موسوعة الأخلاق والسلوك

رابعًا: آثارُ الثَّرثَرةِ


للثَّرثرةِ آثارٌ سَيِّئةٌ كثيرةٌ، نذكُرُ منها:
1- سوءُ المآلِ والمصيرِ؛ فإنَّه ‌من ‌كَثُر ‌كلامُه ‌كَثُر ‌سَقَطُه، ومَن كَثُر سَقَطُه كَثُرت ذُنوبُه، وفي كثرةِ الكلامِ مفاسِدُ لا تُحصى [2096] يُنظَر: ((شرح المصابيح)) لابن الملك (1/ 66). .
2- الثَّرثَرةُ تُحيلُ الصَّوابَ إلى خطَأٍ؛ فإنَّ ما جاوز حدَّه جاوَر ضِدَّه. وقد تكلَّم رجُلٌ عِندَ معاويةَ فهَذَرَ [2097] أي: هَذَى، والهَذَرُ: الهَذَيانُ. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (5/ 256). ، فلمَّا أطال قال: أأسكُتُ يا أميرَ المُؤمِنين؟ قال: وهل تكَلَّمْتَ [2098] يُنظَر: ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (2/ 190). ؟!
وقد قيل: الكلامُ إذا طال اختَلَّ، وإذا اختَلَّ اعتَلَّ [2099] يُنظَر: ((محاضرات الأدباء)) للراغب (1/ 81). . وقالوا: العِثارُ [2100] العَثْرَةُ الزَّلَّةُ. وقد عَثَرَ في ثوبِه يَعْثُرُ عِثارًا. يقالُ: عَثَرَ به فَرَسُه فسَقَط. وعَثَر: كَبَا. يُنظَر: ((مختار الصحاح)) لزين الدين الرازي (ص: 200)، ((لسان العرب)) لابن منظور (4/ 539). مع الإكثارِ [2101] يُنظَر: ((غرر الخصائص الواضحة)) للوطواط (ص: 230). .
3- الثَّرثَرة مَدعاةٌ للسَّآمةِ وسُوءِ الاستِماعِ، وقد قيل: خَيرُ الكلامِ ما قَلَّ ودَلَّ، ولم يَطُلْ فيُمَلَّ [2102] يُنظَر: ((محاضرات الأدباء)) للراغب (1/ 81). .
4- الثَّرثَرةُ تنادي على صاحبِها بعَدَمِ الحِكمةِ. قال مصطفى صادِق الرَّافِعيُّ: (الرَّأسُ الفارِغُ من الحِكمةِ لا يوازِنُه في صاحِبِه إلَّا فمٌ ممتلِئٌ من الثَّرثَرةِ) [2103] ((كلمة وكليمة)) (ص: 42). ، وقال أيضًا: (أربعةُ آلافِ كَلِمةٍ في الثَّرثَرةِ أقَلُّ مِن أربَعِ كَلِماتٍ في الحِكمةِ!) [2104] ((كلمة وكليمة)) (ص: 17). .
5- الوقوعُ في الغِيبةِ والنَّميمةِ، وهما من كبائِرِ الذُّنوبِ [2105] يُنظَر: ((الزواجر)) للهيتمي (2/ 8، 34). ، وفي القرآنِ الكريمِ ما يدُلُّ على ذلك؛ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات: 12] ، وفي السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أتدرون ما الغِيبةُ؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: ذِكْرُك أخاك بما يَكرَهُ، قيل: أفرأَيتَ إن كان في أخي ما أقولُ؟ قال: إن كان فيه ما تقولُ فقد اغتَبْتَه، وإنْ لم يكُنْ فيه فقد بهَتَّه)) [2106] أخرجه مسلم (2589). ، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أيضًا: ((لا ‌يدخُلُ ‌الجنَّةَ ‌َقَتَّاتٌ)) [2107] أخرجه البخاري (6056)، ومسلم (105) من حديثِ حُذيفةَ بنِ اليمانِ رَضِيَ اللهُ عنهما. أي: ‌نمَّامٌ.
6- إفشاءُ أسرارِ النَّاسِ:
الثَّرثارُ ليس أمينًا على أسرارِ النَّاسِ، فلا يَهدَأُ له بالٌ إن عَلِم بأمرٍ ما أو رأى شيئًا في بيتٍ أثناءَ زيارتِه، أو سَمِعه أو حتَّى تسَمَّعَ إليه، إلَّا أن يُذيعَه ويتحَدَّثَ به، وقد نهى اللهُ عن ذلك، فقال: وَلَا تَجَسَّسُوا [الحجرات: 12] ، وقد حثَّ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على السَّترِ على المُسلِمين، فقال: ((ومَن ستَرَ مُسلِمًا ستَرَه اللهُ يومَ القيامةِ)) [2108] أخرجه البخاري (2442)، ومسلم (2580) مطوَّلًا من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. ، ومِنَ السَّترِ عَدَمُ إفشاءِ أسرارِ النَّاسِ.
7- نَشرُ الشَّائعاتِ التي تضُرُّ بالفَردِ والمجتَمَعِ:
فالثَّرثَرةُ مَدعاةٌ إلى نَشرِ الشَّائعاتِ، فينبغي للمرءِ إذا سمِع شيئًا ألَّا يُسهِمَ في نشرِه وإذاعتِه إلَّا بعدَ التَّأكُّدِ من صِحَّتِه؛ كي يبقى المجتمَعُ المُسلِمُ نقيًّا سليمًا طاهِرًا. وفي القرآنِ الكريمِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات: 6] .
8- ضياعُ العُمُرِ أو الوقتِ بما لا فائدةَ فيه؛ فالعُمُرُ كَنزٌ ثمينٌ ينبغي على المرءِ استغلالُه بما يعودُ عليه بالنَّفعِ، وهو مسؤولٌ عنه أمامَ اللهِ تعالى؛ قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((‌لا ‌تزولُ ‌َقَدَما ‌عبدٍ ‌يومَ ‌القيامةِ حتَّى يُسأَلَ عن عُمُرِه فيما أفناه ...)) [2109] أخرجه الترمذي (2417) واللفظ له، والدارمي (537)، وأبو يعلى (7434) مطوَّلًا من حديثِ أبي بَرْزةَ الأسلَميِّ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الترمذي، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (30/301)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2417)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سير أعلام النبلاء)) (9/316). .
9- الثَّرثَرةُ من أسبابِ دُخولِ جَهنَّمَ:
من أسبابِ دُخولِ جهنَّمَ -عياذًا باللَّهِ- أن يخوضَ الإنسانُ مع الخائِضين، ويُثرثِرَ بالباطِلِ؛ قال اللهُ تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر: 38 - 47] .
10- الثَّرثَرةُ من أسبابِ الحسرةِ يومَ القيامةِ:
من أعظَمِ أسبابِ الحَسرةِ يومَ القيامةِ أن يجلِسَ الإنسانُ مجلِسًا ثمَّ ينصَرِفَ منه ولم يَذكُرِ اللهَ تعالى فيه، ولو لم يكُنْ فيه شيءٌ من الكلامِ المحَرَّمِ، قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما من قومٍ جلَسوا مجلِسًا لم يذكُروا اللهَ فيه إلَّا رأوه حسرةً يومَ القيامةِ)) [2110] أخرجه أحمد (7093) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (11/ 663) وقال: على خَطَأٍ في تسميةِ صَحابيِّه، وصَحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (12/44)، وحسَّنه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (80). ، فكيف الحالُ إذا كان المجلِسُ كُلُّه خوضًا في الباطِلِ، أو وقوعًا في نميمةٍ أو غِيبةٍ؟!
11- الثَّرثَرةُ والخَوضُ بالباطِلِ صِفةٌ من صفاتِ المُنافِقين؛ قال اللهُ تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ[التوبة: 65] .
12- ويذكُرُ أبو طالِبٍ المكِّيُّ جملةً من آثارِ الثَّرثَرةِ وكَثرةِ الكلامِ، فيقولُ: (كثرةُ الكلامِ... فيه قِلَّةُ الوَرَعِ، وعَدَمُ التَّقوى، وطولُ الحِسابِ، وكثرةُ المطالِبين، وتعلُّقُ المظلومين، وكثرةُ الأشهادِ من الأملاكِ المكاتِبينَ، ودوامُ الإعراضِ من المَلكِ الكريمِ؛ لأنَّ الكلامَ مِفتاحُ كبائِرِ اللِّسانِ، فيه الكَذِبُ والغِيبةُ والنَّميمةُ والبُهتانُ، وفيه شهادةُ الزُّورِ، وفيه قَذفُ المُحصَنِ، والافتراءُ على اللهِ تعالى والإيمانِ، وفيه القولُ فيما لا يَعني، والخوضُ فيما لا ينفَعُ) [2111] ((قوت القلوب)) (1/ 175). .

انظر أيضا: