موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- من السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ


حذَّرت السُّنَّةُ الشَّريفةُ من الإفراطِ بكافَّةِ صُوَرِه وأشكالِه، ولو كان دافِعُ صاحِبِه إليه حَسَنًا؛ فالإفراطُ لا يُقرِّبُ صاحبَه إلى مقصودِه بقَدرِ ما يُبعدُه عنه، وعالجَت السُّنَّةُ المطَهَّرةُ الأفكارَ والأقوالَ والأفعالَ التي تتعارَضُ مع وسطيَّةِ الدِّينِ واعتدالِه، ونصوصُ السُّنَّةِ في ذلك كثيرةٌ.
- عن عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: ))قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هَلَك المتنَطِّعون. قالها ثلاثًا( [688] أخرجه مسلم (2670). .
قال النَّوويُّ: («هَلَك المتنَطِّعون» أي: المتعَمِّقون الغالون المجاوِزون الحدودَ في أقوالِهم وأفعالِهم) [689] ((شرح النووي على مسلم)) (16/220). .
وقال ابنُ هُبَيرةَ: (التَّنَطُّعُ هو التَّعمُّقُ والتَّدقيقُ في الأشياءِ؛ فإنَّ الهَلَكةَ مقرونةٌ به، وهو ممَّا يقرؤُه الجُهَّالُ على غيرِ أصلِ الشَّريعةِ على نحوِ ما ابتدَعه النَّصارى من الرَّهبانيَّةِ التي لم تُكتَبْ عليهم، وإنَّما هم الذين ابتدَعوها ابتغاءَ رِضوانِ اللَّهِ، فما رعَوها حقَّ رعايتِها؛ ولذلك كُلُّ من ابتدَع في الدِّينِ شيئًا أو دقَّق على عبادِ اللَّهِ وعَمَّق ممَّا لم يأذَنْ به اللَّهُ ولم يَشرَعْه رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهو الهالِكُ المحتَقِبُ [690] يقال: احتَقَب فلانٌ الإثمَ: جَمَعه. واحتَقَب خَيرًا أو شَرًّا، واستحقبه: احتمَله وادَّخَره. يُنظَر: ((أساس البلاغة)) للزمخشري (1/ 202)، ((تاج العروس)) للزبيدي (2/ 300). وِزْرَ كُلِّ مَن أهلَكه بتنَطُّعِه) [691] ((الإفصاح)) (2/99، 100). .
- وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إيَّاكم والغُلُوَّ في الدِّينِ؛ فإنَّما هلَك مَن كان قبلَكم بالغُلُوِّ في الدِّينِ)) [692] أخرجه مطوَّلًا: النسائي (3057)، وابن ماجه (3029) باختلاف يسير، وأحمد (1851) واللفظ له. صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (3871)، وابن عبد البر في ((التمهيد)) (24/428)، وابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/327)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (1/231)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (3057). .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (وهذا عامٌّ في جميعِ أنواعِ الغُلُوِّ في الاعتقاداتِ والأعمالِ، ثمَّ علَّله بما يقتضي أنَّ مجانبةَ هَدْيِهم مُطلقًا أبعدُ عن الوُقوعِ فيما هلكوا به، وأنَّ المُشارِكَ لهم في بعضِ هَدْيِهم يُخافُ عليه من الهلاكِ) [693] يُنظَر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 328، 329). .
وقال المُناويُّ: («إيَّاكم والغُلُوَّ في الدِّينِ» أي: التَّشدُّدَ فيه ومجاوزةَ الحَدِّ والبَحثَ عن الغوامِضِ؛ «فإنَّما هلَك مَن كان قَبلَكم» من الأمَمِ «بالغُلُوِّ في الدِّينِ»، والسَّعيدُ مَن اتَّعَظ بغيرِه) [694] ((التيسير)) (1/404). .
- وعن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال: ((دخل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فإذا حَبلٌ ممدودٌ بَيْنَ السَّاريتَينِ، فقال: ما هذا الحَبلُ؟! قالوا: هذا حَبلٌ لزَينبَ، فإذا فتَرَت تعَلَّقَت، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا، حُلُّوه، ليُصَلِّ أحَدُكم نشاطَه، فإذا فتَرَ فلْيقعُدْ)) [695] أخرجه البخاري (1150) واللفظ له، ومسلم (784). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (فيه الحَثُّ على الاقتصادِ في العبادةِ، والنَّهيُ عن التَّعمُّقِ فيها، والأمرُ بالإقبالِ عليها بنشاطٍ) [696] ((فتح الباري)) (3/ 37). .
- وعن عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها، قالت: ((كانت عندي امرأةٌ من بني أسَدٍ، فدخل عليَّ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: مَن هذه؟ قلتُ: فُلانةُ، لا تنامُ باللَّيلِ، فذَكَر من صلاتِها، فقال: مَهْ [697] أي: اكففْ. يُنظَر: ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) للعيني (1/ 256). ، عليكم ما تطيقونَ من الأعمالِ؛ فإنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حتَّى تَمَلُّوا)) [698] أخرجه البخاري (1151) واللفظ له، ومسلم (785). .
قال العَينيُّ: (فيه: الاقتِصادُ في العبادةِ والحَثُّ عليه. وفيه: النَّهيُ عن التَّعمُّقِ. وقال تعالى: لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء: 171] ، واللَّهُ أرحَمُ بالعبدِ من نفسِه، وإنَّما كَرِه التَّشديدَ في العبادةِ خَشيةَ الفُتورِ والمَلالةِ) [699] ((عمدة القاري)) (7/ 209). .
وقوله: («عليكم ما تُطيقون» أي: اشتَغِلوا من الأعمالِ بما تستطيعونَ المداومةَ عليه، فمَنطوقُه يقتضي الأمرَ بالاقتصارِ على ما يطاقُ من العبادةِ، ومفهومُه يقتضي النَّهيَ عن تكَلُّفِ ما لا يُطاقُ) [700] ((ذخيرة العقبى في شرح المجتبى)) (17/ 368). .
- وعن بُرَيدةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: ((خرجتُ ذاتَ يومٍ لحاجةٍ، فإذا أنا بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يمشي بَيْنَ يدَيَّ، فأخذ بيدِي فانطلَقْنا نمشي جميعًا، فإذا نحن بَيْنَ أيدينا برَجُلٍ يصلِّي يُكثِرُ الرُّكوعَ والسُّجودَ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أتُراه يرائي؟ فقُلتُ: اللَّهُ ورسولُه أعلَمُ. فتَرَك يدي من يَدِه، ثمَّ جمَع بَيْنَ يدَيه، فجَعَل يُصَوِّبُهما ويرفَعُهما ويقولُ: عليكم هَدْيًا قاصِدًا، عليكم هَدْيًا قاصِدًا، عليكم هَدْيًا قاصِدًا؛ فإنَّه مَن يشادَّ هذا الدِّينَ يَغلِبْه)) [701] أخرجه أحمد (22963) واللفظ له، وابن خزيمة (1179)، والحاكم (1176). صحَّحه البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (1/112)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (4986)، وصحَّح إسنادَه الحاكم، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22963). .
قال السِّنديُّ: (لا يُقابِلُ الدِّينَ أحَدٌ بالشِّدَّةِ ولا يُجرى بَيْنَ الدِّينِ وبينَه معاملةٌ بأن يُشَدِّدَ كُلٌّ منهما على صاحِبِه إلَّا غلَبه الدِّينُ، والمرادُ أنَّه لا يُفرِطْ أحدٌ فيه ولا يخرُجْ عن حَدِّ الاعتدالِ) [702] ((حاشية السندي على سنن النسائي)) (8/ 122). .

انظر أيضا: