موسوعة الأخلاق والسلوك

د- قِصصٌ ونماذِجُ مِن النَّصيحةِ عندَ العُلَماءِ المُتقدِّمينَ


نصيحةُ أبي الوَليدِ الباجي لولدَيه:
لأبي الوَليدِ الباجي نصيحةٌ طويلةٌ لولدَيه، اشتمَلَت على كثيرٍ مِن النَّصائِحِ الفَريدةِ، والحِكَمِ السَّديدةِ، وجوامِعِ الخيرِ، وقد شمِلَت العقيدةَ والعِبادةَ والدَّعوةَ والعلاقاتِ البشريَّةَ والآدابَ والأخلاقَ، وقد جاء في مَطلَعِها: (واعلَما أنْ لا أحدَ أنصَحُ منِّي لكما، ولا أشفَقُ منِّي عليكما، وأنَّه ليس في الأرضِ مَن تطيبُ له نَفسي أن يَفضُلَ عليَّ غَيرُكما، ولا أرفَعُ حالًا في أمرِ الدِّينِ والدُّنيا سِواكما) [9215] ((النصيحة الولدية)) (ص: 9، 10). .
وممَّا جاء فيها: (وأوَّلُ ما أوصيكما به ما أوصى به إبراهيمُ بَنيه ويعقوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة 132]، وأنهاكما عمَّا نهى عنه لُقمانُ ابنَه وهو يعِظُه: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان 13]، وأؤكِّدُ عليكما في ذلك وَصيَّتي، وأُكرِّرُها حِرصًا على تعلُّقِكما وتمسُّكِكما بهذا الدِّينِ الذي تفضَّل اللهُ تعالى علينا به، فلا يستزِلَّكما عنه شيءٌ مِن أمورِ الدُّنيا، وابذُلا دونَه أرواحَكما، فكيف بدُنياكما؛ فإنَّه لا ينفَعُ خيرٌ بَعدَه الخُلودُ في النَّارِ، ولا يضُرُّ ضَيرٌ بَعدَه الخُلودُ في الجنَّةِ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران 85]، فإن مِتُّما على هذا الدِّينِ الذي اصطفاه اللهُ واختاره، وحرَّم ما سِواه؛ فأرجو أن نلتقِيَ حيثُ لا نخافُ فُرقةً، ولا نتوقَّعُ إزالةً) [9216] ((النصيحة الولدية)) (ص: 11). .
نصيحةُ أبي حامِدٍ الغَزاليِّ إلى فَخرِ المُلكِ:
كان مِن نُصحِه رسالةٌ بعَث بها إليه، قال فيها: (اعلَمْ أنَّ هذه المدينةَ «مدينةَ طوسٍ» أصبحَت خرابًا بسببِ المجاعاتِ والظُّلمِ، ولمَّا بلَغ النَّاسَ توجُّهُك مِن أسْفِرائينَ ودامِغنانَ خافوا، وبدأ الفلَّاحونَ يبيعونَ الحُبوبَ، واعتذَر الظَّالِمونَ إلى المظلومينَ، واستسمَحوهم؛ لِما كانوا يتوقَّعونَ مِن إنصافٍ منك، واستطلاعٍ للأحوالِ، ونشاطٍ في الإصلاحِ، أمَا وقد وصلْتَ إلى طوسٍ، ولم يَرَ النَّاسُ شيئًا؛ فقد زال الخوفُ، وعاد الفلَّاحونَ والخبَّازونَ إلى ما كانوا عليه مِن الغلاءِ الفاحِشِ والاحتِكارِ، وتشجَّع الظَّالِمونَ، وكُلُّ مَن يُخبِرُك مِن أخبارِ هذا البلدِ بخِلافِ ذلك، فاعلَمْ أنَّه عدوُّ دينِك...، واعلَمْ يا فَخرَ المُلكِ، أنَّ هذه الكلماتِ لاذِعةٌ مُرَّةٌ قاسيةٌ، لا يجرُؤُ عليها إلَّا مَن قطَع أملَه مِن جميعِ المُلوكِ والأمراءِ، فاقدُرْها قَدرَها؛ فإنَّك لا تسمَعُها مِن غَيري، وكُلُّ مَن يقولُ غَيرَ ذلك فاعلَمْ أنَّ طَمعَه حِجابٌ بَينَه وبَينَ كلمةِ الحقِّ) [9217] ((الإمام الغزالي حجة الإسلام ومجدد المائة الخامسة)) لصالح أحمد الشامي (ص: 220، 221). .
نصيحةُ ابنِ الجَوزيِّ:
قال ابنُ الجَوزيِّ: (بالَغْتُ في وَعظِ أميرِ المُؤمِنينَ، فممَّا حكَيتُ له: أنَّ الرَّشيدَ قال لشَيبانَ: عِظْني، فقال: يا أميرَ المُؤمِنينَ، لأَنْ تصحَبَ مَن يُخوِّفُك حتَّى يُدرِكَك الأمنُ خيرٌ لك مِن أن تصحَبَ مَن يُؤمِّنُك حتَّى يُدرِكَك الخوفُ. قال الرَّشيدُ: فَسِّرْ لي هذا. قال: مَن يقولُ لك: أنت مسؤولٌ عن الرَّعيةِ فاتَّقِ اللهَ، أنصَحُ لك ممَّن يقولُ: أنتم أهلُ بَيتٍ مَغفورٌ لكم، وأنتم قَرابةُ نبيِّكم. فبكى الرَّشيدُ حتَّى رحِمَه مَن حَولَه. وقلْتُ له في كلامي: يا أميرَ المُؤمِنينَ، إن تكلَّمْتُ خِفْتُ منك، وإن سكتُّ خِفْتُ عليك، فأنا أُقدِّمُ خَوفي عليك لمحبَّتي لك على خَوفي منك) [9218] ((المنتظم)) (18/250). .
- وقال في نصيحةِ وَلدِه: (اعلَمْ يا بُنيَّ وفَّقك اللهُ للصَّوابِ أنَّه لم يُميَّزِ الآدَميُّ بالعقلِ إلَّا ليعمَلَ بمُقتضاه، فاستحضِرْ عَقلَك، وأعمِلْ فِكرَك، واخلُ بنَفسِك؛ تعلَمْ بالدَّليلِ أنَّك مخلوقٌ مُكلَّفٌ، وأنَّ عليك فرائِضَ أنت مُطالَبٌ بها، وأنَّ الملَكَينِ يُحصيانِ ألفاظَك ونَظراتِك، وأنَّ أنفاسَ الحيِّ خُطاه إلى أجَلِه، ومِقدارُ اللُّبثِ في الدُّنيا قليلٌ، والحَبسُ في القُبورِ طويلٌ، والعَذابُ على مُوافَقةِ الهوى وَبيلٌ، فأين لَذَّةُ أمسِ؟! رحلَت وأبقَت نَدمًا، وأين شَهوةُ النَّفسِ؟ نكَّسَت رأسًا وأزلَّت قَدمًا، وما سَعِدَ مَن سعِدَ إلَّا بخِلافِ هواه، ولا شَقِيَ مَن شَقِيَ إلَّا بإيثارِ دُنياه.
فاعتبِرْ بمَن مضى مِن المُلوكِ والزُّهَّادِ، أين لذَّةُ هؤلاء، وأين تَعبُ أولئك؟ بقِي الثَّوابُ الجزيلُ والذِّكرُ الجميلُ للصَّالِحينَ، والمقالةُ القبيحةُ والعِقابُ الوَبيلُ للعاصينَ، وكأنَّه ما جاع مَن جاع، ولا شَبِع مَن شَبِع!) [9219] ((لفتة الكبد إلى نصيحة الولد)) (ص: 42). .
وقال أيضًا: (واجتهِدْ يا بُنيَّ في صيانةِ عِرضِك مِن التَّعرُّضِ لطَلبِ الدُّنيا والذُّلِّ لأهلِها، واقنَعْ تُعَزَّ!) [9220] ((لفتة الكبد إلى نصيحة الولد)) (ص: 81). .
نصيحةُ ابنِ تيميَّةَ لابنِ القيِّمِ:
قال ابنُ القيِّمِ: (وقال لي شيخُ الإسلامِ رضِي اللهُ عنه -وقد جعلْتُ أورِدُ عليه إيرادًا بَعدَ إيرادٍ-: لا تجعَلْ قَلبَك للإيراداتِ والشُّبُهاتِ مِثلَ السَّفِنجةِ، فيتشرَّبَها، فلا ينضَحَ إلَّا بها، ولكن اجعَلْه كالزُّجاجةِ المُصمَتةِ، تمرُّ الشُّبُهاتُ بظاهِرِها ولا تستقِرُّ فيها، فيراها بصَفائِه، ويدفَعُها بصلابتِه، وإلَّا فإذا أشرَبْتَ قَلبَك كُلَّ شُبهةٍ تمُرُّ عليك صار مَقرًّا للشُّبُهاتِ، أو كما قال؛ فما أعلَمُ أنِّي انتفعْتُ بوَصيَّةٍ في دَفعِ الشُّبُهاتِ كانتِفاعي بذلك).
نصيحةُ ابنِ القيِّمِ إلى طائِفةٍ مِن الصُّوفيَّةِ جعَلوا ذِكرَ اللهِ طَنطنةً ومزاميرَ:
قال ابنُ القيِّمِ: لم يزَلْ أنصارُ الإسلامِ وأئمَّةُ الهُدى تصيحُ بهؤلاء مِن أقطارِ الأرضِ، وتُحذِّرُ مِن سُلوكِ سبيلِهم، واقتِفاءِ آثارِهم مِن جميعِ طوائِفِ الملَّةِ
بَرِئْنا إلى اللهِ مِن مَعشَرٍ
بهم مَرضٌ مِن سَماعِ الغِنا
وكم قلْتُ يا قومِ أنتم على
شَفا جُرُفٍ ما بهِ مِن بِنا
شَفا جُرُفٍ تَحتَه هُوَّةٌ
إلى دَرَكٍ كم بهِ مِن عَنا
وتَكرارُ ذا النُّصحِ منَّا لهم
لنُعذَرَ فيهم إلى ربِّنا
فلمَّا استَهانوا بتَنبيهِنا
رجَعْنا إلى اللهِ في أمرِنا
فعِشْنا على سُنَّةِ المُصطفى
وماتوا على تاتَنَا تَنْتَنَا [9221] يُنظَر: ((إغاثة اللهفان)) (1/403). .
نصيحةُ مُحمَّدِ بنِ عبدِ الوهَّابِ إلى إخوانِه مِن أهلِ سَديرٍ:
فقد كتَب لهم رسالةً ناصِحةً تدعوهم لوَحدةِ الصَّفِّ، وتَركِ الاختِلافِ، وممَّا جاء فيها قولُه: (فيجري عندَكم أمورٌ تجري عندَنا مِن سابِقٍ، وننصَحُ إخوانَنا إذا جرى منها شيءٌ حتَّى فهِموها؛ وسَببُها أنَّ بعضَ أهلِ الدِّينِ يُنكِرُ مُنكَرًا وهو مُصيبٌ، لكن يُخطِئُ في تغليظِ الأمرِ إلى شيءٍ يوجِبُ الفُرقةَ بَينَ الإخوانِ، وقد قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 102 - 103]، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبُدوه ولا تُشرِكوا به شيئًا، وأن تعتصِموا بحَبلِ اللهِ جميعًا ولا تفرَّقوا، وأن تُناصِحوا مَن ولَّاه اللهُ أمرَكم)) [9222] أخرجه أحمد (8799) واللفظ له، ومالك (2/990)، وابن حبان (3388). صحَّحه ابن حبان، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (2/197)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (1895)، وصحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (8799). وأصلُه في صحيح مسلم (1715). ، وأهلُ العِلمِ يقولونَ: الذي يأمُرُ بالمعروفِ وينهى عن المُنكَرِ يحتاجُ إلى ثلاثٍ: أن يعرِفَ ما يأمُرُ به وينهى عنه، ويكونَ رَفيقًا فيما يأمُرُ به وينهى عنه، صابِرًا على ما جاء مِن الأذى، وأنتم مُحتاجونَ للحِرصِ على فَهمِ هذا والعَملِ به؛ فإنَّ الخَللَ إنما يدخُلُ على صاحِبِ الدِّينِ مِن قلَّةِ العَملِ بهذا، أو قلَّةِ فَهمِه، وأيضًا يذكُرُ العُلماءُ أنَّ إنكارَ المُنكَرِ إذا صار يحصُلُ بسَببِه افتِراقٌ لم يجُزْ إنكارُه؛ فاللهَ اللهَ في العَملِ بما ذكَرْتُ لكم والتَّفقُّهِ فيه؛ فإنَّكم إن لم تفعَلوا صار إنكارُكم مَضرَّةً على الدِّينِ، والمُسلِمُ ما يسعى إلَّا في صلاحِ دينِه ودُنياه) [9223] ((الرسائل الشخصية)) (ص: 296، 297). .

انظر أيضا: