موسوعة الأخلاق والسلوك

رابعًا: صُوَرُ الجَفاءِ


1- جفاءُ الإنسانِ رَبَّه: وهو مَولاه والمطَّلِعُ عليه، ويُحَدِّثُنا ابنُ القَيِّمِ عن هذا النَّوعِ من أنواعِ الجَفاءِ، فيقولُ: أمَّا قَولُه: (والصَّبرُ عن اللهِ جَفاءٌ)، فلا جفاءَ أعظَمُ ممَّن صَبَر عن معبودِه وإلهِه ومولاه، الذي لا مولى له سِواه، ولا حياةَ له ولا صلاحَ ولا نعيمَ إلَّا بمحبَّتِه والقُربِ منه، وإيثارِ مَرضاتِه على كُلِّ شيءٍ، فأيُّ جفاءٍ أعظَمُ من الصَّبرِ عنه؟!) [2541] ((عدة الصابرين)) (1/50). .
وقال بعضُ الحُكَماءِ: لا تَجْفُ رَبَّك... أمَّا الجَفاءُ برَبِّك: فأن تشتَغِلَ بخِدمةِ غيرِه من المخلوقينَ [2542] ((تنبيه الغافلين)) للسمرقندي (ص: 371). .
2- جفاءُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومن ذلك: أنَّه لا يُصَلِّي عليه إذا ذُكِر عِندَه؛ عن أبي هُرَيرةَ قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((رَغِمَ أنفُ [2543] رَغِمَ: أي: لَصِق بالتُّرابِ، وهو كنايةٌ عن حُصولِ غايةِ الذُّلِّ والهوانِ. يُنظَر: ((التنوير شرح الجامع الصغير)) للصنعاني (6/ 259). رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِندَه فلم يُصَلِّ عَلَيَّ)) [2544] رواه الترمذي (3545)، وأحمد (7451) مطوَّلًا. صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (908)، وابن حجر كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (3/319)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3545)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (7451). وقال الترمذي: حَسَنٌ غريبٌ. .
3- جفاءُ الوالِدَين بالتَّأفُّفِ وغِلَظِ القَولِ لهما، أو قَطْعِهما ونحوِه: وهذا من أعظَمِ الجَفاءِ وأشَدِّه، بل هو العُقوقُ بعينِه؛ إذ كيف يجفو المرءُ مَن كانا سببًا في وُجودِه، ومَن تَعِبَا على تربيتِه، وبَذَلا جُهدَهما من أجْلِ راحتِه؟!
بل عَدَّ السَّلَفُ مُناداةَ الرَّجُلِ لوالِدِه باسمِه مجرَّدًا: من الجَفاءِ؛ قال طاوُسٌ: (من الجَفاءِ أن يدعوَ الرَّجُلُ والِدَه باسمِه) [2545] رواه عبد الرزاق (20133)، والبيهقي في ((المدخل إلى السنن الكبرى)) (ص: 382) مطوَّلًا، والخطيب في ((الفقيه والمتفقه)) (2/380). . فكيف بمن يعامِلُهما بما هو أشَدُّ من ذلك سُوءًا؟!
4- ومِن صُوَرِ الجَفاءِ المتفَشِّيةِ في المجتَمَعِ: جفاءُ الرَّجُلِ زوجَتَه وأبناءَه، وذلك من أعظَمِ أسبابِ الفِراقِ وتفَكُّكِ الأُسَرِ، فتَجِدُه إذا دخل بيتَه تغَيَّرَت صورتُه، وعلا صوتُه، فنَهَر هذا، وضَرَب ذاك، وربَّما يكونُ ذلك بدونِ سَبَبٍ أو مبَرِّرٍ، فيتحوَّلُ البيتُ مِن سَكَنٍ إلى جحيمٍ، ومن طُمأنينةٍ إلى قَلَقٍ وإزعاجٍ، وكُلُّ ذلك بسبَبِ جفاءِ الرَّجُلِ وقَسوةِ طَبعِه. يقولُ ابنُ سَعديٍّ: (وكذلك رحمةُ الأطفالِ الصِّغارِ، والرِّقَّةُ عليهم، وإدخالُ السُّرورِ عليهم: من الرَّحمةِ، وأمَّا عَدَمُ المبالاةِ بهم وعَدَمُ الرِّقَّةِ عليهم فمِن الجَفاءِ والغِلظةِ والقَسوةِ، كما قال بعضُ جُفاةِ الأعرابِ حينَ رأى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابَه يُقَبِّلون أولادَهم الصِّغارَ، فقال ذلك الأعرابيُّ: إنَّ لي عَشرةً من الوَلَدِ ما قبَّلتُ واحِدًا منهم! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أَوَأملِكُ لك أن نَزَع اللهُ مِن قَلبِك الرَّحمةَ؟!)) [2546] رواه مطوَّلًا البخاري (5998) واللفظ له، ومسلم (2317) من حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. ) [2547] ((بهجة قلوب الأبرار)) (189، 190). .
وقال ابنُ عُثَيمين: (أمَّا ما يفعَلُه بعضُ النَّاسِ من الجَفاءِ والغِلظةِ بالنِّسبةِ للصِّبيانِ، فتَجِدُه لا يمكِّنُ صَبيَّه من أن يَحضُرَ على مجلِسِه، ولا أن يمكِّنَ صبيَّه من أن يَطلُبَ منه شيئًا، وإذا رآه عِندَ الرِّجالِ انتَهَره، فهذا خِلافُ السُّنَّةِ، وخِلافُ الرَّحمةِ) [2548] ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/551، 552). .
5- ومن الصُّوَرِ كذلك: جفاءُ الصَّديقِ لأيِّ سَبَبٍ من الأسبابِ؛ فرُبَّما يجفو صديقَه كِبرًا وتِيهًا، وربَّما يجفوه لمُشكلةٍ لا تحتَمِلُ الجَفاءَ، ورُبَّما لوِشايةٍ سَمِعَها عنه، أو خبَرٍ نمى إليه أو غيرِ ذلك.
6- ومن الجَفاءِ كذلك: الجَفاءُ الشَّديدُ مع النَّاسِ في معاملتِهم والحديثِ معهم؛ فمِن النَّاسِ من يَظُنُّ أنَّه لا يُفهِمُ حتَّى يَعلوَ صوتُه، ويُقَطِّبَ جَبينَه، فتراه غليظًا وَقِحًا فَظًّا فَجًّا، يخشاه النَّاسُ، ويتجَنَّبونَه مخافةَ لسانِه السَّليطِ، وطَبعِه القاسي.
وأدْهى من ذلك وأَمَرُّ: جفوةُ المُنتَسِبين إلى الدِّينِ عُمومًا، والدُّعاةِ إلى اللهِ خُصوصًا؛ فإنَّ بعضَهم يَظُنُّ أنَّ هذه الجَفوةَ من الدِّينِ، وأنَّها تكسو الدَّاعيةَ وَقارًا وهَيبةً! وقد أخطأ، بل إن لها أثَرًا سَيِّئًا؛ فهي تُنَفِّرُ النَّاسَ عن دينِ اللهِ؛ لذا امتنَّ اللهُ على رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن جعَلَه رقيقَ الطَّبعِ، طَيِّبَ القَلبِ، ولم يجعَلْه فَظًّا ولا غليظًا؛ قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159] .
قال ابنُ حزمٍ: (الائتِساءُ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في وَعظِه أهلَ الجَهلِ والمعاصي والرَّذائِلِ: واجبٌ؛ فمَن وَعَظ بالجَفاءِ والاكفِهرارِ فقد أخطَأَ وتعَدَّى طريقتَه، وصار في أكثَرِ الأمورِ مُغريًا للمَوعوظِ بالتَّمادي على أمرِه لَجاجًا وحَرَدًا ومُغايَظةً للواعِظِ الجافي، فيكونُ في وَعظِه مسيئًا لا محسِنًا. ومَن وَعَظ ببِشرٍ وتبسُّمٍ ولِينٍ، وكأنَّه مشيرٌ برأيٍ ومُخبِرٌ عن غيرِ الموعوظِ بما يُستقبَحُ من الموعوظِ، فذلك أبلَغُ وأنجَعُ في الموعِظةِ، فإن لم يتقَبَّلْ فلينتَقِلْ إلى الوَعظِ بالتَّحشيمِ وفي الخلاءِ، فإن لم يَقبَلْ ففي حَضرةِ مَن يستحيي منه الموعوظُ؛ فهذا أدَبُ اللهِ تعالى في أمرِه بالقولِ اللَّيِّنِ. وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يواجِهُ بالموعِظةِ، لكِنْ كان يقولُ: ((ما بالُ أقوامٍ يَفعَلون كذا)) [2549] من ذلك قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما بالُ أقوامٍ يَشتَرِطون شروطًا ليست في كتابِ اللهِ؟!)). أخرجه البخاري (2735)، ومسلم (1504). وقَولُه: ((ما بالُ أقوامٍ يرفعون أبصارَهم إلى السَّماءِ في صلاتِهم؟!)). أخرجه البخاري (750).  وقَولُه: ((ما بالُ أقوامٍ قالوا كذا وكذا؟!)). أخرجه مسلم (1401). . وقد أثنى عليه السَّلامُ على الرِّفقِ، وأمَر بالتَّيسيرِ، ونهى عن التَّنفيرِ، وكان يتخَوَّلُ بالموعظةِ خَوفَ المَلَلِ. وقال تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159] ، وأمَّا الغِلظةُ والشِّدَّةُ فإنَّما تجِبُ في حَدٍّ من حدودِ اللهِ، فلا لِينَ في ذلك للقادِرِ على إقامةِ الحَدِّ خاصَّةً) [2550] ((رسائل ابن حزم)) (1/ 383، 384). .
7 - ومِن صُوَرِ الجَفاءِ: جفاءُ طُلَّابِ العِلمِ، سواءٌ كان الجَفاءُ بَيْنَ طلَبةِ العِلمِ أو جفاءَ المعَلِّمِ أو الشَّيخِ لهم، وهذا على خِلافِ الأخلاقِ المطلوبةِ من الشَّيخِ والمعَلِّمِ، التي حكاها الآجُرِّيُّ بقولِه: (فأمَّا أخلاقُه مع مجالِسيه: فصَبورٌ على من كان ذِهنُه بطيئًا عن الفَهمِ حتَّى يَفهَمَ عنه، صبورٌ على جفاءِ مَن جَهِل عليه حتى يَرُدَّه بحِلمٍ، يؤدِّبُ جُلَساءَه بأحسَنِ ما يكونُ من الأدَبِ، لا يَدَعُهم يخوضون فيما لا يَعنيهم، ويأمُرُهم بالإنصاتِ مع الاستِماعِ إلى ما ينطِقُ به من العِلمِ، فإن تخطَّى أحَدُهم إلى خُلُقٍ لا يَحسُنُ بأهلِ العِلمِ لم يَجْبَهْه [2551] جَبَه الرَّجُلَ يَجْبَهُه جَبْهًا: رَدَّه عن حاجتِه واستقبَلَه بما يَكرَهُ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (13/483). في وَجْهِه على جِهةِ التَّبكيتِ له، ولكِنْ يقولُ: لا يحسُنُ بأهلِ العِلمِ والأدَبِ كذا وكذا، وينبغي لأهلِ العِلمِ أن يتجافَوا عن كذا وكذا؛ فيكونُ الفاعِلُ لخُلُقٍ لا يَحسُنُ قد عَلِم أنَّه المرادُ بهذا، فيُبادِرُ برِفقِه به، إن سأله منهم سائلٌ عمَّا لا يعنيه ردَّه عنه، وأمرَه أن يسألَ عمَّا يَعْنيه، فإذا عَلِم أنَّهم فُقَراءُ إلى عِلمٍ قد غَفَلوا عنه، أبداه إليهم، وأعلَمَهم شِدَّةَ فَقرِهم إليه، لا يُعَنِّفُ السَّائِلَ بالتَّوبيخِ القبيحِ فيُخجِلَه، ولا يَزجُرُه فيَضَعَ مِن قَدْرِه، ولكِنْ يَبسُطُه في المسألةِ ليَجبُرَه فيها، قد عَلِم بُغيَتَه عمَّا يَعْنيه، ويحُثُّه على طَلَبِ عِلمِ الواجباتِ؛ مِن عِلمِ أداءِ فرائِضِه، واجتنابِ محارِمِه. يُقبِلُ على مَن يَعلَمُ أنَّه محتاجٌ إلى عِلمِ ما يَسأَلُ عنه، ويَترُكُ مَن يَعلَمُ أنَّه يريدُ الجَدَلَ والمِراءَ، يُقَرِّبُ عليهم ما يخافون بُعدَه بالحِكمةِ والموعِظةِ الحَسَنةِ، يَسكُتُ عن الجاهِلِ حِلمًا، ويَنشُرُ الحِكمةَ نُصحًا؛ فهذه أخلاقُه لأهلِ مَجلِسِه، وما شاكَلَ هذه الأخلاقَ) [2552] ((أخلاق العلماء)) (1/52). .
أمَّا الجَفاءُ بَيْنَهم فقد يحصُلُ بَيْنَ طُلَّابِ العِلمِ من الجَفوةِ ما يَصِلُ إلى حَدٍّ لا يُحمَدُ، وقد يكونُ سَبَبُه التَّنافُسَ المذمومَ، الذي قد يَصِلُ بهم إلى دَرَجةِ التَّقاطُعِ والتَّهاجُرِ، والحديثِ في بَعضِهم البَعضِ، وقد يكونُ سَبَبُه حَسَدَ بَعضِهم لبعضٍ، واللهُ المستعانُ.
8 - جفاءُ مَن أحسَنوا إليك، وأعانوك عِندَ حاجتِك.
9- ومِن صُوَرِ الجَفاءِ ما (رُوِيَ عن سُفيانَ الثَّوريِّ أنَّه قال: عَشَرةُ أشياءَ من الجَفاءِ:
أوَّلُها: رجلٌ أو امرأةٌ يدعو لنَفسِه ولا يدعو لوالِدَيه والمُؤمِنين.
والثَّاني: رَجُلٌ يقرَأُ القُرآنَ، ولا يقرَأُ في كُلِّ يومٍ مائةَ آيةٍ.
والثَّالِثُ: رَجُلٌ دَخَل المسجِدَ وخَرَج ولم يُصَلِّ ركعتينِ.
والرَّابعُ: رجُلٌ يمُرُّ على المقابِرِ ولم يُسَلِّمْ عليهم ولم يَدْعُ لهم.
والخامِسُ: رَجُلٌ دَخَل مدينةً في يومِ الجُمُعةِ، ثمَّ خَرَج ولم يُصَلِّ الجُمُعةَ.
والسَّادِسُ: رَجُلٌ أو امرأةٌ نَزَل في محلَّتِهما عالِمٌ، ولم يذهَبْ إليه أحَدٌ ليتعلَّمَ منه شيئًا من العِلمِ.
والسَّابعُ: رجُلانِ ترافَقا ولم يسأَلْ أحَدُهما عن اسمِ صاحِبِه.
والثَّامِنُ: رَجُلٌ دعاه رجلٌ إلى ضيافةٍ، فلم يَذهَبْ إلى الضِّيافةِ.
والتَّاسِعُ: شابٌّ يُضيعُ شبابَه وهو فارِغٌ، ولم يَطلُبِ العِلمَ والأدَبَ.
والعاشِرُ: رَجُلٌ شَبْعانُ وجارُه جائعٌ، ولا يُعطيه شيئًا من طعامِه) [2553] ((تنبيه الغافلين)) للسمرقندي (ص: 144). .
- ومِن صُوَرِ الجَفاءِ ما رُوِيَ عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ قال: (أربَعةٌ تُعَدُّ من الجَفاءِ: دُخولُ الرَّجُلِ المسجِدَ يُصَلِّي في مُؤَخَّرِه ويَدَعُ أن يتقَدَّمَ في مُقَدَّمِه، ويمُرُّ الرَّجُلُ بَيْنَ يَدَيِ الرَّجُلِ وهو يصَلِّي، ومَسحُ الرَّجُلِ جَبهَتَه قبل أن يقضِيَ صلاتَه، ومؤاكَلةُ الرَّجلِ مع غيرِ أهلِ دينِه) [2554] رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (9380). .

انظر أيضا: