موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- من السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ


1- عن عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: (أخبرني أبو سفيانَ أنَّ هِرَقْلَ قال له: سألتُك ماذا يأمُرُكم -يعني النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- فزعَمْتَ أنَّه أمَركم بالصَّلاةِ والصِّدقِ والعَفافِ، والوَفاءِ بالعَهدِ وأداءِ الأمانةِ. قال: وهذه صِفةُ نبيٍّ) [817] أخرجه البخاري (2681) واللفظ له، ومسلم (1773) مطوَّلًا باختلافٍ يسيرٍ. . فمن صِفاتِ الأنبياءِ الأمانةُ وعَدَمُ الخيانةِ، وقد قال اللهُ تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران: 161] ، فنفى اللهُ عزَّ وجَلَّ بذلك أن يكونَ الغُلولُ والخيانةُ من صفاتِ أنبيائِه؛ لأنَّ ذلك جُرمٌ عظيمٌ، والأنبياءُ لا تأتي مِثلَه [818] يُنظَر ((جامع البيان)) للطبري (6/ 200). .
2- وعن أبي هُرَيرةَ قال: ((بينَما النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مَجلِسٍ يُحدِّثُ القَومَ، جاءَه أعرابيٌّ فقال: مَتى السَّاعةُ؟ فمَضى رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُحدِّثُ، فقال بَعضُ القَومِ: سَمعَ ما قال فكَرِهَ ما قال. وقال بَعضُهم: بل لم يَسمَعْ. حَتَّى إذا قَضى حَديثَه، قال أينَ السَّائِلُ عَنِ السَّاعةِ؟ قال: ها أنا يا رَسولَ اللهِ، قال: فإذا ضُيِّعَتِ الأمانةُ فانتَظِرِ السَّاعةَ. قال: كيفَ إضاعَتُها؟ قال: إذا وسِّدَ الأمرُ إلى غَيرِ أهلِه فانتَظِرِ السَّاعةَ)) [819] أخرجه البخاري (59). . فقد بَيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ ضياعَ الأمانةِ من علاماتِ اقترابِ قيامِ السَّاعةِ، ثمَّ بَيَّنَ كيفيَّةَ ضياعِها، فقال: ((إذا وُسِّد الأمرُ إلى غيرِ أهلِه))؛ لأنَّ الأئمَّةَ قد ائتمَنهم اللهُ على عبادِه، وفَرَض عليهم النَّصيحةَ لهم، فينبغي لهم توليةُ أهلِ الدِّينِ والأمانةِ والكفايةِ للنَّظرِ في أمرِ الأمَّةِ، فإذا قَلَّدوا غيرَ الأكْفاءِ، واستعملوا من يُعينُهم على الجَورِ والظُّلمِ، فقد ضيَّعوا الأمانةَ التي فرَضها اللهُ عليهم، بل ضيَّعوا أكبَرَ الأمانةِ بإسنادِ الأمرِ إلى غيرِ أهلِه، وهذا التَّضييعُ للأمانةِ من علاماتِ السَّاعةِ، وإنَّما دَلَّ ذلك على دُنُوِّ السَّاعةِ؛ لأنَّ تغيُّرَ الولاةِ وفسادَهم مستلزِمٌ لتغيُّرِ الرَّعيَّةِ، فيكونُ ذلك تضييعًا للأمانةِ في المجتَمَعِ كُلِّه، وهذا إنَّما يكونُ عندَ غَلَبةِ الجَهلِ، وضَعفِ أهلِ الحَقِّ عن القيامِ به، وكُلُّ هذا مِن رَفعِ العِلمِ الذي هو من علاماتِ اقترابِ السَّاعةِ [820] يُنظَر ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (1/ 138)، ((شرح المشكاة)) للطيبي (11/ 3437). .
3- ولبيانِ أهمِّيَّةِ الأمانةِ وعِظَمِ خَطَرِها ورد في حديثِ حُذَيفةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَ عن أحداثِ يومِ القيامةِ، فقال فيها: ((وتُرسَلُ الأمانةُ والرَّحِمُ، فتقومان جنَبَتَيِ الصِّراطِ يمينًا وشِمالًا)) [821] أخرجه مسلم (195). ، أي: تقفانِ في ناحيتَيِ الصِّراطِ، فتُصَوَّران مُشخَّصتَينِ على الصِّفةِ التي يريدُها اللهُ تعالى، والمعنى أنَّ الأمانةَ والرَّحِمَ لعِظَمِ شَأنِهما وفخامةِ ما يلزَمُ العبادَ من رعايةِ حَقِّهما، تُوقَفانِ هناك للأمينِ والخائنِ، والواصِلِ والقاطِعِ، فتُحاجَّانِ عن المحِقِّ، وتَشهدانِ على المُبطِلِ، وإنَّما كان كذلك؛ ليتميَّزَ الأمينُ من الخائِنِ، والواصِلُ من القاطِعِ، على رُؤوسِ الملأِ؛ سُرورًا للأمينِ والواصِلِ، وفضيحةً للخائِنِ والقاطِعِ، فهذا تحريضٌ بليغٌ على رعايتِهما، وحثٌّ تامٌّ على أداءِ حَقَّيهما؛ فإنَّ رعايتَهما سَبَبٌ لمصالِحَ كثيرةٍ، وفوائِدَ عظيمةٍ [822] يُنظَر: ((المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)) للنووي (3/ 72)، ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (5/ 512)، ((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 453). .
4- عن أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الخازِنُ المُسلِمُ الأمينُ الذي يُنفِذُ -ورُبَّما قال: يُعطي- ما أُمِرَ به، فيُعطيه كامِلًا مُوفَّرًا، طَيِّبةً به نَفْسُه، فيَدفَعُه إلى الذي أُمِرَ له به- أحَدُ المتصَدِّقينَ)) [823] أخرجه البخاري (1438)، ومسلم (1023) واللفظ له. .
الخازِنُ: هو الذي يَخزُنُ عندَه المالَ، أي: يَحفَظُ. وقد أثنى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الخازِنِ الأمينِ الذي لا يخونُ في أخذِه وإعطائِه، فيُعطي أمانةَ هذا المالِ بطِيبِ نَفسٍ منه، ويَظهَرُ طِيبُ النَّفسِ من الخازِنِ بعَدَمِ إيذائِه الفقيرَ في إعطائِه، وهو بذلك يكونُ قد أدَّى أمانةَ ما أمره به صاحِبُ المالِ وأذِنَ له فيه مع صِدقِ نيَّتِه، فيُثيبُه اللهُ بذلك بجَعلِه أحَدَ المتصَدِّقين، وله نصيبٌ في الأجرِ والثَّوابِ، وجعَلَه كذلك مع أنَّ المالَ الذي تصدَّق منه ليس مِلكًا له، وإنَّما هو خازِنٌ فقط؛ لأنَّه مُعينٌ على إنفاذِ الحَسَنةِ، ولأنَّه لمَّا كان واليًا على خِزانتِه، وأدَّى حقوقَ النَّاسِ في ولايتِه بطِيبِ نفسٍ منه بما أدَّاه؛ استحَقَّ ذلك التَّكريمَ لأمانتِه [824] يُنظَر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (6/ 455)، ((إكمال المعلم)) للقاضي عياض (3/ 550)، ((شرح أبي داود)) للعيني (6/ 436)، ((الكوكب الوهاج)) محمد الأمين الهرري (12/ 91). .
5- عن حُذَيفةَ بنِ اليمانِ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((حَدَّثنا رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَديثينِ قد رَأيتُ أحَدَهما وأنا أنتَظِرُ الآخَرَ؛ حَدَّثَنا: أنَّ الأمانةَ نَزَلَت في جَذْرِ [825] الجَذرُ: الأصلُ مِن كلِّ شَيءٍ. يُنظَر: ((إكمال المعْلم بفوائد مسلم)) للقاضي عياض (1/448). قُلوبِ الرِّجالِ، ثُمَّ نَزلَ القُرآنُ فعَلِموا مِنَ القُرآنِ وعَلِموا مِنَ السُّنةِ. ثُمَّ حَدَّثَنا عن رَفعِ الأمانةِ، قال: يَنامُ الرَّجُلُ النَّومةَ فتُقبَضُ الأمانةُ من قَلبِه، فيَظَلُّ أثَرُها مِثلَ الوَكْتِ [826] الوَكتُ: أثَرُ الشَّيءِ اليسيرُ، ومنه: بُسرٌ مُوكِتٌ، بكسرِ الكافِ: إذا بدا فيه شيءٌ من الإرطابِ. يُنظَر: ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) لابن الجوزي (1/ 380). ، ثُمَّ يَنامُ النَّومةَ فتُقبَضُ الأمانةُ مِن قَلبِه، فيَظَلُّ أثَرُها مِثلَ المَجْلِ [827] المجْلُ: هو التنفُّطُ الذي يصيرُ في اليدِ من العَمَلِ بفأسٍ أو نحوِها، ويصيرُ كالقُبَّةِ فيه ماءٌ قليلٌ. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (2/169). ، كجَمْرٍ دَحرَجْتَه على رِجْلِكَ فنَفِطَ [828] نَفِط: أي: صار منتَفِطًا، يقالُ: انتَفَط الجُرحُ: إذا وَرِم وامتلأَ ماءً. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (13/39). فتَراه مُنتَبِرًا [829] مُنتبرًا: مرتَفِعًا. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (2/169). وليس فيه شيءٌ -ثُمَّ أخذَ حَصًى فدَحرَجَه على رِجْلِه- فيُصبِحُ النَّاسُ يَتَبايَعونَ لا يَكادُ أحَدٌ يُؤَدِّي الأمانةَ، حَتَّى يُقالَ: إنَّ في بني فُلانٍ رَجُلًا أمينًا! حَتَّى يُقالَ للرَّجُلِ: ما أجلَدَه، ما أظرَفَه، ما أعقَلَه! وما في قَلبِه مِثقالُ حَبَّةٍ من خَردَلٍ من إيمانٍ! ولقد أتى عليَّ زَمانٌ وما أُبالي أيَّكم بايَعْتُ، لَئِن كان مُسلِمًا ليَرُدَّنَّه عليَّ دِينُه، ولئن كان نَصرانيًّا أو يَهوديًّا ليُرَدَّنَّه عليَّ ساعِيه، وأمَّا اليَومَ فما كُنتُ لأبايِعَ منكم إلَّا فُلانًا وفُلانًا)) [830] أخرجه البخاري (6497)، ومسلم (143) واللفظ له. .
وقد حمَل البعضُ الأمانةَ هنا على ظاهِرِ معناها التي هي العهودُ، وحمَلها البعضُ على الإيمانِ، والحقيقةُ أنَّه (لا اختلافَ بَينَ مَن حَمَل الأمانةَ على ظاهِرِ معناها التي هي العهودُ، وبَينَ مَن حَمَلها على الإيمانِ؛ لأنَّ الإيمانَ الحقيقيَّ مُستلزِمٌ للأمانةِ التي هي العهودُ، وكذلك الأمانةُ مُستلزِمةٌ له؛ لأنَّ العهودَ شامِلةٌ لِما بَينَ العبادِ وبَينَ ربِّهم، ولِما يجري بينهم، والحديثُ وإن كان ظاهِرًا في معنى الأمانةِ التي هي العَهدُ؛ فإنَّ حُذَيفةَ رَضِيَ اللهُ عنه إنَّما ساقه لبيانِ فَقدِ الأمانةِ من الأمَّةِ، ورفعِها عنهم، فقَولُه: "ويُصبِحُ النَّاسُ يتبايعون ... إلخ"، وقولُه: "وما أُبالي أيَّكم بايَعتُ ... إلخ"، وقولُه: "فما كنتُ لأبايِعَ إلَّا فلانًا وفلانًا"، كُلُّ هذا ظاهِرٌ في معناها الحقيقيِّ، لكِنَّه لا ينفي شمولَه للعَهدِ الذي بَينَ العبادِ وبَينَ ربِّهم، فيكونُ الخِلافُ في هذا لفظيًّا، والحاصِلُ أنَّ الأمانةَ هي كُلُّ العهودِ التي بَينَ العبادِ وبَينَ رَبِّهم وفيما بَينَهم، فدخل فيها الإيمانُ دُخولًا أوَّليًّا؛ ولذلك قال في الأخيرِ: "وما في قَلبِه مِثقالُ حَبَّةٍ من خردَلٍ من إيمانٍ"؛ إشارةً إلى فقدِها كُلِّيَّةً) [831] يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (13/ 44)، ((البحر المحيط الثجاج)) للإتيوبي (4/ 107). .
وهذا (الحديثُ يُصَوِّرُ انتزاعَ الأمانةِ من القُلوبِ الخائنةِ تَصويرًا محرِجًا؛ فهي كذِكرياتِ الخَيرِ في النُّفوسِ الشِّرِّيرةِ، تمُرُّ بها وليست منها، وقد تترُكُ مِن مَرِّها أثَرًا لاذِعًا، بَيْدَ أنَّها لا تُحيي ضميرًا مات، وأصبح صاحِبُه يَزِنُ النَّاسَ على أساسِ أثَرَتِه وشَهوتِه، غيرَ مُكتَرِثٍ بكُفرٍ أو إيمانٍ!) [832] يُنظَر: ((خلق المسلم)) للغزالي (ص: 47). .

انظر أيضا: