موسوعة الأخلاق والسلوك

ج- الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم القُدوةُ في الأمانةِ


أشهَرُ وأعظَمُ من اتَّصَف بالأمانةِ هو نبيُّنا محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قَبلَ البعثةِ وبَعدَها.
أمَّا أمانتُه قبلَ البَعثةِ: فقد عُرِف بَينَ قومِه قَبلَ بَعثتِه بالأمينِ ولُقِّبَ به.
قال محمود سامي الباروديُّ:
ولقَّبَتْه قُرَيشٌ بالأمينِ على
صِدقِ الأمانةِ والإيفاءِ بالذِّمَمِ [884] ((كشف الغمة)) (ص: 9).
وقال أحمد شوقي:
بسِوى الأمانةِ في الصِّبا والصِّدقِ لم
يَعرِفْه أهلُ الصِّدقِ والأُمَناءُ [885] ((الأعمال الكاملة لأحمد شوقي)) (1/ 35).
وقال أيضًا:
يا جاهِلين على الهادي ودَعوتِه
هل تجهَلون مكانَ الصَّادِقِ العَلَمِ
لقَّبْتُموه أمينَ القومِ في صِغَرٍ
وما الأمينُ على قولٍ بمُتَّهَمِ [886] ((ديوان أحمد شوقي)) (1/ 197).
ولقد كان من أسبابِ زواجِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخديجةَ رَضِيَ اللهُ عنها شُهرتُه بالأمانةِ؛ فقد تاجَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مالِ خديجةَ قَبلَ البعثةِ، ورأت منه الصِّدقَ والأمانةَ؛ يقولُ ابنُ الأثيرِ في هذا الصَّدَدِ: (فلمَّا بلغَها -أي: خديجةَ- عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صِدقُ الحديثِ، وعظيمُ الأمانةِ، وكرَمُ الأخلاقِ؛ أرسَلَت إليه ليَخرُجَ في مالِها إلى الشَّامِ تاجِرًا) [887] ((الكامل)) (2/26)، ويُنظَر: ((السيرة النبوية)) لابن هشام (1/139). ، ثمَّ تزوجَّها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعدَ ذلك.
والمواقِفُ التي تدُلُّ على أمانتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَبلَ البعثةِ كثيرةٌ.
ولشُهرتِه بالأمانةِ كانت قُرَيشٌ تستودِعُه أموالَها ثقةً به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع إصرارِها على الكُفرِ؛ لذا يذكُرُ أصحابُ السِّيَرِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا خرج للهجرةِ أمرَ عليًّا أن يتخَلَّفَ بمكَّةَ حتَّى يؤدِّيَ عنه الودائِعَ التي كانت عندَه للنَّاسِ، (وكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليس بمكَّةَ أحَدٌ عِندَه شيءٌ يخشى عليه إلَّا وضعه عندَه؛ لِما يعلَمُ مِن صِدقِه وأمانتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [888] ((السيرة النبوية)) لابن هشام (3/ 11). .
أمَّا أمانتُه بَعدَ البَعثةِ: فقد أدَّى الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الأمانةَ الكُبرى -التي تكفَّل بها، وهي الرِّسالةُ- أعظَمَ ما يكونُ الأداءُ، وتحمَّل في سبيلِها أعظَمَ أنواعِ المشقَّةِ [889] يُنظَر: ((الأخلاق الإسلامية)) لحسن المرسي (ص: 173). .
وقد شَهِدت له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَّتُه بتبليغِه، وأدائِه الأمانةَ، واستنطقَهم بذلك في أعظَمِ المحافِلِ في خُطبتِه يومَ عَرَفةَ في حَجَّةِ الوداعِ، وقد كان هناك من أصحابِه نحوُ أربعين ألفًا أو أكثَرُ، فقد أخرج مسلمٌ في "صحيحِه" من حديثِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عنهما- الطَّويلِ، وفيه: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((وأنتم تُسأَلون عنِّي، فما أنتم قائِلون؟ قالوا: نَشهَدُ أنَّك قد بلَّغْتَ وأدَّيتَ ونصَحْتَ، فقال بإصبَعِه السَّبَّابةِ، يرفَعُها إلى السَّماءِ ويَنكُتُها إلى النَّاسِ: اللَّهُمَّ اشهَدْ، اللَّهُمَّ اشهَدْ، ثلاثَ مَرَّاتٍ)) [890] أخرجه مسلم (1218). .
وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((كان على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثوبانِ قِطْرِيَّانِ [891] القَطْرُ -بفتحِ القافِ وكسرِها-: نوعٌ من البُرودِ فيه حُمرةٌ، والقَطرُ: مَوضِعٌ بَينَ عُمانَ وسِيفِ البحرِ، وسِيفِ السَّاحِلِ، فنُسِبَ الثَّوبُ إليه. يُنظَر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (5/ 24). غليظانِ، فكان إذا قعَد فعَرِق ثَقُلا عليه، فقَدِم بَزٌّ من الشَّامِ لفلانٍ اليهوديِّ، فقُلتُ: لو بعَثْتَ إليه، فاشتَرَيتَ منه ثوبينِ إلى الميسَرةِ، فأرسَلَ إليه، فقال: قد عَلِمْتُ ما يريدُ، إنما يريدُ أن يذهَبَ بمالي أو دراهمي! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كَذَبَ! قد عَلِمَ أنِّي مِن أتقاهم للهِ، وآداهم للأمانةِ)) [892] أخرجه الترمذي (1213) واللفظ له، والنسائي (4628)، وأحمد (25141). .
أي: أشَدُّهم أداءً (للأمانةِ)، وأقضاهم للدَّينِ على ما يقتَضيه الدينُ [893] ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للقاري (7/ 2789). .
وقد شَهِد له بالأمانةِ حتَّى أعداؤه، ومن الأمثلةِ على ذلك: ما جاء في حِوارِ أبي سفيانَ -وذلك قبلَ إسلامِه- وهِرَقْلَ؛ حيثُ قال هِرَقْلُ: (سألتُك: ماذا يأمُرُكم؟ فزعَمْتَ أنَّه أمَركم بالصَّلاةِ والصِّدقِ، والعَفافِ والوفاءِ بالعهدِ وأداءِ الأمانةِ، قال: وهذه صِفةُ نَبيٍّ) [894] أخرجه البخاري (2681)، ومسلم (1773). ... وفي موضِعٍ آخَرَ يقولُ هِرَقْلُ: (وسألتُك: هل يَغدِرُ؟ فزعَمْتَ أنْ لا، وكذلك الرُّسُلُ لا يَغْدِرون) [895] أخرجه البخاري (2941). .

انظر أيضا: