موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- نماذِجُ مِن كِتمانِ السِّرِّ عِندَ الصَّحابةِ


1- روى البُخاريُّ عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، أنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه حينَ تأيَّمَت بِنتُه حَفصةُ من خُنَيسِ بنِ حُذافةَ السَّهميِّ، وكان من أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد شَهِدَ بَدرًا، توفِّيَ بالمدينةِ، قال عُمَرُ: ((فلَقِيتُ عُثمانَ بنَ عَفَّانَ، فعَرَضتُ عليه حَفصةَ، فقُلتُ: إنْ شِئتَ أنكَحْتُك حَفصةَ بنتَ عُمَرَ، قال: سأنظُرُ في أمري، فلَبِثتُ لياليَ، فقال: قد بدا لي ألَّا أتزوَّجَ يومي هذا! قال عُمَرُ: فلَقِيتُ أبا بكرٍ، فقُلتُ: إنْ شِئتَ أنكَحْتُك حَفصةَ بنتَ عُمَرَ، فصَمَت أبو بكرٍ فلم يرجِعْ إليَّ شَيئًا! فكُنتُ عليه أوجَدَ مِنِّي على عُثمانَ، فلَبِثتُ لياليَ ثمَّ خطَبَها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأنكَحْتُها إيَّاه، فلَقِيَني أبو بكرٍ فقال: لعَلَّك وجَدْتَ عَلَيَّ حينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفصةَ فلم أرجِعْ إليك؟ قُلتُ: نعَمْ، قال: فإنَّه لم يمنَعْني أن أرجِعَ إليك فيما عَرَضْتَ إلَّا أنِّي قد عَلِمتُ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد ذكَرَها، فلم أكُنْ لأفشيَ سِرَّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولو تَرَكها لقَبِلْتُها)) [7931] أخرجه البخاري (4005). .
2- وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((كُنَّ أزواجُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عندَه لم يغادِرْ منهُنَّ واحِدةً، فأقبَلَت فاطِمةُ تمشي ما تخطِئُ مِشيتُها من مِشيةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شيئًا، فلمَّا رآها رحَّب بها، فقال: مرحبًا بابنتي، ثمَّ أجلسَها عن يمينِه أو عن شِمالِه، ثمَّ سارَّها فبَكَت بُكاءً شديدًا، فلمَّا رأى جزَعَها سارَّها الثَّانيةَ فضَحِكَت. فقُلتُ لها: خَصَّك رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن بَيْنِ نِسائِه بالسِّرارِ، ثمَّ أنتِ تبكينَ! فلمَّا قام رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سأَلْتُها: ما قال لكِ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قالت: ما كنتُ أُفشي على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سِرَّه. قالت: فلمَّا توفِّي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قُلتُ: عزَمْتُ عليكِ بما لي عليكِ من الحَقِّ لَمَا حدَّثْتِني ما قال لك رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقالت: أمَّا الآنَ فنَعَمْ، أمَّا حينَ سارَّني في المرَّةِ الأولى فأخبَرَني أنَّ جِبريلَ كان يُعارِضُه القرآنَ في كُلِّ سَنةٍ مرَّةً أو مرَّتينِ، وإنَّه عارَضه الآنَ مرَّتينِ، وإنِّي لا أرى الأجَلَ إلَّا قد اقتَرَب، فاتَّقِي اللهَ واصبِري، فإنَّه نِعْمَ السَّلَفُ أنا لكِ. قالت: فبَكَيتُ بُكائي الذي رأيتِ، فلمَّا رأى جزَعي سارَّني الثَّانيةَ فقال: يا فاطِمةُ، أمَا ترضَينَ أن تكوني سَيِّدةَ نِساءِ المُؤمِنين أو سَيِّدةَ نِساءِ هذه الأمَّةِ؟ قالت: فضَحِكْتُ ضَحِكي الذي رأيتِ)) [7932] أخرجه البخاري (3623)، ومسلم (2450) واللَّفظُ له. ، فقد كتَمَت فاطمةُ رَضِيَ اللهُ عنها ما قاله لها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سِرًّا، وأمسكَتْه ما بدا لها ولم تنشُرْه؛ حتَّى لا تُعَجِّلَ بحُزنِ النَّاسِ بموتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولِما في كلامِه من إخبارِه بأنَّها سَيِّدةُ نِساءِ المُؤمِنين من هذه الأمَّةِ، ثمَّ لَمَّا أقسَمَت عليها عائشةُ بَعدَ وَفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فبدا لفاطمةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ السَّببَ في الكِتمانِ قد زال، فأخبَرَت به [7933] يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (14/ 46، 47)، ((البحر المحيط الثجاج)) للإتيوبي (39/ 204). .
3- وعن ثابِتٍ عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((أتى علَيَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا ألعَبُ مع الغِلمانِ. قال: فسَلَّم علينا، فبعَثَني إلى حاجةٍ، فأبطَأتُ على أمِّي، فلمَّا جِئتُ قالت: ما حبَسَك؟ قلتُ: بعَثَني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لحاجةٍ. قالت: ما حاجتُه؟ قُلتُ: إنَّها سِرٌّ. قالت: لا تُحدِّثَنَّ بسِرِّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحَدًا. قال أنَسٌ: واللهِ لو حدَّثْتُ به أحدًا لحدَّثْتُك يا ثابِتُ)) [7934] أخرجه البخاري (6289) مختصَرًا، ومسلم (2482) واللَّفظُ له. ؛ فقد حَفِظ أنسُ بنُ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه سِرَّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكتَمَه عن أمِّه، ثمَّ ظَلَّ كاتمًا لهذا السِّرِّ حتَّى بعدَ وفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم يخبِرْ به تلميذَه، وهذا ليس من بابِ كِتمانِ العِلمِ ولا كِتمانِ سُنَّةٍ نَبَويَّةٍ؛ فإنَّ السِّرَّ المكتومَ لم يخبِرْ به أنسٌ، فلا نجزِمُ بأنَّه كان عِلمًا أو سُنَّةً، وإنَّما نُسَمِّيه باسمِه، وهو أنَّه سِرٌّ أسَرَّ به النَّبيُّ إلى أنَسٍ، ولو كان فيه عِلمٌ أو لو أراد اللهُ إظهارَه لأظهَرَه، كما أظهَرَ ما دار بَيْنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبَينَ نِسائِه لَمَّا حرَّم على نَفسِه بعضَ ما أحلَّه اللهُ له؛ استِرضاءً لبَعضِ زَوجاتِه [7935] يُنظَر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (9/ 167)، ((الكوكب الوهاج)) محمد الأمين الهرري (24/ 56). .
- وعن عبدِ اللهِ بنِ جَعفَرِ بنِ أبي طالِبٍ قال: ((رَكِب رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم بَغلتَه، وأردَفَني خَلْفَه، وكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم إذا تبَرَّز كان أحَبَّ ما تبَرَّز فيه هَدَفٌ يَستتِرُ به، أو حائِشُ نَخلٍ، فدخَل حائِطًا لرجُلٍ من الأنصارِ، فإذا فيه ناضِحٌ له، فلمَّا رأى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم حَنَّ وذَرَفَت عيناه! فنزَل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم، فمَسَح ذِفْراه [7936] ذِفْرَى البعيرِ: أصلُ أذُنِه، وهما ذِفْرَيانِ. والذِّفْرَى مُؤَنَّثةٌ، وألفُها للتَّأنيثِ أو للإلحاقِ. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/ 161). وسَراتَه [7937] سَراةُ كُلِّ شيءٍ: ظَهرُه وأعلاه. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/ 364). ، فسَكَن، فقال: مَن رَبُّ هذا الجَمَلِ؟ فجاء شابٌّ من الأنصارِ، فقال: أنا، فقال: ألا تتَّقي اللهَ في هذه البهيمةِ التي ملَّكَك اللهُ إيَّاها؟! فإنَّه شكاك إليَّ، وزَعَم أنَّك تُجيعُه وتُدئِبُه، ثمَّ ذهَب رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم في الحائِطِ، فقضى حاجتَه، ثمَّ توضَّأَ، ثمَّ جاء والماءُ يَقطُرُ من لحيتِه على صَدرِه، فأسَرَّ إلَيَّ شيئًا لا أُحَدِّثُ به أحدًا، فحَرَّجْنا عليه أن يحَدِّثَنا، فقال: لا أفشي على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم سِرَّه حتَّى ألقى اللهَ) [7938] أخرجه أبو داود (2549)، وأحمد (1754) واللَّفظُ له. صحَّحه ابنُ حِبَّانَ في ((صحيحه)) (1412)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2549)، وصحَّحه الوادعيُّ على شرط مسلم في ((صحيح دلائل النبوة)) (116)، وصحَّح إسنادَه الحاكمُ في ((المستدرك)) (2485). وقولُه: ((وأردَفَني خَلْفَه، وكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم إذا تبرَّزَ كان أحَبَّ ما تبَرَّزَ فيه هَدَفٌ يستَتِرُ به، أو حائِشُ نَخلٍ)) أصله في صحيح مسلم (342) باختلافٍ يسيرٍ. .
- وكان حُذَيفةُ بنُ اليَمانِ رَضِيَ اللهُ عنهما صاحِبِ سِرِّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فعن عَلقَمةَ قال: (قَدِمتُ الشَّامَ فصَلَّيتُ ركعتَينِ، ثمَّ قُلتُ: اللَّهُمَّ يَسِّرْ لي جليسًا صالحًا، فأتيتُ قومًا فجَلَستُ إليهم، فإذا شَيخٌ قد جاء حتَّى جلس إلى جنبي، قُلتُ: مَن هذا؟ قالوا: أبو الدَّرداءِ، فقُلتُ: إنِّي دعَوتُ اللهَ أن يُيَسِّرَ لي جليسًا صالحًا، فيسَّرَك لي، قال: ممَّن أنت؟ قُلتُ: من أهلِ الكوفةِ، قال: أو ليس عندَكم ابنُ أمِّ عبدٍ؛ صاحِبُ النَّعلينِ والوِسادِ والمِطْهَرةِ [7939] خصَّه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهذه الأشياءِ الثَّلاثةِ: أخْذُ النَّعلينِ إذا جلس مجلِسًا ووَضْعُهما إذا قام من ذلك المجلِسِ، ووَضعُ الوِسادةِ إذا أراد أن ينامَ، وحَملُ المِطْهَرةِ إذا أراد أن يتوضَّأَ. يُنظَر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (6/ 338). ؟ وفيكم الذي أجاره اللهُ من الشَّيطانِ -يعني على لسانِ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أو ليس فيكم صاحِبُ سِرِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذي لا يعلَمُه أحدٌ غيرُه؟) [7940] أخرجه البخاري (3742) واللَّفظُ له، ومسلم (824) مختصَرًا. .
قولُه: (صاحِبُ سِرِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) أراد به حُذَيفةَ؛ فإنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعلَمه أمورًا من أحوالِ المُنافِقين، وأمورًا مِن الذي يجري بَيْنَ هذه الأمَّةِ فيما بَعدَه، وجعَل ذلك سِرًّا بَينَه وبَينَه [7941] ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) للعيني (16/ 237). .  

انظر أيضا: