موسوعة الأخلاق والسلوك

أ- من السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ


- عن النَّوَّاسِ بنِ سَمعانَ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((سألتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن البِرِّ والإثمِ، فقال: البِرُّ حُسنُ الخُلُقِ، والإثمُ ما حاك في صَدرِك، وكَرِهتَ أن يطَّلِعَ عليه النَّاسُ)) [9425] أخرجه مسلم (2553). .
قال النَّوويُّ: (معنى "حاك في صَدرِك" أي: تحرَّك فيه وتردَّد ولم ينشَرِحْ له الصَّدرُ، وحصَل في القلبِ منه الشَّكُّ وخَوفُ كونِه ذنبًا) [9426] ((شرح النووي على مسلم)) (16/ 111). .
وقال ابنُ عُثَيمين: (أمَّا الإثمُ فهو أنَّ الإنسانَ يتردَّدُ في الشَّيءِ، ويشُكُّ فيه، ولا ترتاحُ له نفسُه، وهذا فيمن نفسُه مطمَئِنَّةٌ راضيةٌ بشرعِ اللهِ، وأمَّا أهلُ الفُسوقِ والفُجورِ فإنَّهم لا يتردَّدون في الآثامِ، تجِدُ الإنسانَ منهم يفعَلُ المعصيةَ مُنشرِحًا بها صَدرُه والعياذُ باللهِ، لا يبالي بذلك، لكِنَّ صاحِبَ الخيرِ الذي وُفِّق للبرِّ هو الذي يتردَّدُ الشَّيءُ في نفسِه، ولا تطمَئِنُّ إليه، ويحيك في صدرِه، فهذا هو الإثمُ، وموقِفُ الإنسانِ من هذا أن يدَعَه، وأن يتركَه إلى شيءٍ تطمَئِنُّ إليه نفسُه، ولا يكونُ في صَدرِه حَرَجٌ منه، وهذا هو الوَرَعُ) [9427] ((شرح رياض الصالحين)) (3/498-499). .
- وعن الحسَنِ بنِ علي رَضِيَ اللهُ عنهما قال: حَفِظتُ من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك؛ فإنَّ الصِّدقَ طُمَأنينةٌ، وإنَّ الكَذِبَ ريبةٌ)) [9428] أخرجه الترمذي (2518)، وأحمد (1723) واللفظ لهما، والنسائي (5711) مختصرًا. صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (722)، وابن الملقن في ((شرح البخاري)) (14/42). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (قولُه: "يَريبُك". بفتحِ أوَّلِه، ويجوزُ الضَّمُّ، يقال: رابه يَريبُه بالفتح، وأرابه يُريبُه بالضَّمِّ، ريبةً، وهي الشَّكُّ والتَّردُّدُ، والمعنى: إذا شكَكْتَ في شيءٍ فدَعْه، وتَركُ ما يُشَكُّ فيه أصلٌ عظيمٌ في الوَرَعِ... قال الخطَّابيُّ: كُلُّ ما شكَكْتَ فيه، فالوَرَعُ اجتنابُه) [9429] ((فتح الباري)) (5/52). .
- وعن النَّعمان بن بشير رَضِيَ اللهُ عنهما: قال: سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((الحلالُ بَيِّنٌ والحرامُ بَيِّنٌ، وبَيْنَهما مُشَبَّهاتٌ لا يعلَمُها كثيرٌ من النَّاسِ، فمن اتَّقى المشَبَّهاتِ استبرأ لدينِه وعرضِه، ومن وقَع في الشُّبُهاتِ كراعٍ يرعى حولَ الِحمى، يوشِكُ أن يواقِعَه، ألا وإنَّ لكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا إنَّ حِمى اللهِ في أرضِه محارِمُه، ألا وإنَّ في الجسَدِ مُضغةً إذا صلَحَت صلَحَ الجسَدُ كُلُّه، وإذا فسَدَت فسَد الجَسَدُ كُلُّه، ألا وهي القَلبُ)) [9430] رواه البخاري (52) واللفظ له، ومسلم (1599). .
قال الخطَّابيُّ: (هذا الحديثُ أصلٌ في الوَرَعِ، وفيما يلزَمُ الإنسانَ اجتنابُه من الشُّبهةِ والرَّيبِ) [9431] ((معالم السنن)) (3/ 56). .
وقال ابنُ رجَبٍ: (هذا الحديثُ حديثٌ عظيمٌ، وهو أحدُ الأحاديثِ التي مدارُ الدِّينِ عليها، وقد قيل: إنَّه ثلُثُ العلمِ أو ربُعُه... ومعنى الحديثِ: أنَّ اللهَ أنزل كتابَه، وبيَّن فيه حلالَه وحرامَه، وبيَّن النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأمَّتِه ما خفي من دلالةِ الكتابِ على التَّحليلِ والتَّحريمِ، فصَرَّح بتحريمِ أشياءَ غيرِ مصَرَّحٍ بها في الكتابِ، وإن كانت عامَّتُها مستنبَطةً من الكتابِ وراجعةً إليه؛ فصار الحلالُ والحرامُ على قسمينِ:
أحدُهما: ما هو واضحٌ لا خفاءَ به على عمومِ الأمَّةِ؛ لاستفاضتِه بَيْنَهم وانتشارِه فيهم، ولا يكادُ يخفى إلَّا على من نشأ بباديةٍ بعيدةٍ عن دارِ الإسلامِ؛ فهذا هو الحلالُ البَيِّنُ والحرامُ البَيِّنُ. ومنه: ما تحليلُه وتحريمُه لعينِه؛ كالطَّيِّباتِ من المطاعِمِ والمشارِبِ والملابسِ والمناكِحِ، والخبائِثِ من ذلك كُلِّه. ومنه: ما تحليلُه وتحريمُه من جِهةِ كَسْبِه؛ كالبيعِ، والنِّكاحِ، والهِبةِ، والهَدِيَّةِ، وكالرِّبا، والقِمارِ، والزِّنا، والسَّرِقةِ، والغَصبِ، والخيانةِ، وغيرِ ذلك.
القسمُ الثَّاني: ما لم ينتَشِرْ تحريمُه وتحليلُه في عمومِ الأمَّةِ؛ لخفاءِ دلالةِ النَّصِّ عليه، ووقوعِ تنازُعِ العُلَماءِ فيه ونحوِ ذلك، فيشتَبِهُ على كثيرٍ من النَّاسِ: هل هو من الحلالِ أو من الحرامِ؟ وأمَّا خواصُّ أهلِ العلمِ الرَّاسِخون فيه فلا يشتبهُ عليهم، بل عندَهم من العلمِ الذي اختصُّوا به عن أكثرِ النَّاسِ ما يستَدِلون به على حِلِّ ذلك أو حُرمتِه، فهؤلاء لا يكونُ ذلك مشتَبِهًا عليهم لوضوحِ حُكمِه عندَهم.
أمَّا من لم يَصِلْ إلى ما وصلوا إليه فهو مشتَبِهٌ عليه؛ فهذا الذي اشتبه عليه إن اتقى ما اشتبه عليه حِلُّه وحِرْمُه، واجتَنَبه فقد استبرأ لدينِه وعرضِه، بمعنى أنَّه طلب لهما البراءةَ ممَّا يشينُهما، وهذا معنى الحديثِ الآخَرِ: ((دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك)) [9432]أخرجه الترمذي (2518)، وأحمد (1723) واللفظ لهما، والنسائي (5711) مختصرًا. صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (722)، وابن الملقن في ((شرح البخاري)) (14/42). . وهذا هو الوَرَعُ، وبه يحصُلُ كَمالُ التَّقوى) [9433] ((فتح الباري)) (5/52). .
- وعن جابر بن عبد الله رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أيُّها النَّاسُ، اتَّقوا اللهَ وأجمِلوا في الطَّلَبِ؛ فإنَّ نفسًا لن تموتَ حتَّى تستوفيَ رِزْقَها وإن أبطأَ عنها، فاتَّقوا اللهَ وأجمِلوا في الطَّلَبِ، خُذوا ما حَلَّ، ودَعُوا ما حَرُمَ)) [9434] أخرجه من طرقٍ: ابنُ ماجه (2144) واللفظ له، وابن الجارود في ((المنتقى)) (556)، وابن حبان (3239). صحَّحه ابن حبان، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (2135)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2144). .
قوله ((فاتَّقوا اللهَ وأجمِلوا في الطَّلَبِ)) أي: اطلُبوا الرِّزقَ طَلَبًا رفيقًا، وبيَّن كيفيَّةَ الإجمالِ بقولِه: ((خُذوا ما حلَّ)) لكم تناوُلُه، ((ودَعوا)) اترُكوا ((ما حَرُم)) عليكم أخذُه، ودَعوا أيضًا ما اشتبه عليكم أمرُه من الشُّبُهاتِ، ومدارُ ذلك على اليقينِ؛ فإنَّه إذا عَلِم أنَّ ما قُدِّر له من الرِّزقِ لا بُدَّ منه عَلِم أنَّ طلَبَه لِما لم يُقَدَّرْ عناءٌ، فيقتَصِرُ ويختَصِرُ ويستريحُ [9435] ((التيسير)) للمناوي (1/417)، ((مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه)) للهرري (12/ 365). .
- وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اشترى رجلٌ مِن رجُلٍ عَقَارًا له، فوجَد الرَّجُلُ الذي اشترى العَقَارَ في عَقَارِه جَرَّةً فيها ذَهَبٌ، فقال له الذي اشتَرى العَقَارَ: خُذْ ذهَبَك مِنِّي،؛ إنَّما اشتريتُ منك الأرضَ، ولم أبْتَعْ منك الذَّهَبَ! فقال الذي شَرى الأرضَ: إنَّما بِعتُك الأرضَ وما فيها! فتَحاكما إلى رجُلٍ، فقال الذي تَحاكَما إليه: ألَكُما وَلَدٌ؟ فقال أحدُهما: لي غلامٌ، وقال الآخَرُ: لي جاريةٌ، قال: أنْكِحوا الغُلامَ الجاريةَ، وأنْفِقوا على أنفُسِهما منه، وتَصدَّقا)) [9436] أخرجه البخاري (3472) واللفظ له، ومسلم (1721). .
(في هذا الحديثِ: تورُّعُ البائِعِ والمشتري، وإنصافُ الحاكِمِ بَيْنَهما، وعَدَمُ طمَعِه) [9437] ((تطريز رياض الصالحين)) لفيصل المبارك (ص: 1037). .

انظر أيضا: