موسوعة الأخلاق والسلوك

تاسعًا: مَسائِلُ مُتفَرِّقةٌ


- قال ابنُ القَيِّمِ: (الغَيرةُ لها حَدٌّ إذا جاوَزْتَه صارت تُهمةً وظَنًّا سَيِّئًا بالبريءِ، وإن قَصُرَت عنه كانت تغافُلًا ومبادِئَ دِياثةٍ... وضابِطُ هذا العَدلُ، وهو الأخذُ بالوَسَطِ الموضوعِ بَيْنَ طرَفَيِ الإفراطِ والتَّفريطِ، وعليه بناءُ مصالحِ الدُّنيا والآخِرةِ) [3388] ((الفوائد)) (ص: 141) بتصرُّفٍ. .
- قال ابنُ تَيميَّةَ: (قد نهانا اللَّهُ عزَّ وجَلَّ أن تأخُذَنا بالزُّناةِ رأفةٌ، بل نُقيمُ عليهم الحَدَّ، فكيف بما هو دونَ ذلك مِن هَجرٍ وأدَبٍ باطِنٍ، ونهيٍ وتوبيخٍ وغيرِ ذلك؟! ... وبهذا يتبيَّنُ لك أنَّ العُقوباتِ الشَّرعيَّةَ كُلَّها أدويةٌ نافعةٌ يُصلِحُ اللَّهُ بها مَرَضَ القُلوبِ، وهي من رحمةِ اللَّهِ بعبادِه ورأفتِه بهم الدَّاخِلةِ في قولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107] ؛ فمَن تَرَك هذه الرَّحمةَ النَّافعةَ لرأفةٍ يجِدُها بالمريضِ فهو الذي أعان على عذابِه وهلاكِه، وإن كان لا يريدُ إلَّا الخيرَ؛ إذ هو في ذلك جاهِلٌ أحمَقُ، كما يفعَلُه بعضُ النِّساءِ والرِّجالِ الجُهَّالِ بمَرْضاهم وبمن يُرَبُّونه من أولادِهم وغِلمانِهم وغيرِهم، في تَركِ تأديبِهم وعقوبتِهم على ما يأتونَه من الشَّرِّ ويتركونَه من الخيرِ؛ رأفةً بهم؛ فيكونَ ذلك سبَبَ فسادِهم وعداوتِهم وهلاكِهم. ومِن النَّاسِ مَن تأخُذُه الرَّأفةُ بهم لمُشاركتِه لهم في ذلك المرضِ، وذَوقِه ما ذاقوه من قوَّةِ الشَّهوةِ وبرودةِ القَلبِ والدِّياثةِ؛ فيَترُكُ ما أمَر اللَّهُ به من العُقوبةِ، وهو في ذلك من أظلَمِ النَّاسِ وأديَثِهم في حَقِّ نفسِه ونُظَرائِه ... ومنهم من تأخُذُه الرَّأفةُ؛ لكَونِ أحَدِ الزَّانيَينِ محبوبًا له ... فمَن لم يكُنْ مُبغِضًا للفواحِشِ كارِهًا لها ولأهلِها، ولا يَغضَبُ عِندَ رؤيتِها وسماعِها لم يكُنْ مريدًا للعقوبةِ عليها ... الرَّأفةُ والرَّحمةُ يحِبُّهما اللَّهُ ما لم تكُنْ مَضيعةٌ لدينِ اللَّهِ) [3389] يُنظَر: ((مجموع الفتاوى)) (15/ 289 - 291). .
وقال أيضًا: (قولُه تعالى: وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور: 2] الآية: نهى تعالى عمَّا يأمُرُ به الشَّيطانُ في العُقوباتِ عُمومًا وفي أمرِ الفواحِشِ خُصوصًا؛ فإنَّ هذا البابَ مَبناه على المحبَّةِ والشَّهوةِ والرَّأفةِ التي يُزَيِّنُها الشَّيطانُ بانعِطافِ القُلوبِ على أهلِ الفواحِشِ والرَّأفةِ بهم، حتى يدخُلَ كثيرٌ من النَّاسِ بسَبَبِ هذه الآفةِ في الدِّياثةِ وقِلَّةِ الغَيرةِ إذا رأى من يهوى بعضَ المتَّصِلين به أو يعاشِرُه عِشرةً مُنكَرةً، أو رأى له محبَّةً أو ميلًا وصبابةً وعِشقًا، ولو كان ولَدُه رَأَف به وظَنَّ أنَّ هذا من رحمةِ الخَلقِ ولينِ الجانِبِ بهم ومكارِمِ الأخلاقِ! وإنَّما ذلك دِياثةٌ ومهانةٌ وعَدَمُ دِينٍ وضَعفُ إيمانٍ، وإعانةٌ على الإثمِ والعُدوانِ، وتَركٌ للتَّناهي عن الفحشاءِ والمُنكَرِ. وتدخُلُ النَّفسُ به في القيادةِ التي هي أعظَمُ الدِّياثةِ كما دخَلَت عَجوزُ السُّوءِ مع قومِها في استِحسانِ ما كانوا يتعاطَونَه من إتيانِ الذُّكرانِ والمعاونةِ لهم على ذلك، وكانت في الظَّاهِرِ مُسلِمةً على دينِ زَوجِها لُوطٍ، وفي الباطِنِ مُنافِقةً على دينِ قَومِها، لا تَقْلي عَمَلَهم كما قَلاه لوطٌ؛ فإنَّه أنكَرَه ونهاهم عنه وأبغَضَه، وكما فَعَل النِّسوةُ اللَّواتي بمِصرَ مع يوسُفَ؛ فإنَّهن أعَنَّ امرأةَ العزيزِ على ما دعَتْه إليه من فِعلِ الفاحِشةِ معها؛ ولهذا قال: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف: 33] ، وذلك بعد قولِهنَّ: إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [يوسف: 30] ) [3390] يُنظَر: ((مجموع الفتاوى)) (15/ 287، 288). .
- قال الذَّهَبيُّ: (إن كان الجارُ دَيُّوثًا أو قليلَ الغَيرةِ أو حريمُه على غيرِ الطَّريقِ المُستقيمِ، فتَحَوَّلْ عنه، أو فاجهَدْ ألَّا تُوادِدَنَّ زَوجتُك زَوجتَه؛ فإنَّ في ذلك فسادًا كبيرًا، وخَفْ على نفسِك المسكينةِ، ولا تدخُلْ مَنزِلَه، واقطَعِ الوُدَّ بكُلِّ ممكِنٍ. وإنْ لم تقبَلْ منِّي ربَّما حصَل لك هوًى وطَمَعٌ، وغُلِبتَ عن نفسِك أو عن ابنِك أو خادِمِك أو أختِك، وإن ألزَمْتَهم بالتَّحوُّلِ عن جوارِك فافعَلْ بلُطفٍ وبرَغبةٍ وبرَهبةٍ) [3391] ((حق الجار)) (ص: 138). .
- قيل: الرِّجالُ أغيَرُ على البناتِ مِن النِّساءِ، فلا تستوي غَيرةُ الرَّجُلِ على ابنتِه وغَيرةُ الأمِّ أبدًا، وكم من أمٍّ تساعِدُ ابنَتَها على ما تهواه! ويحمِلُها على ذلك ضَعفُ عَقلِها، وسُرعةُ انخِداعِها، وضَعفُ داعي الغَيرةِ في طَبعِها، بخِلافِ الأبِ؛ ولهذا المعنى وغيرِه جَعَل الشَّارِعُ تزويجَها إلى أبيها دونَ أمِّها [3392] ((زاد المعاد في هدي خير العباد)) لابن القيم (5/ 423). .
- ذكَرَ بعضُ العُلَماءِ مِن حِكَمِ تحريمِ لَحمِ الخِنزيرِ أنَّ الغِذاءَ يصيرُ جُزءًا من جوهَرِ المتغَذِّي ولا بدَّ أن يحصُلَ للمُتغَذِّي أخلاقٌ وصِفاتٌ من جِنسِ ما كان حاصِلًا في الغذاءِ، والِخنزيرُ مطبوعٌ على حِرصٍ عظيمٍ ورَغبةٍ شديدةٍ في المنهيَّاتِ، فحَرُم أكلُه على الإنسانِ لئلَّا يتكَيَّفَ بتلك الكيفيَّةِ؛ ولذلك فالفِرِنجُ لَمَّا واظبوا على أكلِ لحمِ الخِنزيرِ أورَثَهم الحِرصَ العظيمَ والرَّغبةَ الشَّديدةَ في المنهيَّاتِ، وأورَثَهم عَدَمَ الغَيرةِ؛ فإنَّ الخِنزيرَ يرى الذَّكرَ من الخنازيرِ يَنْزو على الأُنثى التي له، ولا يتعَرَّضُ له؛ لعَدَمِ الغَيرةِ [3393] ((السراج المنير)) للشربيني (1/ 281). .
- ومن الدِّياثة في الجاهليَّةِ ما ورد عن عُروةَ بنِ الزُّبَيرِ، أنَّ عائشةَ، زوجَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَتْه: (أنَّ النِّكاحَ في الجاهِليَّةِ كان على أربَعةِ أنحاءٍ:
الأوَّلُ منها: نِكاحُ النَّاسِ اليَومَ، يَخطُبُ الرَّجُلُ إلى الرَّجُلِ ولَيَّتَه أوِ ابنَتَهُ، فيُصدِقُها ثُمَّ يَنكِحُها. والثَّاني: نِكاحُ الاستِبضاعِ، كالرَّجُلِ يَقولُ لامرَأتِه إذا طَهُرَتْ من طَمثِها: أرسِلي إلى فُلانٍ فاستَبضِعي منه، ويَعتَزِلُها زَوجُها ولا يَمَسُّها أبَدًا حَتَّى يَبِينَ حَملُها من ذلك الرَّجُلِ الذي يُستَبضَعُ منه، فإذا تَبَيَّنَ حَملُها أصابَها زَوجُها إذا أحَبَّ، وإنَّما يُفعَلُ ذلك رَغبةً في نَجابةِ الوَلَدِ! فكان هذا نِكاحَ الاستِبضاعِ.
والثَّالِثُ: أن يَجتَمِعَ الرَّهطُ ما دونَ العَشَرةِ، يَدخُلونَ على المَرأةِ، كُلُّهم يُصيبُها، فإذا حَمَلتْ ووَضَعتْ ومَرَّت ليالٍ بَعدَ أن تَضَعَ حَملَها أرسَلَت إليهم، فلم يَستَطِعْ منهم رَجُلٌ أن يَمتَنِعَ حَتَّى يَجتَمِعوا عِندَها، تَقولُ: قد عَرَفتُمُ الذي كان من أمرِكم، وقد ولَدْتُ، فهو ابنُك يا فلانُ، فتُسَمِّي من أحَبَّت باسمِه، فيَلحَقُ به ولَدُها، فلا يَستَطيعُ أن يَمتَنِعَ منه الرَّجُلُ.
الرَّابعُ: أن يَجتَمِعَ النَّاسُ الكَثيرونَ فيَدخُلونَ على المَرأةِ لا تَمنَعُ من جاءَها، وهُنَّ البَغايا، كُنَّ يَنصِبْنَ على أبوابِهنَّ راياتٍ تكونُ عَلَمًا، فمَن أرادَهنَّ دَخلَ عليهِنَّ، فإذا حَمَلتَ إحداهنَّ ووَضَعتْ حَملَها جَمَعوا لها، ودَعوا لها القافةَ، ثُمَّ ألحَقوا ولَدَها بالذي يَرونَ، فالتاطَ به، ودُعِيَ ابنَه، لا يَمتَنِعُ من ذلك، فلَمَّا بَعثَ اللَّهُ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالحَقِّ هدَمَ نِكاحَ الجاهِليَّةِ كُلَّه إلَّا نِكاحَ النَّاسِ اليَومَ) [3394] أخرجه البخاري (5127). .
- قال ابنُ تَيميَّةَ: (لم يوجَدْ مَن هو دَيُّوثٌ أو قوَّادٌ يَعِفُّ عن الزِّنا؛ فإنَّ الزِّنا له شَهوةٌ في نفسِه، والدَّيُّوثُ له شهوةٌ في زِنا غيرِه، فإذا لم يكُنْ معه إيمانٌ يَكرَهُ من زوجتِه ذلك، كيف يكونُ معه إيمانٌ يمنَعُه من الزِّنا؟! فمَن استحَلَّ أن يَترُكَ امرأتَه تزني استحَلَّ أعظَمَ الزِّنا، ومن أعان على ذلك فهو كالزَّاني، ومن أقَرَّ عليه مع إمكانِ تغييرِه فقد رَضِيَه، ومَن تزَوَّجَ غيرَ تائبةٍ فقد رَضِيَ أن تزنيَ؛ إذ لا يمكِنُه مَنْعُها؛ فإنَّ كَيدَهنَّ عظيمٌ) [3395] ((مجموع الفتاوى)) (15/ 320). .
- وكان عُبادةُ مُجبرًا فناظَرَه الزِّياديُّ عِندَ المتوكِّلِ، فقال: أترضى بقضاءِ اللَّهِ، قال: نعم، قال: إن دخَلْتَ دارَك ورأيتَ رَجُلًا مع امرأتِك، أليس ذلك بقضاءِ اللَّهِ؟ قال: ما عندي جوابٌ! فإنِّي إن قُلتُ: رَضِيتُ، أكونُ دَيُّوثًا، وإن قُلتُ: لم أرْضَ، أكونُ قَدَريًّا! فسَقَط المتوكِّلُ ضَحِكًا [3396] ((محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء)) للراغب (2/ 440). .
- وقال أبو منصورٍ الثَّعالبيُّ: (إذا كان الرَّجُلُ يُغضي على ما يسمَعُ مِن هَناتِ أهلِه فهو دَيُّوثٌ. فإذا كان يُغضي على ما يرى منها فهو قُنذُعٌ. فإذا زادت غَفلتُه وعَدِمَت غيرتُه فهو طَسِيعٌ وطَزِيعٌ... فإذا كان يتغافَلُ عن فُجورِ امرأتِه فهو مَغلوثٌ، فإذا تغافَلَ عن فُجورِ أختِه فهو مَرْموثٌ) [3397] ((فقه اللغة وسر العربية)) (1 / 234). .

انظر أيضا: