه. ولم أدْرِ أنِّي أهجُمُ على ما هجَمْتُ، وأنِّي أقعُ منه فيما وقَعْتُ، فكتبَ إليَّ: الخِصالُ التي تدعو إلى ذلك كثيرةٌ، وهي قائمةٌ معروفةٌ ...) [4463] يُنظَر: ((البخلاء)) للجاحظ (ص: 113- 114). . ثمَّ أخذ يَسرُدُ هذه الخِصالَ بما يطولُ ذِكرُه.
5- طَمَعُ أشعَبَ:
- قيل لأشعَبَ: ما بَلَغ مِن طَمَعِك؟ قال: أرى دُخانَ جاري فأَثْرُدُ [4464] يُنظَر: ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (3/273). !
- وقيل له: هل رأيتَ أطمَعَ منك؟ قال: نعم، امرأتي؛ كُلُّ شيءٍ ظَنَنَّاه فهي تتيقَّنُه! وقال: شاةٌ لي كانت على السَّطحِ فأبصَرَت قَوسَ قُزَحَ فحَسِبَتْها حَبلًا من قَتٍّ، فوثَبَت إليها فطاحت، فاندَقَّ عُنُقُها!
- قال أشعَبُ أيضًا: ما رأيتُ أطمَعَ منِّي إلَّا كلبًا تَبِعَني على مَضغِ العِلْكِ فَرْسَخًا [4465] يُنظَر: ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (3/273). !
- قال المدائنيُّ: (كان سالِمُ بنُ عبدِ اللهِ يستخِفُّ أشعَبَ، ويمازِحُه ويَضحَكُ منه كثيرًا، ويحسِنُ إليه. فقال له ذاتَ يومٍ: أخبِرْني عن طمَعِك يا أشعَبُ. فقال: نعَمْ، قُلتُ لصِبيانٍ مجتَمِعين: إنَّ سالـمًا قد فتح بابَ صَدَقةِ عُمَرَ، فامضوا إليه حتَّى يُطعِمَكم تمرًا، فمَضَوا. فلمَّا غابوا عن بصري وقَع في نفسي أنَّ الذي قُلتُ لهم حَقٌّ، فتَبِعتُهم [4466] رواه الأنباري في ((الزاهر في معاني كلمات الناس)) (2/217). !
- وقال أيضًا: مرَّ أشعَبُ برجُلٍ يعمَلُ زَبيلًا [4467] الزَّبيلُ: الجِرابُ، وقيل: الوِعاءُ يُحمَلُ فيه. ((لسان العرب)) لابن منظور (11/300). ، فقال له: أُحِبُّ أن توسِعَه، قال: لمَ ذاك؟ قال: لعَلَّ الذي يشتريه منك يُهدي إليَّ فيه شيئًا [4468] رواه الأنباري في ((الزاهر في معاني كلمات الناس)) (2/217). !
- وقال بعضُ الرُّواةِ: قيل لأشعَبَ: ما بلَغَ من طَمَعِك؟ قال: ما تناجى اثنانِ قطُّ إلَّا ظننتُ أنَّهما يأمُرانِ لي بشَيءٍ [4469] رواه الأنباري في ((الزاهر في معاني كلمات الناس)) (2/217). !
- وقال أيضًا: (تعلَّق أشعَبُ بأستارِ الكعبةِ، وسأل اللهَ أن يخرِجَ الحِرصَ مِن قَلبِه. فلمَّا انصرَف مرَّ بمجالِسِ قُريشٍ، فسألهم، فما أعطاه أحدٌ منهم شيئًا. فرجع إلى أمِّه، فقالت له: يا بُنَيَّ كيف جِئْتَني خائبًا. فقال: إنِّي سألتُ اللهَ أن يخرِجَ الِحرصَ من قلبي، فقالت: ارجِعْ يا بُنَيَّ، فاستَقِلْه ذاك! قال أشعَبُ: فرجَعْتُ، فتعَلَّقتُ بأستارِ الكعبةِ وقُلتُ: يا رَبِّ، كُنتُ سألتُك أن تخرِجَ الطَّمَعَ من قلبي، فأقِلْني! ثمَّ مررتُ بمجالِسِ قُرَيشٍ فسألتُهم فأعطوني. ووهَبَ لي رجُلٌ غُلامًا، فجِئتُ إلى أمِّي بحِمارٍ مُوقَرٍ من كُلِّ شيءٍ، وبغُلامٍ، فقالت لي: ما هذا الغلامُ؟ فأشفَقْتُ من أن أقولَ: وُهِب لي، فتموتَ فرَحًا، فقُلتُ: غَينٌ. فقالت: وما غينٌ؟ قلتُ: لامٌ. قالت: وما لامٌ؟ قلتُ: ألفٌ. قالت: وما ألِفٌ؟ قلتُ: ميمٌ. قالت: وما ميمٌ؟ قلتُ: وُهِب لي غلامٌ! فغُشِيَ عليها من الفَرَحِ، ولو لم أُقَطِّعِ الحروفَ لماتت!) [4470] رواه الأنباري في ((الزاهر في معاني كلمات الناس)) (2/217). .
- ويُقالُ: كان ثلاثةُ نَفَرٍ في العَرَبِ في عَصرٍ واحدٍ: أحَدُهم آيةٌ في السَّخاءِ، وهو حاتمٌ الطَّائيُّ، والثَّاني آيةٌ في البُخلِ، وهو أبو حُباحِبٍ، والثَّالِثُ آيةٌ في الطَّمَعِ، وهو أشعَبُ، كان طمَّاعًا، وكان من طَمَعِه إذا ... رأى إنسانًا يحُكُّ عُنُقَه، فيَظُنُّ أنَّه يَنزِعُ القميصَ ليدفَعَه إليه [4471] يُنظَر: ((بحر العلوم)) للسمرقندي (3/609). !

انظر أيضا: