موسوعة الأخلاق والسلوك

تاسِعًا: مَسائِلُ مُتفَرِّقةٌ


1- ضوابِطُ في إفشاءِ الإنسانِ سِرَّه إلى غيرِه:
قال الماوَرْديُّ: (واعلَمْ أنَّ مِن الأسرارِ ما لا يُستغنى فيه عن مطالعةِ صَديقٍ مُساهِمٍ، واستشارةِ ناصِحٍ مُسالمٍ؛ فلْيَختَرِ العاقِلُ لسِرِّه أمينًا إن لم يجِدْ إلى كَتْمِه سبيلًا، ولْيَتحَرَّ في اختيارِ من يأتمِنُه عليه، ويستودِعُه إيَّاه؛ فليس كلُّ من كان على الأموالِ أمينًا كان على الأسرارِ مُؤتَمَنًا، والعِفَّةُ عن الأموالِ أيسَرُ من العِفَّةِ عن إذاعةِ الأسرارِ؛ لأنَّ الإنسانَ قد يُذيعُ سِرَّ نَفسِه ببادِرةِ لِسانِه، وسَقَطِ كَلامِه، ويَشُحُّ باليسيرِ من مالِه؛ حِفظًا له وضَنًّا به، ولا يرى ما أذاع مِن سِرِّه كبيرًا في جَنبِ ما حَفِظَه من يَسيرِ مالِه، مع عِظَمِ الضَّرَرِ الدَّاخِلِ عليه. فمِن أجْلِ ذلك كان أُمَناءُ الأسرارِ أشَدَّ تعَذُّرًا وأقَلَّ وُجودًا من أُمناءِ الأموالِ، وكان حِفظُ المالِ أيسَرَ من كَتمِ الأسرارِ؛ لأنَّ أحرازَ الأموالِ منيعةٌ، وأحرازَ الأسرارِ بارزةٌ يُذيعُها لِسانٌ ناطِقٌ، ويُشيعُها كلامٌ سابِقٌ) [872] يُنظر: ((أدب الدنيا والدين)) (307-308). .
وممَّا قيل في عَدَمِ إفشاءِ الإنسانِ لأسرارِه:
صَدْرُك أوسَعُ لسِرِّك، أي: فلا تُفْشِه إلى أحَدٍ. ومنه قَولُ أكثَمَ بنِ صَيفيٍّ:
لا تُفْشِ سِرَّكَ إلى أَمَة، ولا تَبُلْ على أَكَمَة.
وقيل: سِرُّك مِن دَمِك. يقالُ: ربَّما أفشيتَه فيكونُ سَبَبَ حَتْفِك [873] يُنظر: ((الأمثال)) لابن سلام (ص: 57). .
- ويُروى: (أصبَرُ النَّاسِ مَن لا يُفشي سِرَّه إلى صديقِه مخافةَ التَّقَلُّبِ يومًا ما) [874] يُنظر: ((غذاء الألباب)) للسفاريني (1/117). .
- وقال بعضُ الحُكَماءِ: (من أفشى سِرَّه كَثُر عليه المتآمِرون) [875] يُنظر: ((تسهيل النظر وتعجيل الظفر)) للماوردي (ص: 93). .
- وقال بعضُ الحُكَماءِ: (لا تُطلِعْ واحِدًا مِن سِرِّك إلَّا بقَدْرِ ما لا تجِدُ فيه بُدًّا من معاونتِك) [876] يُنظر: ((الحيوان)) للجاحظ (5/101). .
2- صِفاتُ مَن يُفشي سِرَّ نَفسِه:
قال الماوَرْديُّ: (وفي الاسترسالِ بإبداءِ السِّرِّ دلائِلُ على ثلاثةِ أحوالٍ مَذمومةٍ:
إحداها: ضِيقُ الصَّدْرِ، وقِلَّةُ الصَّبرِ، حتَّى إنَّه لم يتَّسِعْ لسِرٍّ، ولم يَقدِرْ على صَبرٍ.
والثَّانيةُ: الغَفلةُ عن تحذُّرِ العُقَلاءِ، والسَّهوُ عن يقَظةِ الأذكياءِ. وقد قال بعضُ الحُكَماءِ: انفرِدْ بسِرِّك ولا تودِعْه حازِمًا فيَزِلَّ، ولا جاهِلًا فيَخونَ.
والثَّالِثةُ: ما ارتكَبَه من الغَدْرِ، واستعمَلَه من الخَطَرِ. وقال بعضُ الحُكَماءِ: سِرُّك مِن دَمِك، فإذا تكَلَّمْتَ به فقد أرَقْتَه) [877] يُنظر: ((أدب الدنيا والدين)) (ص: 307). .
3- أكثَرُ مَن يُذيعُ السِّرَّ:
قال الجاحِظُ: (وأكثَرُ ما يُذيعُ أسرارَ النَّاسِ أهلوهم وعَبيدُهم، وحاشِيَتُهم وصِبيانُهم، ومَن لهم عليهم اليَدُ والسُّلطانُ؛ فالسِّرُّ الذي يُودِعُه خليفةٌ في عامِلٍ له يَلحَقُه زَينُه وشَينُه، أحرى ألَّا يَكتُمَه، وهذا سبيلُ كُلِّ سِرٍّ يَستَودِعُه الجِلَّةُ والعُظَماءُ، ومَن لا تبلُغُه العقوبةُ ولا تَلحَقُه اللَّائِمةُ.
وقال سُلَيمانُ بنُ داودَ في حِكمتِه: لِيَكُنْ أصدقاؤك كثيرًا، وصاحِبُ سِرِّك واحِدًا من ألفٍ) [878] يُنظر: ((الرسائل الأدبية)) (95-96). .
وقد قيل: (أكثَرُ ما يُستَنزَلُ الإنسانُ عن سِرِّه في ثلاثةِ مواضِعَ: عِندَ الاضطِجاعِ على فِراشِه، وعندَ خُلُوِّه بعِرْسِه، وفي حالِ سُكْرِه) [879] ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص: 213). .
4- أكثَرُ الأمورِ عُرضةً لإفشاءِ السِّرِّ:
وإفشاءُ السِّرِّ إنَّما يُوكَلُ بالخبَرِ الرَّائِعِ، والخَطْبِ الجَليلِ، والدَّفينِ المغمورِ، والأشنَعِ الأبلَقِ، مِثلُ سِرِّ الأديانِ لغَلَبةِ الهوى عليها، وتضاغُنِ أهلِها بالاختِلافِ والتَّضادِّ، والوَلايةِ والعداوةِ. ومِثلُ سِرِّ الملوكِ في كَيدِ أعدائِهم ومَكْنونِ شَهَواتِهم ومستورِ تدبيراتِهم، ثمَّ مَن يليهم مِنَ العُظَماءِ والجِلَّةِ؛ لنفاسةِ الملوكِ على العوامِّ، وأنَّهم سماءٌ مُظِلَّةٌ عليهم، أعيُنُهم إليها ساميةٌ، وقلوبُهم بها مُعَلَّقةٌ، ورَغَباتُهم ورَهَباتُهم إليها مصروفةٌ، ثمَّ عداواتُ الإخوانِ، فإنَّما صارت العداوةُ بَعدَ المودَّةِ أشَدَّ لاطِّلاعِ الصَّديقِ على سِرِّ صديقِه، وإحصائِه معايبِه، وربَّما كان في حالِ الصَّداقةِ يجمَعُ عليه السَّقَطاتِ، ويُحصي العُيوبَ، ويحتَفِظُ بالرِّقاعِ؛ إرصادًا ليومِ النَّبْوَةِ [880] أي: الجَفْوَة. يُنظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (40/ 8). ، وإعدادًا لحالِ الصَّريمةِ [881] يُنظر: ((الرسائل الأدبية)) للجاحظ (ص: 100). الصَّريمةُ: القَطيعةُ يقالُ: صَرَم فُلانًا صَرْمًا: قَطَع كَلامَه. يُنظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (32/ 497)، ((المعجم الوسيط)) (1/ 514). .

انظر أيضا: