موسوعة الأخلاق والسلوك

خامسًا: مظاهِرُ وصُوَرُ المُواساةِ


1- المُواساةُ بتأديةِ الزَّكاةِ المفروضةِ، فهي مواساةٌ للفُقراءِ في حاجتِهم، وقد أوجبها اللهُ سُبحانَه على الأغنياءِ في مالِهم؛ سَدًّا لحاجةِ الفقراءِ والمساكينِ.
قال ابنُ القَيِّمِ: (فاقتَضَت حِكمتُه أنْ جَعَل في الأموالِ قَدْرًا يحتَمِلُ المُواساةَ، ولا يُجحِفُ بها، ويكفي المساكينَ، ولا يحتاجون معه إلى شيءٍ، ففَرَض في أموالِ الأغنياءِ ما يكفي الفُقراءَ، فوقَع الظُّلمُ من الطَّائفتَينِ: الغَنيُّ يمنعُ ما وَجَب عليه، والآخِذُ يأخُذُ ما لا يستحِقُّه، فتولَّد من بَيْنِ الطَّائفتينِ ضَرَرٌ عظيمٌ على المساكينِ، وفاقةٌ شديدةٌ أوجبت لهم أنواعَ الحِيَلِ والإلحافَ في المسألةِ، والرَّبُّ سُبحانَه تولَّى قَسمَ الصَّدَقةِ بنَفسِه) [8759] ((زاد المعاد)) (2/8). .
2- المُواساةُ بطعامِ الأضحيَّةِ، خاصَّةً في وقتِ انتِشارِ الفقرِ وزيادةِ الحاجةِ؛ عن سَلَمةَ بنِ الأكوعِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: من ضحَّى منكم فلا يُصبِحَنَّ بعد ثالثةٍ وفي بيتِه منه شيءٌ. فلمَّا كان العامُ المقبِلُ، قالوا: يا رسولَ اللهِ، نفعَلُ كما فعَلْنا عامَ الماضي؟ قال: كُلوا وأطعِموا وادَّخِروا؛ فإنَّ ذلك العامَ كان بالنَّاسِ جَهدٌ، فأردتُ أن تُعينوا فيها)) [8760] أخرجه البخاري (5569) واللفظ له، ومسلم (1974). .
قال ابنُ بطَّالٍ: (للإمامِ والعالِمِ أن يأمُرَ بمِثلِ هذا ويحُضَّ عليه، إذا نزَل بالنَّاسِ حاجةٌ) [8761] ((شرح صحيح البخاري)) (6/31). .
3- المُواساةُ بتحَمُّلِ دَينِ المعسِرِ وأدائِه عنه؛ ((عن عبدِ اللهِ بنِ أبي قتادةَ أنَّ أبا قتادةَ طَلب غريمًا له، فتوارى عنه ثمَّ وجده، فقال: إني مُعسِرٌ، فقال: آللهِ؟ قال: آللهِ، قال: فإني سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: من سَرَّه أن ينجيَه اللهُ مِن كُرَبِ يومِ القيامةِ، فلْيُنَفِّسْ عن مُعسِرٍ، أو يضَعْ عنه)) [8762] أخرجه مسلم (1563). .
4- المُواساةُ بإطعامِ الجائعِ وزيارةِ المريضِ وفَكاكِ الأسيرِ؛ عن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فكُّوا العانيَ -يعني: الأسيرَ- وأطعِموا الجائعَ، وعودوا المريضَ)) [8763] أخرجه البخاري (3046). .
قال ابنُ عُثيمين: (هذه ثلاثةُ أشياءَ أمر بها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ أوَّلًا: عيادةُ المريضِ ... يجبُ على المُسلِمين أن يعودوا مرضاهم، فإذا لم يقُمْ أحدٌ بذلك وجب على من عَلِم بالمريضِ أن يعودَه؛ لأنَّ ذلك من حقِّ المُسلِم على إخوانِه. ثانيًا: «أطعِموا الجائعَ» فإذا وجَدْنا إنسانًا جائعًا وجب علينا جميعًا أن نطعِمَه، وإطعامُه فرضُ كفايةٍ، إذا قام به من يكفي سقَط عن الباقين، فإن لم يقُمْ به أحدٌ تعيَّن على من عَلِم بحالِه أن يطعِمَه، وكذلك أيضًا كِسوةُ العاري، وهو فرضُ كفايةٍ. ثالثًا: قولُه: «فكُّوا العانيَ» يعني الأسيرَ، فكُّوا الأسيرَ الذي عِندَ الكُفَّارِ من الأَسْرِ، فإذا اختطَف الكُفَّارُ رجلًا مُسلِمًا وجب علينا أن نفُكَّ أسرَه، وكذلك لو أسَروه في حربٍ بَيْنَهم وبين المُسلِمين فإنَّه يجبُ علينا أن نفُكَّ أسرَه، وفَكُّ أسرِه فرضُ كفايةٍ أيضًا) [8764] ((شرح رياض الصالحين)) (4/469-470). .
5- المُواساةُ بإشراكِ الآخرينَ في الطَّعامِ، والاجتماعِ عليه؛ عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: طعامُ الواحِدِ يكفي الاثنينِ، وطعامُ الاثنينِ يكفي الأربعةَ، وطعامُ الأربعةِ يكفي الثَّمانيةَ)) [8765] أخرجه مسلم (2059). .
قال النَّوويُّ: (هذا فيه الحثُّ على المُواساةِ في الطَّعامِ، وأنَّه وإن كان قليلًا حَصلت منه الكفايةُ المقصودةُ، ووقعت فيه بركةٌ تعُمُّ الحاضرين عليه. واللهُ أعلمُ) [8766] ((شرح النووي على مسلم)) (14/ 23). .
6- المُواساةُ ببيانِ ما في الصَّبرِ على المصيبةِ من الأجرِ عِندَ اللهِ سُبحانَه، والتَّذكيرِ بنِعَمِ اللهِ، وذِكرِ قِصَصِ الآخَرين؛ ففيها العِظةُ والاعتبارُ والتَّسلِّي في البلوى، فتَرِقُّ القلوبُ، وتنصلحُ النُّفوسُ، وترسَخُ الأقدامُ في المصائِبِ والمحَنِ.
عن خبَّابِ بنِ الأرَتِّ رَضِيَ اللهُ عنه: ((شكَونا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو متوَسِّدٌ بُردةً له في ظِلِّ الكعبةِ، قُلْنا له: ألَا تَسْتَنْصِرُ لنا؟ ألَا تَدْعو اللهَ لنا؟ قال: كان الرَّجلُ فيمَنْ قبلَكم يُحفَرُ له في الأرْضِ، فيُجعَلُ فيهِ، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ على رأسِهِ فيُشَقُّ باثْنتَينِ، وما يصُدُّه ذلك عن دِينِه! ويُمشَطُ بأمْشاطِ الحَديدِ ما دُونَ لَحمِه مِن عظْمٍ أو عَصَبٍ، وما يصُدُّهُ ذلك عن دِينِه! واللهِ لَيُتِمَّنَّ هذا الأمرَ، حتَّى يَسيرَ الرَّاكبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوتَ، لا يَخافُ إلَّا اللهَ أو الذِّئْبَ على غَنَمِه، ولكنَّكم تَستعجِلونَ)) [8767] أخرجه البخاري (3612). .
7- المُواساةُ بالتَّعزيةِ لأهلِ الميِّتِ وتسليتِهم، وتخفيفِ الألمِ الذي أصابهم بفقدِ ميِّتِهم، وذلك بحَملِهم على الصَّبرِ وبيانِ عظيمِ أجرِه، والتَّسلِّي بموتِ الصَّالحين، وهذه من الأمورِ المعنويَّةِ، وكذلك مواساتُهم بإعدادِ الطَّعامِ لهم في ذلك اليومِ؛ لشِدَّةِ ما أتاهم مما يشغَلُهم عن مثلِ ذلك.
عن عبدِ اللهِ بنِ جَعفَرٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اصنَعوا لآلِ جَعفَرٍ طعامًا؛ فإنَّه قد أتاهم أمرٌ شَغَلهم)) [8768] أخرجه أبو داود (3132) واللفظ له، والترمذي (998)، وابن ماجه (1610). صحَّحه الترمذي، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (122)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (5/355). .
8- مواساةُ الأمراءِ رعاياهم، وفي الصَّحيحِ أنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه: كتَبَ إلى عُتبةَ بنِ فَرقَدٍ بأذْرَبيجانَ: (يا عُتبةُ بنَ فَرقَدٍ، إنَّه ليس من كَدِّك ولا كَدِّ أبيك ولا كَدِّ أمِّك، فأشبِعِ المُسلِمين في رِحالِهم ممَّا تَشبَعُ منه في رَحلِك!) [8769] أخرجه مسلم (2069). .
قال: (إشباعُهم ممَّا يشبَعُ منه أميرُهم مواساةٌ في مالِ اللهِ الذي لا يختَصُّ به الأميرُ دونَ المأمورِ، وهي عدلٌ في الإنفاقِ) [8770] ((شجر المعارف والأحوال)) للعز بن عبد السلام (ص: 174). .
9- المُواساةُ بالكَلِمة الطَّيِّبةِ؛ عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((... والكَلِمةُ الطَّيِّبةُ صَدَقةٌ)) [8771] أخرجه البخاري (2989) ومسلم (1009). .
قال ابنُ بطَّالٍ: (الكلامُ الطَّيِّبُ مندوبٌ إليه، وهو من جليلِ أفعالِ البِرِّ؛ لأنَّ النَّبيَّ عليه السَّلامُ جعَله كالصَّدَقةِ بالمالِ، ووَجهُ تشبيهِه عليه السَّلامُ الكَلِمةَ الطَّيِّبةَ بالصَّدَقةِ بالمالِ هو أنَّ الصَّدَقةَ بالمالِ تحيا بها نفسُ المتصَدَّقِ عليه ويفرَحُ بها، والكَلِمةُ الطَّيِّبةُ يفرَحُ بها المُؤمِنُ ويَحسُنُ موقعُها من قلبِه، فاشتَبَها من هذه الجهةِ، ألا ترى أنَّها تُذهِبُ الشَّحناءَ وتُجلِّي السَّخيمةَ) [8772] ((شرح صحيح البخاري)) (9/ 225). .
10- المُواساةُ بقضاءِ الحوائجِ: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن نفَّس عن مُسلِمٍ كُربةً مِن كُرَبِ الدُّنيا نفَّس اللهُ عنه كُربةً مِن كُرَبِ يومِ القيامةِ، ومَن يسَّر على مُعسِرٍ في الدُّنيا يسَّر اللهُ عليه في الدُّنيا والآخِرةِ، ومَن ستَر على مُسلِمٍ في الدُّنيا ستَره اللهُ في الدُّنيا والآخِرةِ، واللهُ في عَونِ العبدِ ما كان العبدُ في عونِ أخيه)) [8773] أخرجه مسلم (2699). . قال النَّوويُّ: (فيه فضلُ قضاءِ حوائجِ المُسلِمين ونفعِهم بما تيسَّر من علمٍ أو مالٍ أو معاونةٍ، أو إشارةٍ بمصلحةٍ، أو نصيحةٍ وغيرِ ذلك) [8774] (شرح النووي على مسلم) (17/21). .
وعن ثابتٍ قال: مرَّ بي الحَسَنُ وأنا معتَكِفٌ، فقال لي: اذهَبْ تَلْقَ فلانًا في حاجةٍ، قال: قلتُ: إني معتَكِفٌ، قال: واللهِ لأن أقضيَ حاجةً لامرئٍ مُسلِمٍ أحَبُّ إليَّ من أن أعتَكِفَ كذا وكذا [8775] ((اصطناع المعروف)) لابن أبي الدنيا (ص: 71) (85). .
وقال الحسَنُ أيضًا: (واللهِ لأن أقضي لامرئٍ مُسلِمٍ حاجةً أحَبُّ إليَّ من أن أصلِّيَ ألفَ رَكعةٍ) [8776] ((اصطناع المعروف)) لابن أبي الدنيا (ص: 72) (86). .
وعن الخليلِ بنِ أحمدَ قال: قال محمَّدُ بنُ واسعٍ: (ما ردَدْتُ أحدًا عن حاجةٍ أقدِرُ على قضائِها ولو كان فيها ذَهابُ مالي) [8777] أخرجه ابن أبي الدنيا في ((اصطناع المعروف)) (125). .
11- المُواساةُ بالدُّعاءِ: فصاحِبُ البلاءِ يحتاجُ إلى دعوةٍ تَكشِفُ هَمَّه وغَمَّه، وتُزيلُ كَرْبَه؛ فعن أمِّ الدَّرداءِ قالت: ((قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: دعوةُ المرءِ المُسلِمِ لأخيه بظَهرِ الغَيبِ مُستجابةٌ، عِندَ رأسِه مَلَكٌ موكَّلٌ كلَّما دعا لأخيه بخَيرٍ قال الملَكُ الموكَّلُ به: آمينَ، ولك بمِثلٍ)) [8778] أخرجه مسلم (2733). .
12- ومِن صُوَرِ المُواساةِ أيضًا المُواساةُ بالمالِ والجاهِ، والبَدَنِ والخِدمةِ، وبالنَّصيحة والإرشادِ، والمُواساةُ بالتَّوجُّعِ [8779] ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 171). .

انظر أيضا: